ما يمكن سرده من نتائج كارثيّة لتأسيس السلطة
الفلسطينية، واختزال القضية الفلسطينية في فكرة الدولة (أي دولة) ليس قليلا، وما يظهر من مراجعات للمسار السياسي الذي أخذت تسعى إليه منظمة التحرير بقيادة القوّة المهيمنة عليها منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، أن الاتفاق يتصاعد إلى درجة تقترب من الإجماع على مأساوية هذا المسار ونتائجه. ويكفي القول إنّها من جهة قلبت الأجندة الفلسطينية إلى صراع داخليّ على السلطة، ومن الجهة الأخرى انحكمت بقوّة
الاحتلال وإرادته وما يستظلّ به من ظروف إقليمية وقوى دوليّة، حتّى صار وجودها واستمرارها معضلة، والتخلّص منها معضلة لا تقلّ عن الأولى.
منذ الفشل المبكّر لمشروع التسوية مع الاحتلال، أي منذ انتهاء الفترة الانتقالية، وانكشاف الحدود الإسرائيلية في تعاطيها مع المطالب الفلسطينية، وانتهاء مفاوضات "كامب ديفيد" عام 2000 بين عرفات وباراك برعاية كلينتون، إلى انفجار الأرض المحتلة، وتحوّل مجال السلطة الفلسطينية إلى قاعدة انطلاق للعمل الجماهيري والمقاوم ضدّ الاحتلال، أي منذ عشرين عاما، والدعوات لحلّ السلطة لا تتوقف، وتعبّر عن نفسها أحيانا باستسهال بالغ. والطريف في ذلك، أنّ أكثر المؤمنين بالمشروع فلسطينيّا ممن دفع نحوه وساهم في تأسيسه ودافع عنه، كرأس قيادة السلطة نفسها، يهدّد بين حين وآخر بحلّها، أو يعلن عن
قرارات مضمونها لو نُفّذت فعلا هو حلّها.
حديث قيادة السلطة عن "تسليم المفاتيح للاحتلال" بعد الإقرار بأنّه "أرخص احتلال في التاريخ"، بفضل من جعله رخيصا طبعا بهذا المشروع، ليس جادّا بكلّ تأكيد، ليس فحسب للتعقيدات التي تعرفها تلك القيادة، ولكن أيضا لأن المشروع بات هدفا في نفسه دون أيّ آمال بتحوّله إلى ما هو أرقى سياسيّا، سوى تلك الدولة اللادولة، التي يَعِد بها ترامب الفلسطينيين، في حال وافقوا على خطّته.
وممّا هو معلوم لكلّ من قرأ خطّة ترامب، إنّ تلك الدولة لا حظّ لها مما للدول إلا الاسم، مع استمرار الأمر الواقع على ما هو عليه الآن حرفيّا، ممّا يعني أن الدولة الاسم أقلّ من أيّ حكم ذاتيّ في الواقع..
ومع ذلك فهذه التهديدات تُعبّر عن يأس عميق من هذا المسار، وعن يأس من إمكان الخروج منه.
فالتهديد بحلّ السلطة يأس من المسار، وانعدام أي فعل في سياق التنفيذ للتهديد دلالة على العجز المطبق، وما دام الأمر كذلك، فلتتحول السلطة في ذاتها، وبمجرد وجودها على ما هي عليه، إلى مكسب. هكذا يتحوّل التفكير لدى نخبة السلطة بمرور الوقت، حتّى تكَرَّس ذلك التفكير، وصار أيديولوجية واقعية وذهنية لتلك النخبة.
ما العمل إذن؟!
صار هذا السؤال يُطرح بكثرة في الآونة الأخيرة، لما يظهر من شلل فلسطيني ترسّخت جذوره، حتّى صارت حركة الفلسطينيين ثقيلة إلى درجة الكساح، ويائسة وعابثة حتّى وإن تحركت. فمشروع التسوية نقْدُه بات سهلا لوضوح نتائجه واعتراف أصحابه بفشله، وإعلانهم المتكرر في الآونة الأخيرة عن الانسحاب من
الاتفاقيات التي وقّعوها مع الاحتلال، بينما خيار المقاومة الذي راكم نفسه على مستوى البنية والقدرات التسليحية في غزّة، لا يبدو مبشّرا بإمكانيات التحوّل القريب إلى سلاح استنزاف للاحتلال، لأنه متورّط بدوره في السلطة كذلك، وغير قادر على الانتقال إلى مواقع أخرى تعزّزه وتشتت جهد الاحتلال.
وإذ كان هذا المآل بسبب السلطة وما تبعها من انقسام، فإنّ التعقيدات الإقليمية والدولية في مجملها ما تزال لا تعمل لصالح الفلسطينيين، هذا فضلا عن الطبيعة الخاصّة للنضال الفلسطيني المحكوم بالجغرافيا الصغيرة وعدد السكّان القليل وانعدام الظهير القريب، ممّا يجعل الاستمرارية بوتيرة واحدة من النضال متعذّرة.
وإذا كان هناك من يستسهل الدعوة لحلّ السلطة، فهناك من يدرك أنّ هذا ليس حلّا، لجملة أسباب، منها ارتباط معايش ملايين الفلسطينيين بالسلطة، أمنا وعملا وتدبريا وإدارة، فهي ليست شركة تُعلن إفلاسها ثم يَحمل موظفوها سيرهم الذاتية وخبراتهم المهنية في اليوم التالي بحثا عن عمل جديد، بل هي مؤسسة تدير شؤون شعب في سياق سياسيّ. ثمّ إنّ الاحتلال طوّر خبرته مع الأمر القائم، بما يمكّنه من إيجاد البديل الأقسى والأصعب على الفلسطينيين. وأخلاقيّا، فإنّ الشعب لم يطلب السلطة، وإنّما ورّطته بها قيادة منظمة التحرير، فلا يجوز تركه فيما وُرِّط فيه واستغرق تفاصيل حياته ليتدبر أمره، هكذا بكلّ سهولة!
يبقى القول بأنْ تُغيّر وظيفة السلطة، مع بقائها مؤسسة إداريّة لا سياسيّة. وهذا الاقتراح، وهو الأوجه، يتطلب بالدرجة الأولى وحدة وطنيّة، لأنّ تغيير الوظيفة يعني حتما مواجهة من نمط ما مع الاحتلال الذي سيسعى للهيمنة على هذه المؤسسة الإدارية وإخضاعها لمصالحه أو تجاوزها وفرض بدائله. والمواجهة تحتاج استعدادا ووحدة مجتمعية وسياسيّة، ولأنّها مؤسسة إداريّة فينبغي أن تحتكم إلى مؤسسة سياسيّة أعلى.
المُقترح أن تكون منظمة التحرر بعد إصلاحها باعتبارها المؤسسة القائمة فعلا، في هذه الحالة فإنّ إصلاحها يقوم على إلغاء الاحتكار والاستئثار وتطويرها لتمثّل جميع الفلسطينيين بلا استثناء.
مفاتيح تنفيذ هذا الاقتراح بيد قيادة مثلث "المنظمة، فتح، السلطة"، وهو الأمر الذي سوف يعيدنا إلى المربع نفسه، لأنّ المشكلة ليست في الأفكار والمقترحات، ولا أنّ محاولة الإجابة على سؤال ما العمل مستحيلة، وإنما المشكلة في سؤال الإرادة! لأنّه ليس من السهل تجاوز الأمر الواقع ولا نخبته القائمة عليه، ولأنّه ليس في مصلحة الفلسطينيين أن تدخل جماهيرهم في مواجهة داخليّة مهما كانت الأسباب والسياقات.
وفي المقابل، فقد تطبّعت تلك النخبة مع الأمر القائم، واعتادت تقديم الخصومة الداخلية على الصراع مع الاحتلال، هذا فضلا عن تمحور الدور والوظيفة في إطار ما هو قائم حتّى لو استمرّ إلى الأبد.
استمرار النضال مع
تعنّت الاحتلال، من شأنه أن يفتح ثغرات في هذا الواقع لصالح التغيير فلسطينيّا، لكن لا ينبغي الاتكال على ذلك، وأفضل الحلول هو التغيّر التدريجي من داخل البنية نفسها بالاستناد إلى وحدة وطنيّة، ولأنّ إرادة من بيدهم مفاتيح هذا التحوّل لا تبدو حاضرة أو قابلة للحضور، فإنّ على بقية الفاعلين الفلسطينيين إظهار مقترحاتهم لمن بيدهم مفاتيح هذا التحوّل، والترويج لها إعلاميّا، ثمّ عليهم أن يجيبوا بدورهم: ماذا يفعلون؟! ما هي خططهم واستراتيجياتهم في أعلى ما يمكن الحديث عنه أي التحرير، أو للتخفيف من مضارّ الأمر القائم في أقل ما يمكن الحديث عنه؟!
تغيير إرادات الآخرين ليس أمرا سهلا، ولكن تعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم ممكن، وتطوير أدوات النضال في كل المواقع ممكن، وإمكانه لا يعني سهولته، وهو ممكن بغض النظر عن إرادات الآخرين، لكن هل من برامج فعليّة تدور في أوساط مجمل الفاعلين الفلسطينيين لأجل ذلك؟! يحتاج الأمر أولا الاقتراب من الواقع والتخفّف من العمل المكتبي، فالنضال أكبر من إدارة المكاتب.
twitter.com/sariorabi