هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعدَ أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقبل أن يدفن، تنادى الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة.
والسَّقيفةُ: بناءٌ مسقوفٌ واسع، له جدران من ثلاث جهات والجهةُ الرابعة مفتوحة؛ ترتفع أرضيتها قليلا عمّا حولها، وسقفها من جذوع الأشجار وجريد النخل غالبا، يجتمع فيها أبناء القبيلة للبحث في قضايا القبيلة، أو للتّواصل الاجتماعي بالسّمر والمؤانسة؛ فهي شبيهة اليوم بالديوانيّات والمضافات المختصّة بالعائلات.
في سقيفةِ بني ساعدة اجتمع الأنصار للبحث في وضع الدَّولة عقب وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفيمن يكون الأمير، وكذلك كان هناك اجتماع مماثل للمهاجرين مع أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
لماذا لم يحدّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخليفة؟
هذا الحراك السّياسي العاجل بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدلّ على أمورَ عدّة من أهمّها:
1. أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يستخلف أحدا من بعده، بل جعل الخلافة أمرا متاحا للنّاس ليختاروا هم مَن يحكمهم، فلم يحدّد طريقة أو شكلا لاختيار الحاكم، بل جعل الأمر خاضعا لإرادة النّاس واحتياجات الواقع المتغيّر.
2. إنّ هذا الحراك العاجل يدلّل على أنَّ المجتمع يملك درجة عالية من الوعي السّياسي؛ وهو نتاج التربيّة النبويّة، وهذا يحمّل القيادات السياسيّة مسؤوليّة تعميم الوعي السّياسي في الأوساط التي يحكمونها أو يديرونها.
3. مسارعةُ الصّحابة لبحث قضيّة الحكم تدلّل على إدراكهم خطورةَ أن تعيش الأمّة فراغا وشغورا في منصب الحاكم والقائد، وهذا ليس متعلّقا بالتّنافس على الحكم كما يحلو للبعض أن يصوّره، بل هو علامة إدراك لأهميّة القضيّة وحرصٍ على إبحار السّفينة بسلاسة، في ظلّ العاصفة الهوجاء التي أحدَثَتها وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
كيف يختارُ الأنصار حاكما منهم دون استشارة المهاجرين؟!
في لقاءِ الأنصار في السّقيفة وصلوا إلى اتّفاق على أن يكون سيّد الخزرج سعد بن عبادة خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تمّ هذا الاختيار دون حضور أحد من المهاجرين.
وإنَّ محاولة تفسير المشهد لا تعني بحال من الأحوال تبريرَه، وفي تفسير هذا المشهد يمكننا القول:
من الطّبيعيّ أن يتبادر إلى أذهان الأنصار بأنّهم هم المعنيّون بقضيّة الخلافة بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ كونهم أهل البلاد الأصلييّن الذين تبوّؤوا الدّار والإيمان من قبلُ واستقبلوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
ومن الطَّبيعيّ أن يستشعروا أنّ ارتباط المهاجرين بالمدينة إنّما هو بسبب وجود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها، وأنّهم بعد وفاته يمكن ببساطة أن يرجعوا إلى مكّة المكرّمة (بلدهم الأصلي) الخاضعة لدولة الإسلام والتي لا يحول بينهم وبين الرّجوع إليها حائل.
وفي النّهاية كان هذا تقديرا قدّروه قبل وصولِ وفد المهاجرين إلى الاجتماع، وفي هكذا مواقف تغدو الاجتهادات السياسيّة مسوّغة ومفهومة، وليست بحاجة إلى تحميلها أكثر مما تحتمل، فهي لا تعدو كونها جزءا من مشهد الحراك السياسي الذي يحصل في أيّ مجتمع عند حدوث الفراغ الدّستوري.
والتّعامل مع الصّحب الكرام بهذا المنطقِ الواقعي الذي لا ينزع إلى المثاليّة والقداسة؛ هو الذي يجعلنا نرى المشهد طبيعيّا في سياقه الزَّمني.
انضمام المهاجرين إلى اجتماع السّقيفة
وصل خبرُ اجتماع السّقيفة إلى المهاجرين الذين كانوا منشغلينَ بقضايا متعلقة بتجهيز ودفن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عندها قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: "يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار"، فانطلقوا، وفي الطّريق لقيهم رجال سألوهم: أين تريدون؟ فقال عمر: "نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار". وحاول البعض ثنيهم عن إكمال طريقهم والالتحاق بالجمع خوفا من حدوث خلاف في هذا الوقت الحرج، غير أنّ عمر رضي الله عنه أصرّ على الاستمرار لشهود الاجتماع والمشاركة فيه.
وفي هذا المشهد دلالاتٌ أهمّها:
1. لم يتّخذ قادة المهاجرين موقفا سلبيّا بعد بلوغ خبر اجتماع الأنصار، ولم يتعاملوا مع المشهد بحدّة أو ردّة فعل، بل تعاملوا معه بهدوء بالغٍ واتّزان كبير. ففي الأزمات الكبيرة لا تثمر ردّات الفعل الانفعاليّة شيئا سوى الشّقاق وتفتيت الصّفّ.
2. حرَصَ المهاجرون على إشاعة مفهوم الأخوّة في هذا الجوّ العاصِف، فنرى تأكيد عمر على استخدامها في كلّ عباراته التي يصفُ بها الأنصارَ في هذه الحادثة، وهذه الرّوح عندما تسود في الأزمات الكبيرة تساعدُ على تماسك الجبهة الدّاخليّة بخلاف التّخوين والتشكيك واتّهام النّوايا الذي لم يرد على لسان أحدٍ من المهاجرين في الحديث عن تصرّف الأنصار.
3. حرَصَ المهاجرون على المشاركة بوفد مكوّن من ثلاثة أشخاص فقط، وهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم، وفي هذا رسالة إيجابيّة للمجتمعين بأنّ المهاجرين قد قدموا من أجل الحوار والنّقاش لا من أجل فرض رأي عبر استعراض قوّة أو عدد.
المداولات والجدل داخل السّقيفة
بعد وصول أبي بكر مع عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم إلى السّقيفة، حدث حوار طويل، وجدل في المجلس.
فكان الأنصار يريدون أن يكون الأمير منهم، وقدّموا خطيبَهم ليقدّم مرافعته ودفاعه عن هذه الفكرة، ثمّ قال بعضهم مقترِحا وجود حاكمَين: منكم أمير ومنّا أمير.
وأراد عمر أن يتحدّث فطلب منه أبو بكر ألا يفعل، وتكلّم هو مبيّنا مكانة الأنصار ووصيّة رسول الله بهم، ثمّ قدّم مرافعته مدللا على ضرورة أن تكون الخلافة في المهاجرين.
وقد اتسمت مرافعة الصّدّيق رضي الله عنه بالهدوء والإحاطة والمناقشة العميقة لكلّ ما قاله الأنصار.
وبعد أن أعلن الحاضرون قبولا عاما لما قاله أبو بكر، رشّحَ كلّا من عمر وأبي عبيدة ليختار الحاضرون الخليفة منهم، فرفض الاثنان، ورشّح عمر أبا بكر، فبايعه النّاس. وهذا يحتاج تفصيلا لاحقا بإذن الله تعالى. وهذا المشهد يدلّ على أمور أهمّها:
1. من الطّبيعيّ في هكذا مجالس أن ترتفع الأصوات وتختلف الآراء ويحدث شدٌّ وجذب، فتعدّد الآراء واحتدام المداولات لا يتنافى مع الشّورى ولا يعيبُها بل هو من صمِيمِها، فلا تكون الشورى حقيقيّة دون تدافعٍ في الآراء قبل اتّخاذ القرار.
2. كون الخليفة من المهاجرين وتحديدا من قريش؛ يشكّل ضرورة في ذلك الوقت للحفاظ على وجود ووحدة الدّولة الإسلاميّة، فالعرب كانوا يهابون قريشا، بخلاف أهل المدينة، وذلك لأسباب متعلقة بسدانة البيت وما يلحقها من آثار سياسيّة واقتصاديّة.
3. رسّخ أبو بكرٍ رضي الله عنه فكرة مهمّة في حديثه عن الأنصار ومكانتهم وبذلهم وتضحيتهم، ثمّ اعتراضه على كون الحكم فيهم، وهي: أنَّ المكانة والتّضحية والبذل والفداء إذا صدرت من فرد أو جماعة لا تعني بالضرورة أحقيّة هذا الشّخص أو الجماعة بتولّي الصّدارة والقيادة والحكم.
بل إنَّ القيادة والحكم يجب أن تخضع لمعايير متعلّقة بمصلحة الكيان والدّولة، ومن ضحّى، فردا كان أو جماعة، فإنّه يستحقّ التكريم والإشادة، لكنّ التكريم لا ينبغي أن يكون بتوليته الحكم والقيادة.
وهكذا انجلى مشهد السّقيفة عن معانٍ سياسيّة وقياديّة تمثّلُ معالمَ لسلوكِ القيادات في الأزماتِ الكبيرةِ؛ فطُوبى لأولي الأبصار.
twitter.com/muhammadkhm