هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عرف ابن خلدون علم الكلام بأنه علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد.
يعني ذلك أن اعتماد المعتزلة على العقل كان بغرض الدفاع عن الإسلام من الهجمات التي يتعرض لها من خارج دائرته، ولما كان المهاجمون غير مسلمين فلا معنى للمحاججة إذا ما اعتمدت على النص القرآني، وكان لا بد من البحث عن ساحة مشتركة للجدال، وكان العقل هو هذه الساحة.
للمعتزلة أصول خمسة، من اعتقد بها فهو معتزلي ومن نقص منها أو زاد عليها فليس بمعتزلي.
يقول أبو حسين الخياط أحد أئمة المعتزلة:
فليس يستحقّ أحـد منهم الاعتزال حتى
يجمع القول بالاُصول الخمسة : التوحيد،
والعــدل، والوعـد والـوعيد، والمنزلـة بين
المنزلتين، والأمـر بالمعروف والنهـي عن
المنكر، فــإذا أكملت فـي الإنسـان هـذه
الخصال الخمس فهو معتزلي.
التوحيد
هذا هو المبدأ الأهم عند المعتزلة، وكان موجها لخصوم الإسلام ممن يضعون مع الله إلها آخرا، مثل المانوية والزرادشتية وبعض الفرق المسيحية التي تعتبر المسيح ابن الله.
وفي هذا يقول أحمد محمود صبحي إن المعتزلة أرادوا الرد على فكرة الأقانيم الثلاثة لدى النصارى، فالقول إن الذات الإلهية جوهر يتقوم بأقانيم أي صفات ـ الوجود، العلم، القدرة ـ قد أدى إلى الاعتقاد باستقلال الأقانيم عن الجوهر واعتبار الصفات أشخاصا وإلى تجسد الأقنوم الثاني في الابن (المسيح).
ولمواجهة ذلك، نفى المعتزلة صفات الله، واعتبروا الصفات هي عين الذات لا زائدة عليه، وبذلك فصفات الله ليست حقائق مستقلة، وإنما هي اعتبارات ذهنية.
يراد من علم التوحيد القول إن الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه.
والتوحيد رمز لتنزيه الله عن شوائب الإمكان ووهم المثلية واستحالة تشبيهه وتمثيله.
عرف القاضي عبد الجبار أحد أهم أئمة المعتزلة التوحيد، فقال:
هــو العلم بمـا تفرد الله عز وجل به من
الصفــات التي لا يشاركه فيها أحـد من
المخلوقين...
والأصل فيه أن التوحيد في أصل اللغة
عبــارة عما يصير به الشيء واحدا كما
أن التحريك عبارة عما به يصير الشيء
متحركـا والتسـويد عبـارة عما به يصير
الشيء أسودا، ثم يستعمل في الخير
عـن كـون الشـيء واحـدا لمـا لـم يكـن
الخبر صادقا إلا وهـو واحدا، فصـار ذلك
كالإثبات فإنه في أصل اللغة عبارة عن
الإيجاب.
يؤكد المعتزلة أن الله ليس كمثله شيء، وأنه هو وحده القديم وما عداه محدث، فالله تعالى يكون واحدا على ثلاثة أوجه:
الأول، أنه الذي لا يتجزأ.
الثاني، أنه المنفرد بالقدم فلا ثاني له.
الثالث، أنه المتفرد بالصفات اللائقة به.
القديم يوصف بأنه واحد على وجوه ثلاثة: أحدهما بمعنى أنه لا يتجزأ أو لا يتبعض، والثاني، بمعنى أنه منفرد بالقدم لا ثاني له، والثالث، بمعنى أنه منفرد بسائر ما يستحق به الصفات النفسية.
وقد ترتب على ذلك، ما يلي:
ـ نفي الصفات: لم يكن المعتزلة أول من قال بنفي الصفات الإلهية، فقد سبقهم في ذلك الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان.
ألمح واصل بن عطاء إلى مسألة نفي الصفات دون أن يتوسع فيها، لكن اضطلاع رجالات المعتزلة بعده بقراءة الفلسفة، خصوصا الميتافيزيقا، جعلهم يتوسعون في تأكيد وحدانية الله بما هو واجب الوجود في ذاته، وما يترتب على ذلك من نفي الصفات.
قسم المعتزلة صفات الله إلى قسمين:
1ـ صفات الذات، وتعرف بأنها الصفات التي لا تنفصل عنها الذات، وهي خمس: الوجود، الحياة، القدرة، العلم، الإرادة، وهذه الصفات ليست زائدة عن الذات إنما هي عين ذات الإلهية، بمعنى أنه لا يجوز وصف الله بها وبضدها، فلا يجوز وصف الله بالعالم وضد الجاهل.
2ـ صفات الأفعال، وهي كل ما يتعلق بالحواس التي لا تنسب إلى الله، إلا مجازا.
لم ينكر أهل السنة ثبوت صفات الله، لكن الخلاف وقع حول كيفية نسبتها إلى ذاته بحيث لا توحي بالكثرة أو التعدد أو التغيير.
يتبع ذلك، أن الله عالم بذاته لا بعلم زائد عليه، وقادر بذاته لا بقدرة زائدة عليه، وحي بذاته لا بحياة زائدة عليه كما هو حال الإنسان.
ذكر الخياط أحد أئمة المعتزلة:
لـو كان الله عالما بعلم، فإما أن يكون
ذلـك العلم قـديما أو محدثا، ولا يمكن
أن يكـون قديمـا لأن هذا يوجب وجود
اثنين قديمين، وهو قول فاسد.
ولا يمكن أن يكـون علمـا محدثا، لأنه
لــو كـان كـذلك يكون قـد أحـدثه الله
فـي نفسه أو فــي غيـره أو فــي لا
محـل، فـإن أحـدثه فــي نفسه، فــ
أصبـح محـلا للحـوادث فهــو حــادث
وهذا محــال، وإذا أحـدثه فــي غيره
كــان ذلك الغير عــالما بمـا حله منه
دونه، ولا يعقل أن يكون أحــدثه في
لا محل، فلا يبقى إلا حال واحد وهو
أن الله عالم بذاته.
وكتب الشهرستاني في هذه المسألة وهو من أئمة الأشاعرة إن المعتزلة لم ينكروا الصفات كوجوه واعتبارات عقلية لذات واحدة، ولكنهم أنكروا إثبات صفات هي ذات موجودات أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى، فإنها إذا كانت موجودات وذوات وراء الذات، فإما أن تكون عين الذات، وهذا رأي المعتزلة، وإما أن تكون غير الذات، فهي بذلك إما حادثة أو قديمة.
بعبارة أخرى، نفى بعض المعتزلة الصفات الإلهية، بقولهم إن الله عالم بذاته وقادر بذاته وحي بذاته، لكن البعض الآخر لم ينف الصفات، لكن نتائجه كانت واحدة مع من نفى الصفات، لأن من ثبت الصفات ولم ينفيها، اعتبر أن الله علم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته، وحي بحياة وحياته ذاته.
نظرية الأحوال
لكن مشكلة نفي الصفات ظلت قائمة، إذ واجه المعتزلة مشكلة الكيف: إذا كان الله عالما وعلمه هو هو، قادرا وقدرته هي هو، فما الفرق بين العلم والقدرة والحياة؟ كيف تختلف الأضداد ولا تختلف الصفات؟
حاول معمر بن عباد حل المشكلة، فقال بنظرية المعاني، أي أنه إذا اختلفت صفة عن صفة فلا بد أن يكون ذلك لمعنى، لكن هذا الحل لم يكن كافيا، مع أنه نبه أئمة المعتزلة إلى مسألة هامة وهي قضية الدلالة المفهومية يقول أحمد محمود صبحي.
بعد ذلك جاء أبو علي الجبائي، فقال إن مفهوم الذات الإلهية يقتضي كونه عالما قديرا، فليست هناك صفة أو حال زائدة على الذات من علم أو قدرة أو حياة تقتضي كونه عالما حيا قديرا.
ومع ذلك، لم يقدم أبو علي الجبائي حلا لمشكلة اختلاف المفاهيم، فاعتباره الصفات مجرد اعتبارات عقلية هو من أجل دفع التعدد في الذات الإلهية، لكن الاعتبارات العقلية لا بد أن تتباين، فليس معنى العلم هو معنى القدرة.
عند هذه النقطة، واجه المعتزلة معضلة كبيرة: فإذا أثبتوا الصفات لله كما يذهب إلى ذلك الصفاتية من أهل السنة، فإنهم يضعون شريكا للذات الإلهية، وبالتالي تتعدد الذات ويتم نفي الوحدانية، وإذا استمروا بنفي الصفات بقيت المشكلة السابقة قائمة (اختلاف المفاهيم أو المعاني).
مع أبي هاشم الجبائي انتقلت نظرية نفي الصفات الإلهية إلى مستوى آخر تماما، فقد قال إن الله له علما لما هو عليه في ذاته، أي أنه ذو حال هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا.
هكذا، ميز أبو هاشم بين الذات الموجودة والحال المعلومة، بمعنى أن الصفات أو الأحوال هي اعتبارات عقلية، ولهذا هي موضوع علم، لا وجود عيني لها حتى لا يكون تعدد في الذات، بينما الذات الإلهية لها وجود.
ـ التشبيه والتجسيم: رفض المعتزلة تشبيه الله تعالى بالتجسيم لأن ذلك يفترض المكان، فلا جسم من دون مكان، ويستحيل حصر الله بمكان.
وعرف القاضي عبد الجبار الجسم:
مـا يكـون عريضـا عميقـا، ولا يحصــل فيه
الطـول والعـرض والعمـق، إلا إذا تــركـب
مـن ثمــانية أجـزاء، بـأن يحصـل جــــزءان
فـي قبـالة النـاظر، ويسمى طولا وخطـا،
ويحصل جـزءان آخـران عن يمينه ويساره
منضمان إليهما، فيحصل العرض.
ويسمـى سطحـا أو صفحـة، ثـم يحصــل
فوقها أربعة أجزاء مثلها، فيحصل العمق،
وتسمى الثمانية أجزاء المركبة على هذا
الوجه جسما.
والمكان في القرآن وفق المعتزلة مجازيا "وسع كرسيه السموات والأرض"، ومن نتيجة ذلك، أنهم رفضوا أيضا الاستواء على العرش على معناه الظاهر "الرحمن على العرش استوى"، لأنه لا يستقر على جسم إلا جسم والله منزه عن ذلك.
كذلك الأمر بالنسبة للتشبيه، فقد رفض المعتزلة تشبيه الله وفق المعنى الظاهري للنص، فمثلا رفضوا أن يكون لله وجه هو جزء منه "وربك ذو الجلال والإكرام" أو الآية "كل شيء هالك إلا وجهه".
والأمر نفسه ينطبق على اليد "يد الله فوق أيديهم"، فذهبوا إلى أن تشبيه اليد هو إما القدرة أو النعمة.
ـ الرؤية السعيدة: وهي إشكالية متفرعة عن مشكلة الصفات العامة، وذهب المعتزلة إلى نفي رؤية الله تعالى عيانا في الدنيا والآخرة، وقالوا: باستحالة ذلك عقلا، لأنهم يقولون إن البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال، أي ما هو مادي والله تعالى ذات غير مادية، فمن المستحيل إذن أن يقع عليه البصر.
والقول برؤية الله تعالى هدم للتنزيه وتشويه لذات الله وتشبيه له حيث إن الرؤية لا تحصل إلا بانطباع صورة المرئي في الحدقة، ومن شرط ذلك انحصار المرئي في جهة معينة من المكان حتى يمكن اتجاه الحدقة إليه.
ومن المعلوم علم اليقين أن الله تعالى ليس بجسم ولا تحده جهة من الجهات ولو جاز أن يرى في الآخرة لجازت رؤيته الآن، فشروط الرؤية لا تتغير في الدنيا والآخرة.
على عكس ذلك، ذهب أهل السنة بتأكيدهم أن رؤية الله تعالى جائزة عقلا وواقعة فعلا في الآخرة.
وقد وقع جدال كبير بين الطرفين لدرجة لا نستطيع في هذا المقام الحديث عنها، لكننا نختم هذا المقال بالقول إن أهم مشكلة ترتبت على نفي الصفات، هي إشكالية خلق القرآن التي دخل فيها المعتزلة صراعا شديدا مع أهل السنة، وفي مقدمهم أحمد بن حنبل، وهذا سيكون موضوع المقال المقبل.