مع بداية عالم 2020، لم تكن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب الطامعِ بولاية ثانية في حكم الولايات المتحدة؛ تعي حجم ما ستمرّ به البلاد في عهد الرئيس الجمهوري من اختبارات مصيرية على صعيد السياسة والاقتصاد، كما أنّه لم يكن بحسبانها من الكوارث الطبيعية التي اعتادت عليها، كالأعاصير الموسمية، أن يظهر كوفيد-19عشر كأكبر وباء يعرقل عجلة أمريكا الثابتة ونفوذها على أصعد عدّة.
وفي سياق ما تعصف بالاقتصاد العالمي من أحداث جديدة فرضت واقعها على مستقبل القوى الفاعلة، تُطرح اليوم تساؤلاتٌ جدّية عن مستقبل
الاقتصاد الأمريكي ومساحة صمود واشنطن أمام الضغوطات التي تتعرض لها البنية الاقتصادية الداخلية، ابتداءً من الضرر الكبير نتيجة انتكاسة النفط في الأشهر القليلة الماضية، وصولا إلى حرب كلامية بين واشنطن وبكين، إضافةً لكون الدولة التي رسّخت نفسها قطباً عالمياً قد سجلت أسوأ الأضرار من حيث إصابات وباء كوفيد-19 ووفياته، وأخيراً وليس آخراً الاحتجاجات العارمة والتي وصلت حتى مشارف البيت الأبيض.
حرب الوباء
العاصمة الاقتصادية نيويورك مدينة منكوبة، إعلانٌ سارعت على إثره الولايات المتحدة لحشد خزائنها المالية في عملية الدعم الأكبر خلال تاريخها الحديث، لمحاربة وباء
كورونا، معلنةً عن أحدث مشروع قانون يُقرّ حزماً مالية تجاوزت قيمتها ثلاثة تريليونات دولار، وذلك لتخفيف الآثار المدمرة على الاقتصاد ونظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، لما رافق انتشار الوباء من إغلاق وتوقف شبه كامل لعجلة أمريكا الاقتصادية.
وقد قُدّرت قيمة الحزم بنحو 14 في المئة من اقتصاد البلاد، كما مددت الحكومة الموعد النهائي السنوي والذي كان محدداً حينها في 15 نيسان/ أبريل، لمدفوعات الضرائب، مما عمّق من أزمة النقد.
الإنفاق الحكومي لمواجهة الجائحة ترتب عليه اقتراض ثلاثة تريليونا دولار في الربع الثاني من العام الحالي، وهو يعادل خمسة أضعاف اقتراض الحكومة خلال الانهيار الاقتصادي الذي شهدته بورصة وول ستريت عام 2008.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وحتى قبل فيروس كورونا، كان عبء ديون البلاد يرتفع نحو المستويات التي يعتبرها العديد من الاقتصاديين محفوفة بالمخاطر بالنسبة للنمو على المدى الطويل؛ إذ أنفقت البلاد أكثر مما دخل إليها.
موسكو والرياض وحرب تكسير العظام
مع إعلان كلّ من السعودية وروسيا حربها النفطية المباشرة وزيادة الإنتاج النفطي في المرحلة العالمية الحساسة ومع انتشار وباء كورونا، كانت الولايات المتحدة تأخذ في التجهيز لقطف ثمار المكسب السياسي والاستراتيجي، مستغلة الحرب المستعرة بين أوبك وحلفائها المستقلين، في رصدٍ استراتيجي كان فاعلاً لو نجح تجاه عملية الضغط التلقائية على اقتصاد إيران المتهالك، مع تحول الجمهورية الإسلامية حينها إلى بلدٍ موبوء بعد الصين.
كما أن حسابات الإدارة الأمريكية آنذاك تمحورت حول تعزيز النمو الداخلي للولايات المتحدة، بتقليل الكلفة الإنتاجية عبر دنو الأسعار ونجاح ترامب في استغلال الموقف لطرحه ضمن حملته الانتخابية والجولة الرئاسية القادمة. ولم يُؤخذ حينها على ما يبدو إغلاق الاقتصاد العالمي لمواجهة كورونا ضمن حسبان استشارات الرئيس الفاعلة، وخطر الضرر المحتمل على صناعة النفط الصخري الأمريكي.
في 21 من شهر نيسان/ أبريل الماضي، وقبل في ظهيرة اليوم السابق، بدأ التوتر يسود قاعات وول ستريت جراء هبوط حاد في عقود النفط الخام الأمريكي الآجلة، سُحبت معها الأسهم الأمريكية والخليجية، حتى وصلت عقود النفط إلى مستوى السالب 37 دولارا في أكبر انتكاسة للنفط في التاريخ، والسبب؛ مخازن متخمة وإنتاج قياسي سبقه هبوط حاد في الطلب العالمي على المادة البترولية.
الانفرادية وسياسة القوة
أزمات اقتصادية متعاقبة لم تجد نفعها المتوقع في حثّ ترامب وإدارته على الالتفاف داخلياً أمام أكثر من 1.85 مليون مصاب بفيروس كورونا و107 آلاف وفاة بالمرض نفسه، ليفتح الزعيم الجمهوري وابلاً من الرصاص على حكومة الصين، معلناً مسؤوليتها عن نشر الفيروس الفتاك وإنسحابه من منظمة الصحة العالمية على حدّ سواء، بعد اتهام الأخيرة بإخفاء معلومات متعلقة بالوباء أو التململ في تحذير العواصم الكبرى من مخاطر انتشاره، وهو ما فتح الباب أمام حرب كلامية بين واشنطن وبكين، وتوتر في العلاقات سيلقي بظلاله الكبرى مستقبلاً على اقتصاد البلدين في توقيت هو الأكثر حساسية في إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي عامةً، واقتصاد الولايات المتحدة الأكثر تضرراً بشكل خاص.
حياة السود مهمة
فجّر مقتل جورج فلويد الرّجل ذو البشرة الداكنة موجة الغضب الكبرى داخل الولايات المتحدة، مظاهرات عارمة وأحداث شغب لم تشهد البلاد مثيلاً لها خلال سنوات خلت وصل صداها حتى أسوار البيت الأبيض، لَحِقَ بركبها ساخطون على الوضع الحالي من أصحاب البشرة السمراء، ممن يرون انتهاكاً مستمراً لحقوقهم المدنية، وتمييزاً في تعامل السلطات معهم لا بدّ من إنهائه، وذلك على الرّغم من إجراءات التباعد والإغلاق التي فرضتها السلطات لكبح جماح فيروس كورونا.
مواجهات عنيفة بين عناصر أمن ومحتجين رافقها تكسيرٌ لممتلكات عامةٍ وخاصة، واتهامات من الرئيس الأمريكي بوقوف مجموعات صنفها بالإرهابية وراء الحث على التحركات وتحريض الشارع، كما هدّد بحشد الموارد العسكرية والمدنية المتاحة لمواجهتها.
تهديدات ترامب تأتي في خضمّ انقسامٍ حادٍ بين مجتمعين؛ فيرى الجمهوريون في شعار "أمريكا أولاً" قاعدة ثابتة كما يرون في الرئيس الأمريكي الحالي النموذج الأصلح في إدارة البلاد دون غيره، وهي فكرة رسّختها خطابات الزعيم الأمريكي الحادة تجاه المهاجرين والأمريكيين من أصول غير أوروبية على حدّ سواء، أما النموذج الثاني فهو المجتمع الديمقراطي الرافض لسياسات ترامب، حتى وإن لم يتفق مع أعمال العنف الحالية.
شرارة حرب أهلية تلوح في الأفق
إن في انتشار ثقافة اقتناء السلاح داخل المجتمع الأمريكي معضلة لا يستهان بها في رصد المخاوف من إطلاق الشرارة الأولى لحرب أهلية أمريكية، ولو أن الأمر يُرى به ضرباً من خيال، بيد أنه من الممكن وضعه ضمن أخطار التصعيد بين أعمال شغب وتصريحات الرئيس، حيث تمثل مشاهد انتشار الأسلحة بشكل فردي لمؤيدي ترامب عامل خوف في صفوف الراصدين للوضع الأمريكي، دون التطرق إلى المخاوف الأخرى المتمثلة بكسر قواعد التباعد وعودة معدلات الإصابة بفيروس كورونا إلى الصعود مرّة أخرى، بفعل الاحتشاد والاحتكاك في صفوف المتظاهرين. والخطران أعلاه سيدخلان (بما سبقهما من أزمات متراكمة) الولايات المتحدة على أحسن تقدير داخل دوامة أزمة كبرى جديدة ستلقي بارتداداتها على مستقبل القوة الأمريكية وفعاليتها عالمياً.