كتاب عربي 21

حكايات الولد الشقي

شريف أيمن
1300x600
1300x600
عندما اعتُقل الكاتب الراحل محمود السعدني في قضية مراكز القوى بعهد الرئيس الراحل أنور السادات عام 1971، لم يكن يتصور أنه سيشهد أكاذيب كل الشعارات التي تنادي بالوَحدة العربية في كل ربوع العالم العربي، بل وصل إلى خلاصة تجربته فقال: "كنت مؤمنا بأننا أمة واحدة، وإذا بي أكتشف أننا أمم شتى، تصورتُ أن هناك نظما تقدمية وأخرى رجعية فإذا بالحقيقة المرة تصدمني، وهي أن التصنيف حبر على الورق فقط، وأن الجميع سواء مع فارق بسيط، هو أن بعض النظم تلتزم الصمت وبعضها يجعجع بالكلام ويعيش في شعارات ويستهلك أغاني ويمضغ عبارات، وأن الإنسان العربي مسحوق في ظل الجميع، ولكنه أكثر انسحاقا في ظل النظم التقدمية، وأن هذه النظم متقدمة فعلا ولكن في أساليب القمع والقهر ومسح شخصية المواطن الممسوحة أصلا ومن قديم الزمان. وأدركت في المنفى أنه كلما علا صوت النظام قلَّ فعله، وكلما كثرت الأناشيد كثرت الهزائم، وأنه بقدر ما يرتفع الزعيم في العلالي، اندفن الشعب في التراب".

هذه خلاصة رحلة ثماني سنوات في المنفى، رحلة التقى خلالها بزعماء سابقين وآخرين أصبحوا زعماء الآن، كأمير الكويت.. التقى بصدام حسين ومعمر القذافي، والتقى أيضا بالسادات خارج مصر، وغيرهم، وقابل قيادات حزبية ومحلية في الأقطار التي طاف بها كالمكوك بحثا عن لقمة العيش، بعدما استدان وتلقى مساعدات من دول وأصدقاء. وبعد تلك الرحلة الطويلة وصل إلى الخلاصة المذكورة، وجعلها خاتمة مذكرات فترة المنفى "الولد الشقي في المنفى".

مذكرات السعدني تمثل شهادة كاشفة لأحد أبناء التنظيم الطليعي الأوفياء، فهو يقول عن نفسه: "كان هيكل السفير الناصري في الدوائر العالمية والدبلوماسية، وكان العبد لله (يقصد نفسه) - بدون تواضع- هو السفير الناصري إلى مصاطب الفلاحين ومصانع العمال ومقاهي الصياع وقعدات فتوات المدبح وجدعان الحسنية". وكان السعدني مسؤول التنظيم في قسم الجيزة، وكان مسؤوله في التنظيم الأمين العام شعراوي جمعة، كما قال للسادات، فهو مُتشرِّب بالعمل التنظيمي، ومتشرب بأفكار حقبة الظلام في مصر، التي انتبه إلى زيفها في المنفى.

كانت فترة المد العروبي بدأت في الانحسار في مصر، لكنها ازدادت في الوهج في ليبيا والشام، وكان النفط قد ظهرت آثاره في الخليج العربي، وكان مما لاحظه السعدني، أن الهجوم على السادات عقب كامب ديفيد لم يكن بغرض العروبة والقضية الفلسطينية، ولم يكن بغرض تصحيح مسار "الأخ الأكبر"، بل كان الهجوم على مصر ذاتها ولوراثة مقعد الأخ الأكبر، وكانت بعض الدول تريد نقل مركز القرار العربي من مصر إلى أراضيها، وبعد أربعين عاما تقريبا نجحت الدولة الناشئة متأخرا على ضفة الخليج في نقل مركز القرار العربي إليها، ولكنه انتقل إلى عصابة إجرامية حرفيا، تقوم على القتل والانقلابات وزرع المفخخات واستخدام الرِّشى والنساء.

كان ملفتا كذلك وصفه مقرات ثلاثة رؤساء في بداية حكمهم؛ وصفه لقصر القذافي الذي كان بسيطا، ووصفه لقصر صدام حسين، وفيلا مبارك. فالمقرات الثلاثة اتصفت بالبساطة في الأثاث حسب وصف السعدني. كما أن الخليج استبشر كثيرا بمبارك باعتباره سيكون حاكما عروبيا ووطنيا، لكن آفة كرسي الحكم أن من يجلس عليه يُصاب بأدواء كثيرة تنقله من حال إلى أحوال أخرى، صحيح أن الأحوال الجديدة أيسر ماديا بكثير، لكنها أحط أخلاقيا بكثير أيضا.

حكى كذلك عن بعض الخارجين من بلدانهم باعتبارهم معارضين، لكنهم عاشوا "كمهراجات الهند" يتمتعون بالنفوذ والأموال، ويستجيبون لطلبات النظام السياسي الذي يمولهم، وبمجرد تغير طلبات النظام تم حل حزب معارض لمصر في لحظة وغابت أمواله.

وحكى أيضا عن المتمسكين بمبادئهم الذين ناموا على الأرض رغم أنهم كانوا منعّمين في وطنهم. وتصادف أن المعارض المصري السيناوي عيد المرزوقي كتب ذات الكلام بالأمس على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، فقال: "ما هي المعارضة في مصر؟ ما هي أهدافها؟ ماذا تريد؟ أنا معهم لي سبع سنين ما قدرت أفهم وأنا بوسطهم؟ كل مجموعة قافلة على نفسها وتخوّن المجموعة الأخرى، كل مجموعة تخدم المقربين منها وتسحق عوامها. أزمة المعارضة هي نفسها أزمة النظام، شعارات جميلة رائعة وأفعال عكسها تماما، أزمة مصر في الجميع".

للأسف كانت حكايات الولد الشقي بمثابة إيذان لحال الأمة في مرحلة حرجة، وتنبؤ بحالها في المستقبل القريب، وإيذان آخر بأن طبائع الناس وقت المحن والمنح لا تختلف، فالمعطيات والمخرجات لا تتغير، وما دام القمع والخوف هو السائد في التعامل الاجتماعي بين فئات وطبقات المجتمع، فسيظل فساد النفوس وقُبح الطوايا هما المسيطران على تعاملات وطبائع الخلق. ولا سبيل للخروج من تلك الحالة إلا بالديمقراطية وتصديرها إلى دول الجوار، فأصل كل بلاء هو الاستبداد، ولا بديل عن الهيمنة الشعبية على القرار العام، لتنصلح أحوالنا.

وعلى ذِكْر الديمقراطية، فإن الشيء بالشيء يُذكر؛ إذ لن تتحقق على المستوى الوطني العام والمؤسسات الداخلية غير ديمقراطية كذلك، وما نشهده بصفة عامة أن الحركات السياسية المعارضة ليست ديمقراطية على مستواها الداخلي، كما أنها تتأثر (كالمصريين) بالقيادات التاريخية، فيظل رئيس الحزب أو التنظيم رئيسا له لسنوات طويلة قد لا تنتهي إلا بموته، كما أن الانتخابات الداخلية، إن حدثت، فيشوبها التشكيك في نزاهتها.

والحق أن فاقد الشيء لا يعطيه، وإذا أرادت قواعد تلك الأحزاب والحركات في الداخل والخارج إحداث تغيير ومواجهة نظام مستبد، فعليها أن تواجه أولا قيادتها في حدود قواعد الآداب واللوائح التنظيمية، وإذا كانت غير قادرة فلتمسك لسانها عن النظام السياسي وتنتظر الفرج من عند الرحمن.

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (0)