هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: غرق الحضارات
الكاتب: أمين معلوف من الأكاديمية الفرنسية، ترجمة: نهلة بيضون
الناشر: دار الفارابي، بيروت- الطبعة الأولى أيلول/ سبتمبر 2019،
319 صفحة من القطع المتوسط
يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني قراءة كتاب "غرق الحضارات" للكاتب المصري أمين معلوف، ويركز في الجزء الثاني على هزيمة العرب في حرب حزيران (يونيو) 1967 وتداعياتها على المنطقة برمتها.
هزيمة المشروع القومي العربي أمام المشروع الإمبريالي-الصهيوني
في حرب 1967، طبعت هزيمة الجيوش المصرية والسورية والأردنية في مواجهة إسرائيل الهزيمة السياسية لجيلٍ راهن على التنمية والوحدة العربية والاشتراكية. ففقدت المجتمعات نقاط ارتكازها، وتحوّلت نحو الدين؛ وهكذا شاهدنا نشوء الحركات الإسلامية التي ازدادت قوّتها بقدر ما برهنت الدوائر الحاكمة على عجزها وعن تسلّطها، دون هدف آخر سوى البقاء في السلطة، فأكملت إسرائيل احتلالها الضفة الغربية لنهر الأردن، وسيطرت على مدينة القدس القديمة (التي ستُعلن ضمّها يوم 27 حزيران/ يونيو)، واحتلت كامل سيناء، واحتلت هضبة الجولان السورية، وبذلك ضاعفت مساحة أراضيها أربع مرات، وجعلت 400 ألف لاجئ فلسطيني جدد يجتازون نهر كتب.
من وجهة نظر تاريخية، مثلت حرب الـ1967 التي أوقعت نسبياً القليل من الضحايا، فقد دفعت مصر أغلى ثمن (عشرة آلاف قتيل)، في حين لم يتجاوز عدد الجنود السوريين والأردنيين الذين قُتلوا الخمسة آلاف؛ هذا مع العلم بأنّ العرب كانوا ليفضّلوا خسارة رجالهم على خسارة أرضهم وكرامتهم، مثلت هذه الحرب هزيمة حقيقية للمشروع القومي العربي أمام المشروع الإمبريالي والمشروع الصهيوني. فالهزيمة في وجه إسرائيل، كانت نهاية قاسية للمشروع الكبير بإقامة دولة عربية تقدّمية قوميّة وحديثة كانت تتمثّل بالناصريّة والبعثيّة؛ وقد بلغ هذا المشروع ذروته مع إعلان قيام الجمهورية العربية المتحّدة بين مصر وسوريا (1958- 1961).
فخلال نحو عقديْن من الزمن، بين العاميْن 1950 و1967، أمل العرب في الحصول على فرصة ثانية للـ"تعويض" عن النكبة الأساسية في خسارة فلسطين بين العاميْن 1948 و1949. ومع العام 1967، أصبح وجود إسرائيل حقيقة لا رجوع عنها، في حين كان يتّضح في إسرائيل الخطاب حول اللاّرجوع عن احتلال الأراضي، وهكذا تغيّرت معالم اللعبة السياسيّة في المنطقة .
لم يتبدد الشعور الذي انتاب الأمة آنذاك، بأنها قد سحقت وأهينت واغتصبت إلا عند التحرير بعد أربع سنوات. ذلك هو بالضبط الاختلاف الشاسع بين نكسة عام 1967 وهذين الفصلين من فصل الحرب العالمية الثانية، فخلافاً للأمريكيين والفرنسيين، لم يتجاوز العرب هذه الهزيمة ولم يسترجعا قطّ ثقتهم بأنفسهم.
ولقد كان للهزيمة تأثير جوهريّ على تصرّفات المجتمعات العربية، بل حتى على نظام قيَمها؛ فبفعلها انخفضت قيمة الحياة الإنسانية. لا شكّ أنّ ذلك لا يخفّف من لوعة عائلة فقدت ولدها، لكنّ المجتمعات تعتبر نفسها في حالة حرب، حربٍ شرعيّة، حيث الألم جزء منها. إذ يعود تمجيد الموت إلى تلك الحقبة، أولاً على يد حركة الفدائيّين الفلسطينيّين الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل الأرض إنقاذاً للهويّة الوطنية، ثمّ على يد الحركات الإسلامية التي استعادت هذا التمجيد وأكّدته.
أولاً، تعدّ حرب العام 1967 منعطفاً سياسياً في المنطقة، من جهة، مع إضفاء طابعٍ فلسطيني على الصراع العربي الإسرائيلي، ومن جهة أخرى مع التشديد على العامل الديني. وللمرّة الأولى منذ العام 1948، بات للحركة الفلسطينية قيادة خاصة: منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسّست في العام 1964، والتي ستحظى قريباً باعتراف الجامعة العربية على إنها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. وانخرطت منظمة التحرير (فتح) في المقاومة المسلّحة في نهاية الستينيات؛ لكنّها، بعد أن أُقفلت في وجهها الدول التي تستطيع التحرّك من خلالها، واحدة تلو الأخرى، لجأت إلى وسائل مقاومة بديلة.
ثانياً، شهدنا منعطفاً في العلاقة بين السياسة والدين، واستمالة مشايخ الإسلام الكبار لشرائح كبيرة من الرأي العام. فلقد التمس جمال عبد الناصر دعم المؤسّسة الدينية، منذ اليوم التالي على الهزيمة والطلب إليه العودة إلى الحكم بعد التظاهرات الكبيرة التي أعقبت استقالته، وقد نجح في ذلك.
لقد غيرت هذه الحرب الاستباقية كل موازين القوى في المنطقة. فقد فَرِحت الولايات المتحدة وإسرائيل والأنظمة الملكية العربية لهزيمة عبد الناصر والحركة القومية العربية: لكنْ في الواقع، أدّت هذه الهزيمة إلى بروز الإسلام السياسي وتثبيت المقاومة الفلسطينية. وسيسهم عجز الأمم المتحدة عن فرض تطبيق قراراتها التي لا تحصى حول إقامة سلامٍ عادل، في إفقاد الدول الغربية مصداقيتها..أما إسرائيل، المنتصر الأكبر في هذه الحرب الثالثة، بعد حرب 1948 ـ 1950 وحملة السويس عام 1956، فقد رفضت إعادة الأراضي المحتلة وأبقت تحت سلطتها شعباً فلسطينياً ممانعاً معتبرة أن اللجوء إلى القوة وحده يحلّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
في معرض تحليله للتداعيات التاريخية لحرب 1967، يقول الكاتب أمين معلوف: "إنني أتأمل العالم العربي منذ سنوات بتوجس، ساعياً لفهم الطريقة التي تدهورت بها أحاله على هذا النحو. والآراء التي يسمعها المرء في هذا التطرف العنيف، الجهاد الأعمى، وبصفة أعم، على العلاقات الملتبسة في الإسلام بين الدين السياسة، فيما يتهم آخرون بالأحرى استعمار الغرب وجشعه ولامبالاته، ونزعة الهيمنة للولايات المتحدة، أو احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية .
إذا كانت كل هذه العوامل قد أدت بالتأكد دوراً، فلا أحد منها يوضح لوحده الانحراف الذي نشهده، غير أن ثمة مشهداً في نظري يبرز وينفصل عن بقية المشاهد ويشكل منعطفاً في تاريخ هذه المنطقة من العالم أبعد من تخومها، إنها مواجهة عسكرية جرت خلال فترة وجيزة على نحو لا يصدق وسيتبين رغم ذلك أن تبعاتها مستدامة: الحرب الإسرائيلية ـ العربية في حزيران / يونيو 1967.
كيف يمكن أن أصف ما خلّفته من أثر؟
المقارنة التي تبادر إلى ذهني تلقائياً هي مع معركة بيرل هاربور إنما فقط في الجانب الصاعق من الهجوم الذي شنّته اليابان وفي عنصر المفاجأة، لا في النتائج العسكرية، فإذا كان أسطول الولايات المتحدة قد كابد، في صباح يوم 7 كانون الأول / ديسمبر 1941، خسائر فادحة في العتاد العديد فقد احتفظ البلد بجل قدراته الدفاعية الهجمية. أما في صباح 5 حزيران / يونيو 1967، فقد دمرت عملياً الأساطيل الجوية لمصر سوريا الأردن، ثم اضطرت قواتها البرية إلى الانسحاب والتنازل للقوات الإسرائيلية عن أرض مهمة: مدينة القدس القديمة والضفة الغربية ومرتفعات الجلان، قطاع غزة، شبه جزيرة سيناء .
ومن هذا المنظور سيكون من الأنسب مقارنة هذه الهزيمة العربية بهزيمة فرنسا في حزيران/ يونيو 1940. فقد انهار جيشها بسرعة فائقة أمام الهجوم الألماني، مع أنه كان مكللا بغرة نصره في الحرب العالمية الأولى قبل اثنين وعشرين عاماً. فغصت الطرقات باللاجئين وخضعت باريس ثم البلد بأكمله للاحتلال.
ولم يتبدد الشعور الذي انتاب الأمة آنذاك، بأنها قد سحقت وأهينت واغتصبت إلا عند التحرير بعد أربع سنوات. ذلك هو بالضبط الاختلاف الشاسع بين نكسة عام 1967 وهذين الفصلين من فصل الحرب العالمية الثانية، فخلافاً للأمريكيين والفرنسيين، لم يتجاوز العرب هذه الهزيمة ولم يسترجعا قطّ ثقتهم بأنفسهم.
وفي اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، انقضى أكثر من نصف قرن، لم تتحسن الأوضاع بل يسعنا القول إنها ما برحت تتأزم. وعوضاً عن الشفاء والالتئام التهبت الجراح والعالم بأسره يعاني جراء ذلك. كان عبد الناصر هو المهزوم الكبير في هذه الحرب. فحتى ذلك الحين كان يتمتع بشعبية هائلة في العالم العربي أرجاء العالم الإسلامي كافة حتى أن خضعه لاسيما الحركات الإسلامية قلما كانوا بالجرأة لمهاجمته علناً...وفي المدى البعيد، سيكون الإسلام السياسي هو المستفيد الحقيقي من هزيمة الرئيس،وسيحل محل القومية باعتباره الإيديولوجيا الطاغية، وسيستعاض به عن الحركة الناصرية و الحركات المماثلة لها لحمل لواء التطلعات الوطنية، وسيخلف الحركات التي تستلهم الماركسية بوصفه ناطقًا باسم المقهورين "(ص112 ـ 114 من الكتاب).
بين دينغ شياوبينغ قائد التحديث الصيني وماوتسي تونغ القومي
كل شيء تغير في الصين منذ أن أرسى الزعيم التاريخي الراحل دينغ شياوبنغ خط "التحديث الاشتراكي"، والقيام بالإصلاحات الاقتصادية عنوانًا وانقلابه على خط ماوتسي تونغ. وكان حجر الزاوية في التحديثات الاقتصادية التي نظر لها وطبقها دينغ شياوبنغ بداية من العام 1978، هي تفكيك الكومونات الشعبية في الريف، التي أطلق عملية بناءها ماوتسي تونغ، عقب القفزة الكبرى إلى الأمام في العام 1958. وهكذا عاد الريف الصيني إلى الزراعة الخاصة، ووجد نفسه مع بداية الثمانينات خارج إطار النمط الاشتراكي التعاوني في الزراعة، ومنفلتا أكثر فأكثر عن سيطرة السلطة المركزية. وفرض الإصلاح الاقتصادي من أجل تحديث وتثوير الزراعة إحلال الرأسمالية في الريف، فتم تعميم الملكية الخاصة في الأرض. وقد نجم عن هذا الوضع، زيادة كبيرة في معدل الإنتاج الزراعي، وبداية تمركز في الإنتاج والملكية الرأسمالية للأرض. وهكذا بدأ العديد من الملاك الجدد يراكمون رأس المال والأرض، وانتقلوا إلى عمليات الاستثمار الرأسمالي في مختلف المجالات الزراعية والعقارية والصناعية الحقيقية.
وانطلاقا من النجاحات التي حققتها الرأسمالية في الريف الصيني، وضعت القيادة الصينية موضع التنفيذ برنامجا شاملا للتحديثات الاقتصادية على مستوى المدن وكل الصين، في سبيل تحويل العديد من التجارب المحلية، والقطاعية إلى اقتصاد السوق الموجه. ولقد ترجم هذا البرنامج واقعيا، في النصف الثاني من عقد الثمانينات، من خلال تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، ورجال الأعمال الخواص إلى الصين. فاستخدمت الصين مئات المليارات من الدولارات من رؤوس الأموال الأجنبية، ووظفتها في بناء آلاف الشركات المشتركة، ومئات الشركات ذات الرأسمال الأجنبي بوجه خاص. وأقامت القيادة الصينية عدة مناطق اقتصادية أسمتها مناطق اقتصادية خاصة منفتحة بشكل حر على العالم الرأسمالي، وشجعت الدولة المبادرات الرأسمالية الفردية في الاستثمار الصناعي .
لقد كان للهزيمة تأثير جوهريّ على تصرّفات المجتمعات العربية، بل حتى على نظام قيَمها؛ فبفعلها انخفضت قيمة الحياة الإنسانية. لا شكّ أنّ ذلك لا يخفّف من لوعة عائلة فقدت ولدها، لكنّ المجتمعات تعتبر نفسها في حالة حرب، حربٍ شرعيّة، حيث الألم جزء منها.
وكان من نتائج هذه التحديثات الاقتصادية أن عمم اقتصاد السوق، باعتبار أن الإصلاح الاقتصادي يحمل بعض عناصر الاقتصاد الرأسمالي. هذا هو المسار التاريخي الذي نما فيه القطاع الخاص في الصين، حيث أصبح قطاع الخدمات المسيطر في المدن، خاصة في المدن الساحلية، وهو الذي يشكل أساس الرأسمالية الصينية الجديدة .
واتخذ الحزب الشيوعي بعضا من الوقت لكي يأخذ أبعاد هذا الانقلاب التاريخي الذي أفلت من خياراته الاستراتيجية الأولية: ذلك أن "المؤسسة الخاصة" لم يتم الاعتراف بها إلا في بداية عام 1987. أما في المؤتمر الرابع عشر الذي عقد عام 1992، فقد تبنى مفهوم "اقتصاد السوق الاشتراكي". بمبادرة من دينغ سياو ينغ. وفي العام 1999، تم تنقيح الدستور، من أجل الاعتراف بأن القطاع الخاص هو "مكون مهم" للاقتصاد الوطني، بينما كان ينظر إليه على أنه "مكمل" لقطاع الدولة .
وفي المؤتمر السادس عشر 2002، أدخل الحزب الشيوعي الصيني تعديلات تاريخية في إيديولوجيته الرسمية لجهة الإعتراف بالفئات الاجتماعية الرأسمالية التي تشكلت في الفترة الماضية بشكل شرعي، حيث أنه أصبح مسموحا للرأسماليين الخواص الدخول إلى الحزب الشيوعي من بابه الكبير.
وسوف تقود إعادة الاعتبار هذه إلى إعلاء حظوة الطبقة الرأسمالية الجديدة، التي تظل في نظر الرأي العام الصيني لا تتمتع بفضيلة كبيرة. لأن ديناميكية القطاع الخاص لا يجوز أن تنسينا عدم وجود قانون اجتماعي في الصين، إضافة إلى أن الرأسماليين الجدد يوصمون بالفساد والرشوة، وبعقد الصفقات المشبوهة مع البيروقراطية الحزبية المحلية، في ظل غياب دولة القانون والتشريعات القانونية في المجالين المالي والضريبي.
من وجهة نظر الحزب الشيوعي الصيني، إن إدخال الرأسماليين إلى الحزب يسهل عملية مراقبتهم، علما أن القيادة الصينية تتخوف من ازدهار هؤلاء الأقوياء الجدد خارج دائرتها، الأمر الذي يمكن أن يشكل لها تحديا سياسيا في المستقبل. لهذا اقتضى الأمر إبطال مفعولهم المتنامي من خلال ابتلاعهم من قبل ماكينة الحزب البيروقراطية .
يعتبر الكاتب أمين معلوف أن الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ هو القائد الحقيقي للثورة المحافظة في الصين، فيقول: "ففي كانون الأول / ديسمبر 1978، تسلّم دينغ شيا بينغ زمام السلطة في بيجين خلال انعقاد جلسة عامة للجنة المركزية للحزب الشيوعي مستهلاً "ثورته المحافظة". لم يطلق عليها هذا الاسم قطّ. ولقد كانت بالتأكيد مختلفة كل الاختلافات عن ثورة طهران وثورة لندن ولكنها انطلقت من (روح العصر) نفسها .
كانت تستلهم العقيدة المحافظة لأنها تستند إلى التقاليد التجارية المتجذرة منذ الأزل لدى الشعب الصيني، والتي سعت ثورة ماوتسي دونغ إلى اجتثاثها. ولكنها كانت ثورية كذلك، لأنها ستحدث تحولاً بصورة جذرية في غضون جيل واحد في أسلوب عيش أكبر شعوب الأرض. وقليلة هي الثورات في التاريخ التي غيرت رأساً على عقب حياة مثل هذا العدد الهائل من الرجال والنساء في وقت وجيز للغاية"(ص 173 من الكتاب).
إقرأ أيضا: انطفاء مصابيح الحضارات ودخولها في عصر الظلمات (1من3)