هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تكاد الحركات والشخصيات اليسارية الإسرائيلية التي تعادي الصهيونية أن تكون لغزا خفيا في الإعلام العربي فهي لا تحظى باهتمام الكتاب والباحثين العرب، من بينها الحركات التي ولدت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي والتي انضم عدد من أعضائها إلى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية.
ويقترب في هذه الأيام أحد أعضاء تلك الحركات من عامه الخامس والسبعين ولا يزال ممسكا بقناعته رغم سجنه عشر سنوات، وهو الأكاديمي والكاتب الإسرائيلي إيهود أديب، الشهير باسم أودي أديب الذي ولد عام 1946، في كيبوتس "غان شموئيل" المقام على أنقاض قرية "خربة السركس" بالقرب من حيفا، وبدأ حياته من خلال الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي وأنهى خدمته عام 1966.
ويستدعى أودي للمشاركة في حرب حزيران/ يونيو عام 1967 كاحتياط في لواء المظليين في منطقة القدس.
في مقدمة كتابه "الاشتراكية الصهيونية.. كسرات حلم"، يروي أودي كيف "اكتشف" الفلسطينيين في اليوم السابع لحرب 1967، عندما كان جنديا في وحدة "المظليين" التي احتلت القدس، يقول: "كانوا يمتدون حاملين أمتعتهم على جنبات الشارع المؤدي من أريحا إلى القدس، وكيف فهم لاحقا أن المشكلة لا تنحصر بالسياسة الإسرائيلية فقط، بل تكمن في الصهيونية وطموحها بإقامة دولة يهودية خالصة في أرض فلسطين بشكل مستقل عن الشعب الفلسطيني بل مكانه، عندها قرر الانتقال من "سلاح النقد"، كما يقول، إلى "نقد السلاح" والعمل في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها درس أودي في "جامعة حيفا" الفلسفة والعلوم السياسية وتخرج منها عام 1972.
سافر إلى دمشق لتلقي التدريبات ومنح جواز سفر سوري باسم "جورج خوري" و اتهم بـالتجسس والخيانة والاتصال بعميل أجنبي وتسليم أسرار عسكرية للعدو
انضم إلى خلية يسارية تحت اسم "ماتسبين" ومعناه بالعربية "البوصلة" بقيادة إيلان هاليفي، التي وصفتها المخابرات الإسرائيلية بـ"المتطرفة جدا"، وخرج أعضاء هذه الخلية عن الخطّ الأيديولوجي لـ"الحزب الشيوعي الإسرائيلي" القريب من موسكو، وعارضوا الصهيونية و"إسرائيل" والنظام الإمبريالي والرأسمالية، وانتقدوا حكومات الدول العربية كما طالبوا بالخروج من الأراضي المحتلة عام 1967.
انقسمت "ماتسبين" فيما بعد إلى ثلاث حركات وانضم أودي إلى إحداها التي عرفت باسم "أفن غراد" أو "الطليعة" وانضم إليها مع مرور الوقت الكثير من الشبان اليهود مثل: دان فرد، دويد كوفر، يحزقالي كوهن.
وانتمت الحركة إلى فكر الزعيم الصيني ماو تسى تونغ، بسبب اعتراضها على انغماس "ماتسبين" بالعلاقة مع "الهستدروت" وطبقة العمال، وعدم انخراطها أكثر في الموضوع الفلسطيني.
وفي عام 1971 انشق عن حركته الجديدة وانضم إلى منظمة تطلق على نفسها اسم "الشبكة الحمراء" التي كانت تناضل ضد الصهيونية و"إسرائيل"، ولإقامة دولة اشتراكية خالية من الظلم الطبقي والاضطهاد القومي.
وانضم أودي إلى "شبكة" تحركها منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة داود سمعان (تركي) صاحب محل لبيع الكتب في "وادي النسناس" بحيفا المعروف أيضا بكنية "أبو عائدة".
فيما بعد سيقوم تركي بتشغيل "الشبكة" من قبل رجل حركة "فتح" حبيب قهوجي ووفقا للادعاءات الإسرائيلية فقد كانت "الشبكة" على علاقة بالمخابرات السورية والمصرية إضافة لعلاقتها مع "فتح".
سافر أودي لاحقا إلى دمشق لتلقي التدريبات اللازمة. وبعد استكمال كافة الترتيبات، منح أودي جواز سفر سوري جديد يحمل صورته واسمه الجديد "جورج خوري"، وأبلغ أنه إذا سألك أي أحد في سوريا أو في لبنان عليك أن تقول بأنك غادرت سوريا وأنت ابن عامين إلى الأرجنتين، ولذلك لا تعرف اللغة العربية.
كان جهاز "الشاباك" وقوات الأمن الإسرائيلية تطارد أودي مستخدما مجموعة من الوسائل لاعتقال أفراد الشبكة منها التصنت السري وزرع العملاء ومتابعتهم من قبل رجال وحدة العمليات الخاصة الذين صوروهم أثناء اجتماعهم مع رجل "فتح" أبو كمال الذي ستكشف التحقيقات أنه قهوجي نفسه، وسيعرض "الشاباك" على يوسي بن يعقوب عضو "ماتسبن" العمل لصالحهم كعميل.
وعثر "الشاباك" أثناء تفتيش منزل أودي على كراسة تعليمات تتعلق بصناعة المواد المتفجرة، واستمرت عملية الاعتقالات عدة أشهر بدأت أواخر عام 1972، وطالت أكثر من 60 شخصا حقق معهم وتقلص عدد من قدموا إلى المحاكمة إلى 40 متهما.
وقدمت النيابة الإسرائيلية أوائل عام 1973 لوائح اتهام ضد أفراد المجموعة الأربعين الذين اتهمتهم بـ"التجسس والخيانة الخطيرة والاتصال بعميل أجنبي، وتسليم أسرار عسكرية للعدو" وبنودا أخرى كثيرة.
وكشف "الشاباك" أن "الخلية "هدفت إلى تنفيذ عمليات "تخريبية ضد مرافق ومنشآت استراتيجية في أوقات الطوارئ وذلك بالتنسيق مع العدو" وفقا للائحة الاتهام.
حوكم أودي خلف الأبواب المغلقة وحكم عليه بالسجن 17 عاما قضى منها فعليا 12 عاما، وفي السجن رفض الانتقال إلى جناح الجنائيين الإسرائيليين، وآثر أن يتشارك الزنازين مع الفلسطينيين، رافضا في الوقت ذاته الاعتذار أو إبداء الندم على ما فعله.
وفى عام 1975 تزوج وهو في السجن من سيلفيا كلسنجبرج الناشطة في " ماتسبين " ابنة رجل سيتم الكشف عنه فيما بعد كواحد من أكبر جواسيس الاتحاد السوفيتي في "إسرائيل".
أطلق سراح أودي عام 1985 ضمن صفقة تبادل الأسرى التي عرفت فيما بعد بصفقة "عملية الجليل"، وهي "الصفقة" التي أطلقت فيها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة" بقيادة أحمد جبريل ثلاثة جنود إسرائيليين وقعوا في الأسر أثناء حرب لبنان، مقابل إطلاق سراح عدة معتقلين فلسطينيين كان من بينهم أودي.
أطلق سراحه ضمن صفقة تبادل الأسرى المعروفة بـ"عملية الجليل" وبعد إطلاق سراحه أصبح محاضرا في "الجامعة المفتوحة" في "إسرائيل"
بعد تحريره درس أودي في جامعة "تل أبيب" ونال الدكتوراه من جامعة "بيرباك" في لندن، وحين عاد من لندن عمل محاضرا في "الجامعة المفتوحة" في "إسرائيل" وهو كاتب في المجلات والصحف وصدرت له عدة كتب ويعيش حاليا في مدينة حيفا.
الكاتب الإسرائيلي أفرايم لبيد وصف حكاية أودي في مقال نشره عام 2016 على موقع "RNG" الناطق بالعبري بأنها "أول وأكبر قضية تجسس وتأمر شهدتها إسرائيل بدأت في وادي النسناس بمدينة حيفا وانتهت بالسجن".
وفككت "الشبكة" عام 1973 على يد ضابط "الموساد" باروخ كوهين الذي كلف في مطلع عقد السبعينيات من قبل "الموساد" بالعمل ضمن شبكة استخبارية بناها "الموساد" في أوروبا، وسافر كوهين إلى العاصمة البلجيكية بروكسيل مع أسرته متنكرا بصفة رجل أعمال.
وأطلق على هذه العملية "غضب الرب" وتهدف إلى اغتيال عناصر منظمة "أيلول الأسود" وقادتها المتواجدين في أوروبا.
في نهاية عام 1972، تعرف كوهين في مدريد على طالب طب جامعي فلسطيني يدعى سمير أحمد مؤيد، وأراد الحصول منه على معلومات حول الفلسطينيين في إسبانيا. لم يكن كوهين يعلم أن مؤيد يعمل لصالح "أيلول الأسود"، وأنه جاسوس مزدوج.
في عام 1973 وعندما غادر كوهين المقهى وعلى الرصيف، أطلقت عليه من الخلف ست رصاصات أطلقها منفذ العملية قبل أن ينسحب هو ومؤيد، تاركين خلفهما جثة هامدة، ونشرت الصحافة الإسبانية خبرا مفاده أن رجل أعمال إسرائيليا قد قتل.
مؤيد، الجاسوس المزدوج، هرب من إسبانيا، ويعيش الآن في مكان مجهول، ومنفذ عملية الاغتيال لم يلق القبض عليه حتى الآن، بحسب معلومات "الموساد".