هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من خلال قراءتي لشعر علي الفزّاع، وتكرار القراءة مرّة بعد مرة، تمكنت من عقد الصّداقة بيني وبين شعره، ولعلّه من المفيد أن نشير إلى أنّ علي الفزّاع العواملة، ولد سنة 1954، في مدينة السّلط الأردنية، وعلى وجه التحديد، قرية زي، التي تعني بالعاميّة الشّبيه والمثيل (1)، وقد عمل معدًّا ومقدمًا للبرامج في الإذاعة والتلفزيون الأردنيّ.
إنّ المهتمين في حقل الأسلوب، كثيرا ما يوجّهون اهتماما كبيرا لأسلوب الكاتب، حتى باتت الدراسات التي تندرج تحت هذا الحقل تعرف ضمن ما يمكن أن أسميه بـ موضة العصر، وتفاديًا للوقوع تحت هذا التأثير، جمعت بين الأسلوب اللغوي البلاغي بمفهومها الحديث والمعرفة الثقافية.
ومما لا شكّ فيه أنّ كلمة الأسلوب تستخدم في جميع مجالات الحياة، والحقيقة أنها كلمة مطاطية، وهذا ذاته ما يشير إليه شكري عيّاد، وغيره من الباحثين (2)، ولهذا السبب أستطيع الموافقة على أنّ "الأسلوب مقولة إستاتيكية، تنسحب بصورة مماثلة على جميع أشكال الفن وتتسم بها الحياة والكلام الجاري"(3).
والأسلوب طريقة في التعبير عن الذات والأشياء بواسطة اللغة (4)، من هنا يسعى الأديب شاعرًا كان أم ناثرًا إلى نقل تجربته الشعورية بما يتناسب وهمومه وطموحه، وتصويرها تصويرًا إلى الحدّ الذي يجعله ينسى ذاته وواقعه، لهذا؛ كثيرًا ما نجد أكثر من طريقة للتعبير عن الفكرة نفسها.
وعلى ضوء ذلك، يحيلنا الموضوع في البداية إلى مقولة شائعة ومتداولة كثيرة، هي مقولة الناقد الفرنسي جورج بفون (Buffon) بأن "الأسلوب هو الرجل"، والمقصود أنّ الأسلوب يكمن في شخصية الكاتب والطريقة التي تميز كاتبا جيدا من غيره، وتتلخص المقولة في طريقة التفكير والنظر في الأشياء، لهذا فإنّ مهام الناقد الأدبي، هي البحث عن الأسلوب في النص الأدبي، وفي المقابل لا تنحصر مهمّته فقط في التنقيب والفرز دون النظر السّابر والغائر في الطّابع الأسلوبي، وتحليله تحليلًا نقديًّا فنيًّا جماليًّا، لا يجانب الذوق السليم.
الآن، وبعد كلّ ما أتينا على ذكره، ننتقل للنظر في أعمال علي الفزّاع الشّعريّة، ويهمنا أن نشير إلى أنّ الأعمال التي سنتطرق لها، تضم أربعة دواوين، لذا فالقارئ سيلاحظ هذه العناوين على التوالي: الرهان الأخير، مرثية للمحطة الثالثة، الخروج من جزيرة الضباب، نبوءة الليل الأخيرة.
التشكيل الأسلوبي
تتميز أعمال الفزاع الشعرية بطابعها الأسلوبي الانزياحي، ذلك من خلال الاعتماد على رسم الصورة غير المألوفة، وكثيرًا ما يستخدم الفزّاع الأسلوب اللغوي والمعرفي؛ خدمة للغرض الجمالي والفني، الذي يسمو على النقل الحرفي المجرّد للواقع، ويرقى على لغة التعامل اليومي، يقول في قصيدة "لا تراهن عليّ":
"فأنا لم أعد سادنَ الشّعر
حين تراودني شهوة البوح
علّتي أنني في المنام أرى وطني
عنقًا مشرعًا للسكاكين"
ولا يخفى على القارئ مراد الشّاعر من هذا الاستخدام الأسلوبي، إذ يشير إلى ذاته المتشظية ما بين الحلم واليقظة، التي ترزح تحت وطأة الاغتراب.
يحسن علي الفزّاع في اختيار مفردات القصيدة، ويضفي عليها طاقة شعورية، بحيث تبدو مكونات الصورة الشعرية في أحيان كثيرة غريبة، حيث يقول في قصيدة تحت عنوان "المرحلة":
هي ذي شمس
تشرق ثانية،
تمسحُ الغيم عن وجهها،
وتعود إلى كهفها الزوبعة
وإذن آن أن نجمع الآن أوراقنا
ونسوّي الذي
بعثرته الرياح من الأمتعة"
ويعتمد الأسلوب الشعري في قصيدة "نشيد السلاح" على الحذف اللغوي، حيث يقول:
"السلاح السلاحْ
أيّها القابضون على جمركم
وعلى سعف النخل،
حين تُداهمه،
من جميع الجهات الرياحْ..
السلاح السلاحْ"
وقد أفاد الفزّاع من تقنية التشخيص في تشكيل الصورة الشّعرية، التي تقترب كثيرًا من الرمز، إذ يقول في قصيدة "مقاطع من سيرة زيدان المعثر":
"الربابةُ ذات الربابة،
لم تتغيّر
والثياب التي سئمت عمرها،
والجبين الذي ببقايا الزمان
تعفّرْ"
يتناول عكّازه"
وفي قصيدة "مرثية للمحطّة الثالثة"، حاول الشّاعر تشكيل الصور الشعرية بالاعتماد على أسلوب تبادل الأدوار، الذي يظهر في هيئة غير المتوقع، إذ يقول:
"كلُّ المداخل تُوصد دوني
ويكنسني العسكريُّ
على العتبات"
التشكيل المعرفي
هي المكونات الثقافية المشكّلة في بناء النص الشعري، التي تجلت من خلال استدعاء المخزون المعرفي، ومن الملاحظ أنّ الفزّاع ينوّع في مصادر المعرفة في نصوصه الشعرية، من مصادر دينية وأدبية وتاريخية وشعبية وأسطورية.
استخدم الفزّاع التعبير الشعبي الشائع (الذي فات مات) في قصيدة بيان رقم 101، لإبراز التناقض الذي يشعر به، وتجسيدا لرؤيته، الباعثة على التحدي والإصرار، إذ يقول:
"غيمة للرحيل/ وبوصلة لجميع الجهاتْ/ والبلاد التي كنت ودعتها/ واحتوتني دروب/ بلا عدد/ وهي ماثلة في دمي/ مثل أيقونة للشتاتْ/ ها أنا بعد دهرٍ/ من الدم والشهداء/ وعلى منبر جميع اللغاتْ/ ها أنا أعلن الآن أنّي/ أغسلُ منها يدي/ وأقول بملء دمي/ الحروب انتهت/ والذي فات ماتْ".
وإذا ما تابعنا قراءة القصيدة إلى نهايتها، فسنخرج باستنتاج أنّ الفزاع قد وظّف مضمون المثل الشعبي بأسلوب مخالف للأسلوب الشّائع والمتعارف، محاولا من خلال التحوير والتبديل أن يبدد اليأس ويبعث في النّفس الأمل:
"ويجيء الصدى
مثقلا بالرؤى
ودم الشهداء
الحروب التي ابتدأت ما انتهت
والذي مات يبعث حيا
والغد الطفل لا بد آت"
الملاحظ أنّ الشّاعر يستخدم التّعبير الشّعبي الذي يتبادله النّاس بدلالة تتعاكس مع الدّلالة السّابقة، ليقف ـ كما يتضح من المقطع السّابق ـ موقفًا مضادًّا من الآخر؛ رغبة في التحدي والمواجهة والتّمرد، وخرق كلّ ما هو مألوف ومعتاد.
وعلى هذا الغرار، يستخدم الفزّاع في قصيدة "السّيّد" التي لا تخلو من السّخرية، التعابير الدارجة في الحياة اليوميّة؛ لتوحي بصدق التجربة الشّعورية، إذ يقول:
"فليكن ما ترى
وأدِرْ فوق أعناقها مِنْجَلكْ
لا تخفْ
سترى من يُطبِّل لكْ
وَتَرَى مَنْ يُزمِّر لكْ"
إنّ حضور اللغة المحكية يسوّغ وجودها في الواقع الشّعري، خاصّة أنّ السّياق هنا يتنزل ضمن دائرة السّخرية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ الشّاعر لم يقصد توجيه خطابه إلى متلقين معينين (متخصصين)، بقدر ما أراد إيصال فكرته إلى عدد كبير من المتلقين، بصرف النظر عن مستواهم الثقافي، وبالنتيجة؛ لم يعد انتقاء التعابير المحكية مجرد زينة، من هنا تتميز نصوص علي الفزّاع الشعرية بأنّ الفصيح غالبا ما يتداخل مع العامي.
يستعين الشاعر علي الفزّاع في سياقه الشعري بتوظيف النصوص الدينية، خاصة الآيات القرآنية، مما من شأنها أن تسهم بفاعلية التشكيل الأسلوبي، لذلك يستدعي الآية القرآنية في قصيدته "الغزاة" ويتصرف بها بما يتناسب مع رؤية القصيدة، وأحيانا قد يضطر إلى ذلك؛ بحثًا عن الإيقاع الموسيقي الذي اختاره للقصيدة:
"أيها الحالمون بدفء الشموس هنا
وليالي السمرْ..
أيّها المزدهون بأحلامهم
والسلاح الّذي ليس يُبقي
على أحد أو يذرْ"
ويشير الفزّاع إلى سدرة المنتهى الواردة في القرآن الكريم، وذلك حين يوجّه خطابه إلى الفارس، الذي يرمز إلى الأمل والحلم:
"ما تبقى من الدرب غير القليل
فلتكن أيّها الفارس الممتطي جرحه
أوّل الواصلين إلى
سدرة المنتهى
ولتكن مثلما كنت فينا الدليل"
ويستخدم الفزاع معنى آية الكهف في قصيدة "الرهان الأخير"، مازجًا بين فتية أهل الكهف والمدافعين عن حمى الأرض والوطن:
"ويرش على جرحك الملح أنّ الذي
قد تقضّى من العمر،
راح سُدى..
إنّهم فتية آمنوا
بالتراب الذي جُبلت منه طينتهم
ومضوا
كلما أطبق الليل من حولهم
زادهم حبهم للتراب هدى"
ويتخذ الفزّاع من الشعراء السّابقين خاصة الأوائل مادة معرفيّة خصبة، ينسج حولهم مضمون نصّه الشعري، فيرسمهم بصورة جديدة، مستمدًّا من رؤيته للواقع الراهن، ومن أبرز الشّعراء الذين استدعاهم الفزّاع، وجعله محورًا لمضمونه المعرفي، الشاعر المتنبي، الغني عن التّعريف، وقد حاول أن يكسبه بعدًا ذاتيًّا، فيقول في قصيدة "البكاء على جدع نخلة":
"أطلّ من الرمل وجه أبي الطيب المتنبي
وأرعدَ فيّ على حين غفلةْ
تقدّم، فإنّ لنا الآن سيفًا ودولةْ"(5)
يتضح أنّ الفزّاع يتّخذ من المتنبي معادلًا موضوعيًّا لذاته، وبمناسبة الكلام عن الشاعر المتنبي، يجدر بنا أن نذكر أنّه من الشخصيات التي استحوذت على اهتمام الشعراء المحدثين، الأمر الذي جعلها تفقد الكثير من خصائصها الفنية الإيحائية، ولعلّني أتفق مع وجهة نظر علي عشري، في قوله: ما إن ينجح شاعر في استدعاء شخصية تراثية، حتى يتكالب بقية الشعراء على نفس الشخصية (6).
المضامين الدلالية
تتنوع الحقول الدلالية في الأعمال الشّعرية عند الشاعر علي الفزّاع، حيث يمكن إجمالها على النّحو الآتي: الحبّ، الوطن، الحزن، البكاء، المرأة، الاغتراب، الحنين، إلى ما آخر ما هناك من أغراض.
وفي نهاية الوقفة، نستنتج، أنّ علي الفزّاع في نصوصه الشعرية، يستمد إطاره الأسلوبي والمعرفي، من لغة البلاغة والإيجاز والتكثيف والرمز، ومن الرّصيد المعرفي المستمد من المخزون الثقافي.
*باحث وناقد، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد الحديث.
المصادر والمراجع:
(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، منشورات وزارة الثقافة، 2014، ص 194.
(2) انظر، مدخل إلى علم الأسلوب: شكري عياد، ط1 ـ 1982، دار العلوم للطباعة، الرياض، ص 13.
(3) الأفكار والأسلوب: أ. ف. تشيتشرين، تر. حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ص 8.
(4) انظر، الأسلوبية والأسلوب: جيرو ببير، تر. منذر عياشي، مركز الإنماء القومي، ص 6.
(5) الأعمال الشعرية: علي الفزّاع، ط1 ـ 1996، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، عمّان.
(6) استدعاء الشخصيات التراثية: علي عشري، ط1 ـ 1978، الشركة العامة للنشر، طرابلس، ص 373.