على وقع دولار يفوق السبعة آلاف ودولار آخر يفوق الثمانية آلاف، وجوع يزحف بسرعة الصوت نحو بطون
اللبنانيين الخاوية منذ أشهر، عقد لقاء بعبدا بمن حضر وبغياب الأوزان الثقيلة والممثلة في الطائفة السنية مع كامل الاحترام لكل الحاضرين. لقد التقى المجتمعون على عناوين فضفاضة شبع اللبنانيون والمجتمع الدولي من سماعها، كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع قادم لا محالة.
هذا الحوار الغارق بتصوير المشهدية الاقتصادية والسياسية السابقة والحالية، التي غدت مشهدية سوريالية من نوع آخر؛ تبدأ من كلام السيد حسن نصر الله برفع سقوف السلاح وجدواها ومعركته التي هي خارج أي حسابات وأي جدول أعمال قادم، لبنانيا أو إقليميا ودوليا، وكلام ديفيد شينكر الواضح حيث لم تعد الرسائل في الباطن بل بالمباشر، وكأني بالمسؤول الأمريكي نائبا لبنانيا أو مندوبا ساميا أو حتى وزير مستعمرات يخاطب الأطراف اللبنانية بالعمق، مشرّحا الأزمة عوضا عن كثير من اللبنانيين.
لقد قال شينكر في حديث صحفي نشر الأربعاء في وسائل الإعلام اللبنانية: نعم هناك عقوبات ستطبّق في لبنان تتعلق بمكافحة أنشطة
حزب الله، وكذلك عقوبات بإطار قانون ماغنيتسكي لمحاربة الفساد في لبنان، مشددا على أن "الولايات المتحدة تبقى ملتزمة مع القوات المسلحة اللبنانية، التي أثبتت أنّها شريك ممتاز في محاربة الإرهاب والتطرّف، وسنستمر بالتعاون مع الجيش اللبناني وتقديم المساعدات اللازمة له".
وحول كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن أن الولايات المتحدة تمنع دخول الدولار إلى لبنان، قال شينكر: "هذه الاتهامات هي من نسج الخيال ولا علاقة لها بالواقع، والولايات المتحدة لا تمنع دخول الدّولار إلى لبنان، حيث إنّ سبب ارتفاع الدّولار في لبنان يعود إلى ارتفاع الطّلب عليه بغرض تهريبه إلى سوريا، كما أنّ الارتفاع هو لشح الدّولار في المصارف وسنوات من الفساد في لبنان وغياب أي إجراءات للإصلاح، كتحصيل العائدات الجمركية التي يحرمها حزب الله للدولة اللبنانية عبر التهريب الذي يمارسه في المرافق الحدودية. كلّ العوامل التي تؤدّي إلى ارتفاع سعر صرف الدّولار في لبنان لا علاقة للولايات المتحدة بها إطلاقا، بل هي عوامل داخلية تتعلق بالفساد وبتهريب الدّولار إلى سوريا والتهرب الضريبي والجمركي لحزب الله".
واعتبر شينكر أن الدعوة لتوجّه لبنان نحو الشّرق وتحديدا نحو الصّين وروسيا وإيران، دعوة صادمة، "فهل يخبرنا أحد عن حجم المساهمات المالية والتقديمات الصينية للبنان؟ كم قدّمت روسيا من مساهمات مالية للبنان؟ وفي هذا السؤال ألف إجابة لما هي القدرة لدى الشرق في دعم لبنان المنهك!!".
وردا على قول السيد نصر الله، إن "أي فريق يضعنا بين قتلنا بالسلاح أو بالجوع بهدف نزع سلاح المقاومة سنقتله سنقتله سنقتله"، قال: "هذه العبارة دفاعية جدا.. ما يفعله حزب الله للاستحواذ على النظام المالي اللبناني وتدمير سمعة المصارف في وقت تمرّ المصارف بأزمة قاسية؛ بنشاطاته المتعلقة بغسيل الأموال والتورط بتجارة المخدرات التي تهدد سمعتها (المصارف)، كما أنّها تهدد تعافي النظام المالي اللبناني عبر القيام بتحركات وإجراءات تستفز إسرائيل، وهذا ما لا يريده لبنان في الوقت الحالي. ما يفعله حزب الله هو تهديد تام للبنان في وقت لا يستطيع لبنان تحمّل أي أزمة إضافة إلى أزمته المالية، وهذه تصرفات غير مسؤولة".
وكأني بشينكر يقول أنا الخصم والحكم، بداية من صندوق النقد بالمفاوضات الحاضرة مع الدولة اللبنانية التي تفوح رائحة عدم جدواها بفعل السيد الأمريكي الحاكم الفعلي في صندوق النقد، وصولا إلى حكاية وضع لبنان بكليته في عنق الزجاجة والقول على الملأ: عندي وحدي الترياق الذي يعكس المعادلة الجديدة: السلاح مقابل رغيف الخبز..!!!.. التي لا يعرف إلى متى تستمر..!!!
وانسجاما مع التوجه الأمريكي صدفة أو تأكيدا للتحالف والتناغم مع الأمريكي، قاطع الكثير من الأطراف حوار بعبدا الجديد، ولكن الأخطر أن الحوار كان أعرج بغياب الأطراف الوازنة في الطائفة السنية دون مواربة، في مواجهة واضحة مع العهد، حيث قال الرئيس فواد السنيورة بعد اجتماع رؤساء الحكومات السابقين:
"تلقينا دعوة من فخامة الرئيس العماد
ميشال عون لحضور اجتماع في القصر الجمهوري يوم الخميس المقبل، ونحن لم نتأخر يوما، مجتمعين أو منفردين، عن تلبية أي دعوة من هذا القبيل، ولطالما تجاوزنا الكثير من الحساسيات والشكليات للتجاوب مع مقتضيات المصلحة الوطنية، لكن هذه الدعوة، اليوم، والهدف المعلن منها، تبدو في غير محلها شكلا ومضمونا، وتشكل مضيعة لوقت الداعي والمدعوين، في وقت تحتاج البلاد في رأينا إلى مقاربات مختلفة لانتشالها من الأزمة الحادة التي تعيشها، ولاستعادة ثقة المواطنين التي انهارت، والحاجة لطمأنتهم إلى المستقبل بما يؤكد احترام
اتفاق الطائف والدستور، وتأكيد القرار الوطني الواحد، ووقف تفلت الحدود، والحرص على استقلالية القضاء عبر الإفراج عن التشكيلات القضائية، كما قررها مجلس القضاء الأعلى، بدل نسف مبدأ الفصل بين السلطات، ووقف الركون إلى تأويل النصوص لاختراع مفاهيم خارجة عن أحكام الدستور والقانون، أو التفتيش عن ثغرات غير موجودة فيه لتدمير ما صاغه اللبنانيون في اتفاق الطائف، من توازن وطني وحرص على النأي بالنفس".
ومن خلال البيان يتضح أن
السنّة باتوا يشعرون القلق على مشاركتهم الوطنية، وقدرتهم في المحافظة على ما يسمى مكتسبات اتفاق الطائف لهم، ومن ثم باتوا يصورون العهد بمواجهة معهم مباشرة أو مواربة، وتجلى ذلك بكلام رئيس الحكومة السابق السنيورة الذي تحدث عن الوضع اللبناني وأزماته المتشعبّة، مؤكدا نظرة متشائمة في ظل غياب أي مؤشرات للتغيير، عادّا أن قبضة حزب الله على الدولة تتعمق، وأن رئيس الجمهورية ميشال عون يعيش حالة إنكار للوضع في لبنان. ويقول السنيورة: "مرحلة الفراغ الرئاسي كانت أفضل من عهده، بينما تفتقد الحكومة الرؤية والتبصر، ما يجعل لبنان أمام خطر الانهيار". وفي ذلك تناغم مع الرؤية الخليجية التي أعلنها الوزير قرقاش من الإمارات، حيث أكد مضمون الكلام تماما.
وكذلك غرد الرئيس سعد الحريري رئيس تيار المستقبل، قائلا: "عهد وحكومة عهد يقودان اللبنانيين إلى المجهول بتحويل الاقتصاد رهينة تصفية الحسابات السياسية".
كذلك قال في تغريدة أخرى: "العهد القوي ينافس الرئيس القوي بسرعة الفشل والتخبط والكيدية، وخرق الدستور والإمساك بالتعيينات".
وليس ببعيد، أكد الرئيس نجيب ميقاتي ما حرفتيه للعهد بأنه "طفح الكيل منك ومن مواقفك".
وكذلك الرئيس تمام سلام الذي اعتبر أن "الوضع الحالي نتيجة تراكم الأزمات كأنها أصبحت من اختصاص هذا العهد، ومن التعطيل الذي يمارسونه فيه"، مشيرا إلى أنّ "جزءا من مشكلات عهد الرئيس ميشال عون، أنه ليس على مسافة من الجميع، وأنه ينحاز انحيازا واضحا لفريق على حساب آخر، فيما يفترض أن يؤدي دور الحكم".
وهذا إضافة إلى كلام المفتي دريان الذي قال بوضوح؛ "إننا نطلب من جميع السياسيين أن يلتزموا بنصوص الدستور واتفاق الطائف؛ لأن اللبنانيين دفعوا ثمنهما دماء عزيزة. فنحن سنقف كمرجعيات دينية سدا منيعا أمام الالتفاف على نصوص اتفاق الطائف، ونؤكد الحفاظ على الصلاحيات الدستورية للرئاسات الثلاث".
ومن ثم السؤال الواجب في لبنان، الأزمات التي لم نعد نعرف من أين تبدأ وأين تنتهي: هل بات السنة في مأزق الصلاحيات والتمثيل وضعف المواقع؟ علما أنهم ما شعروا ذلك حتى أيام الحرب وحتى أيام ما قبل الميثاق. فهل هم مأزومون أم الوطن كله مأزوم معهم ومن خلالهم؟
هل لبنان يحتمل الإحباط السني والشعور بالغبن؟ وهل كلفة ذلك بالسهل في جمهورية تكاد تنهار أمام الجميع بفعل المؤشرات الاقتصادية التي لا تحتاج إلى كثرة تحليل؟
هل يملك السنة زمام المبادرة والقدرة في مواجهة العهد؟ وهل يملكون القدرة على التعطيل في دولة ملوك الطوائف؟ ومن ثم، هل السنة في أزمة قادة حقيقيين أم إن أزمات المنطقة انعكست عليهم؟
هل ضعفهم يعود إلى التخلي عنهم من قبل دول الخليج العربي التي تعتبر بحرهم ومداهم الطبيعي، بفعل ضعفهم في الصيغة الحالية القائمة بعد التسوية الرئاسية الأخيرة؟
إن المؤكد أن لبنان البلد العصي على التقسيم لا يحتمل تحييد طائفة وازنة عن المشاركة في الحكم، في ظل ظروف معقدة على كل الصعد، خاصة إذا ما تأكدت الأجواء التي توحي بحرب قادمة على كل المنطقة؛ لن يكون لبنان بعيدا عنها.
إن ابتعد السنة بإرادتهم أو تم إبعادهم؛ مقدمة خطرة غير محمودة لتطير اتفاق الطائف، وقد تشكل مدخلا لمؤتمر تأسيسي لصيغة حكم جديد غير مضمون لأي كان في قدرته الحفاظ على وجوده ومكتسباته، مهما امتلك من أوراق في لعبة التوازنات القادمة الممزوجة بوجع اللبنانيين المنتفضين في الشوارع، حيث البرادات الفارغة والأمعاء الخاوية والدولار الطائر على بساط الريح؛ في لعبة الأمم التي لن ترحم أحدا في الداخل، خاصة بعد الانهيارات الاقتصادية العالمية الحاضرة مع كوفيد- 19.
إن السؤال الجوهري الحاضر بقوة: هل نحن أمام أزمة طائفة بعينيها، أم أمام أزمة حكم؟ أم بداية انهيار المنظومة كاملة طائفة تلو أخرى في لعبة حجار الدومينو، التي بدأت بسقوط حكومة الرئيس الحريري الأخيرة والبقية تأتي لاحقا، ضمن أحداث قادمة على لبنان والمنطقة؟