هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"القَهَواتُ في المدينة لها مناضِد يبسطون عليها الأغطية، وشرفات ذات ظلاّت ملونة تتلألأ فيها المصابيح. وهنالك الحاكي أعجوبة الدهر: آلة من حديد لها صوت إنسان، تنطلق فتغني أو تنبعث منها نغمات العزف على آلات الطرب دون انقطاع، فتشيع في القلوب الأنس والمراح"
في مقالٍ قريبٍ عن مجموعة (أرخص ليالي) ليوسف إدريس، تحدَّثنا عن مَيلِه إلى استخدامِ تعبيراتٍ مُوغِلَةٍ في المصرية في مَتن سَردِهِ، إمّا بعد أن يُفَصِّحَها وإمّا دُون تفصيح. ولعلّ هذا المَيلَ يقفُ وهذا الاقتباسَ عالِيَه على طرفَي نقيض. فالاقتباسُ ليس من وصف الرّاوي للأحداث، وإنما يَجري على لسان أحد أبطال قصّة (بُو طَنُّوس) ضمن مجموعة (نبُّوت الخَفير) لرائد القصّة المصرية (محمود تيمور)، وهذا البطَل هو شابّ لبنانيّ يعمل نادلاً في مقهىً مملوكٍ لأبيه.
ولعلّ الأسلوب المتفاصِح يبدو لنا أبعَد ما يكون عمّا نتصوّرُه مِن كلام شابٍّ له ظروفُ هذه الشخصيّة، لكنّ (تيمور) لم يأبَه كثيرًا بمسألة واقعية الحِوار، فقد كان يَعنيه فيما يبدو أن يكون كلُّ عنصُر في القصّة جميلاً في ذاتِه، فصيحًا في مَبناهُ، خليقًا بأن يُقتَبَسَ وَحدَه كقطعةٍ شاعريّةٍ، بمفهوم الشاعريّة الشائع في النصف الأول من القرن العشرين (كلاسيكي أو رومانسي أو متأرجِح بينهما)، مع العِلم بأنّ هذه المجموعة صدرَت عام 1958 في طبعتها الأولى، أي بعد صدور (أرخص ليالي) الضاربة بجذورها في طِين الواقع المصري ببضعة أعوام!
ويمُتُّ بصِلَةٍ إلى هذا الحرص على الفصاحة ملمحٌ آخَر في سَرد (تيمور)، هو أنه حتى حين يَجنَح إلى الحديث عن أفكار أبطاله يجعلُهم يفكّرُون بلُغَته الأنيقة، ففي قصة (الدرفيل) مثَلاً نجدُه يتحدثُ عن أفكارِ بطلِه السِّكِّير (الدرفيل) مُرتاد الخمّاراتِ الذي ينتظرُ ما يُلقَى إليه من فُتات موائد السُّكارَى، في مقابلِ أفكار صبيّةٍ في التاسعة تسترزقُ بالرقص لرُوّاد الحانة، فيقول: "إنه ليَعرِفُ مِن شأنِها أبعَدَ مِن هذا كُلِّه، فهو يتغلغل ببصيرتِه إلى أدَقّ ما في نفسها من خوالِج، فيؤمن بأنها في أعماق قلبها ترضى بأن يكون حاميَها والقَيِّم عليها لو أنه مستطيعٌ أن يضعَها تحت جَناحِه ويُخضِعَها لأمره، وأن يدفَع عنها الشر والعدوان.
إلا أن الصَّبيّة تعلَم أنه غير قادر على أن يضطلع بمهمته وينجح في مسعاه، وإنه ليستشفُّ ما يجول بخاطرها في شأنه، فهي لا شك تتساءل والعَجَب آخِذ منها كلَّ مأخذ: كيف لا ينتفع الدرفيل بهذا الجِرم العظيم الذي أفاءه الله عليه؟ وكيف لا يتخذه عُدّة للسيطرة والإخضاع؟ يالَه من عاجز ويا ويحه من ذليل!" هكذا تتسرّبُ لغتُه إلى أعمق أعماق أبطالِه، بينما كان (إدريس) حريصًا على أن يتقمّص عقليّة أبطالِه فيُنطِقُ وصفَه وسَردَه لأفكارِهم بلُغتِهم، وقُصاراه أن يَعمَد كما قُلنا إلى التعبير المُوغِل في المحلِّيّة فيفصِّحَه بعض الشيء.
بعيدًا عن هذه السِّمة الأسلوبيّة التي نراها وثيقة الصِّلة بثقافة تيمور ونشأته الأرستقراطيّة، تُمثّل قصص المجموعة پانوراما صادقةً للحياة المصرية في منتصف القرن الماضي، فالأحداث متراوحةٌ بين العُمّال الغارقين إلى آذانهم في شحوم الماكينات (قصة: الريِّس حميدو)، ومُرتادي الحانات الغارقين في حياتها الصاخبة (الدرفيل)، وكواليس عالَم الصحافة الموّارَة بصِراع الأفكار ومدارس التعبير (نجاح 100%)، وعالَم الباعة الجائلين وصراعِهم الدائبِ مع الشُّرطة الذي لم تَشهَد القاهرةُ له توقُّفًا إلى الآن (نبّوت الخفير)، وعالَم الوُجهاء أصحاب المناصِب حِين يقترِبُ مِن عالَم نُجوم الرياضة (ضيف الشرَف)، والحياة البورجوازية الهادئة لأستاذ التاريخ المهتمّ بجَمع التماثيل (أثَرٌ خالِد)، وحياة أرباب الفِلاحة الرِّيفيِّين حِين تهبطُ عليهم الثروة فيبدِّدونَها في البَندَر (رَجَعَ إلى قواعدِه)، وعالَم سائس الخَيل المُعدَم حِين يصطدِم بالغواية الأنثويّة للمرّة الأولى (القُبلَة بخمسة قُروش)، وُصولاً إلى عالَم الأديبِ المُحبَط الذي يتحوّل في غموضٍ إلى تاجِرِ عِصِيّ (العَصا).
هذا فضلاً عن قصّة (بوطنُّوس) التي تَدورُ أحداثُها بالكامل في قرية (بشمالا) الشّماليّة الجبليّة في لبنان – هكذا يُورِدُها (تيمور)، ولم أهتَدِ مِن خِلال البَحثِ إلاّ إلى قريةٍ قريبة الاسمِ منها هي (بشمانا) في محافظة اللاذقيَّة بسُوريّا الحاليّة، أظنُّها نفسَ القرية – وقصّة (خُلود) المستوحاة مِن عالَم العقائد المصرية القديمة ممزوجًا بفِكرة التناسُخ وتدورُ أحداثُها في فترةٍ غير محدّدةٍ تاريخيًّا، وأخيرًا قصّة (أحمر شفايف) الأقرَب في بنائها إلى حِواريَّةٍ فانتازيّةٍ بين رجُلٍ وقلَم أحمر شِفاه!
بين هذه القِصَص ثلاثٌ انحازَ فيها تيمور في وضوح إلى القصّة الحكيمة التي تحتلُّ العِظَة موضعًا مركزيًّا فيها وتصوّر جزاء الاستقامة وعاقبةَ الاعوجاج السُّلوكيّ، ففي (الريّس حميدو) يتحول الوَقّاد المرتبط في عمله بالبواخِر والبحر إلى شخصٍ متبطِّلٍ كسولٍ، وهذا التحوُّل نتيجة حادثٍ أسفرَ عن انكسار ساقِه وقضائه إجازةً مرضيّةً طويلةً استمرأ بعدها الراحةَ، فتدهورت علاقتُه بالعمل حين حانَت عودتُه إليه، ومِن ثَمَّ تدهورَت علاقتُه بأسرتِه الصغيرة.
ولا تُعيدُه إلى سِيرَتِه الأولى إلا رؤية صورة ابنتِه في الجريدة مع خبر خطبتِها إلى شخصٍ لا يعرفُه، حيث يقرر أن يعود إلى العمل ويدّخِر ما يعينُه على شراء جَهازٍ مناسبٍ لها، ويعود إلى أسرتِه منتصِرًا بالفعل بعد رحلةٍ روحيّةٍ طويلةٍ من التشرُّد وتجريب الأعمال المؤقَّتة. وفي (الدرفيل) نجِدُ تكرارًا لافتًا لحكاية التحوُّل من الاستقامة إلى الاعوجاج ثُمّ العودة إلى الاستقامة، هذه المرّة مع موظّف الأوقاف (منصور أفندي العِتر) الذي يُفجَع بوفاة زوجتِه فيهيِّئ له أصدقاء السوء أن يروِّحَ عن نفسِه بمعاقرَة الخمر، وتنزلِق قدمُه تدريجيًّا إلى إدمان الخمر، إلى درجة أن تُلهِيَه الخمر ذاتَ يومٍ عن رعاية ابنتِه المريضة فيفقدها هي الأخرى، ثم يَجِد في الطفلة (فَنطازيّة) التي ترقص لزبائن الخمّارة صورةَ ابنتِه الراحلة، وتتوطّد علاقتُه بها إلى درجة أن يقرر أن ينقذَها حين لاحَت عليها معالِم المرَض، وتنقذَه بدَورِها مِن الدرك الخُلُقيِّ الذي زلَّت قدَمُه إليه.
في الحقيقة، جسّدَت هذه التيمة القصصية موضوعًا مفضَّلاً للسينما المصرية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فنشعُرُ ونحنُ نُطالِعُ القصَّتَين أننا نشاهِد فِلمَين مصريين من هذه الفترة، تعزِّزُ هذا الشعورَ مشهَديّة السّرد عند تيمور وحِرفِيَّتُه التي لا جِدالَ عليها في وصف شخصيّاتِه وبيئتِهم وخلفيّة أحداثِهم.
أما القصة الثالثة المنتمية إلى هذه التيمة، وإن كانت لا تُحدِّثُنا عن عودة البطل إلى الاستقامة وطريق العقل، فهي (رجعَ إلى قواعِدِه)، حيث يموتُ والِد (سلمان عبد ربّه)، ويرِث هذا الأخيرُ أموالَه وأرضَه، فيحقِّق ما طالَما صبَت إليه نفسُه، ويشتري عمارةً في البندر القريب، وينتقل مع زوجتِه وأبنائه إلى سُكنى إحدى شققِها، ويقرر أن يَعيشَ على رِيع الشقق الثلاث الأخرى في راحةٍ، دون حاجةٍ إلى فِلاحةِ أرضٍ وريِّها وما إلى ذلك من مَشاقَّ عاناها طويلاً في حياةِ أبيه.
وفي أسلوبٍ يمزِج السخريةَ اللاذعةَ بالحرص على التفاصيل، يدخُلُ بنا تيمور إلى عالَم الشقق الثلاث وتدخُّل سلمان في حياة أصحابها، وهو التدخُّل الذي يُفضي به إلى ثلاث زيجاتٍ تنضَمُّ إلى زيجتِه القديمة، فيتوقّف بالتالي ما كان يَصِله من رِيع الشقق الثلاث، وتتراكم عليه الدُّيون حتى يُضطَرَّ إلى بيع العمارة وتطليق النساء الثلاث والعودة مِن حيثُ أتى! هكذا يتدعَم خيطٌ أصيل في كتابة تيمور، هو خيط الرغبة في الإصلاح الاجتماعي، فهو لا يقتصر على الرصد المحايد في هذه القصص، وإنما يتمنى – ويَحملُنا على التمنِّي – أن ينصلح حال من اعوجَّت بهم السبيل، أو يُشبِع السادِرِين في غيِّهم سُخريةً مريرة.
في قصصٍ أخرى يتحلل تيمور من هذه التيمة عالية النبرة، ويستتر في هدوءٍ خلف دور الراصِد. يفعل هذا في (بو طنُّوس) وهو يحدّثُنا عن الشابّ (طنُّوس) الذي تحتشد في رأسه أحلامُ الترقّي المهنيِّ كصاحب مقهىً متطوّرٍ رغم تقليديّة أبوَيه، ويَجِدُ طريقَه إلى هذا الترقّي بعد وفاة أبوَيه وبمساعدة زوجتِه التي اختاراها له، ثُمّ يكتمل حلمُه السعيد بالزواج مِن البنت التي شملَها برعايتِه منذ طفولتِها، وذلك بعد وفاة زوجتِه الأولى.
واللافت في هذه القصّة هو الظهور الخاطفُ للموت، حيث يعكّر صفو الحياةِ أيامًا تأخذ من حيِّز القصة سطرًا أو سطورًا قليلةً ثم تعودُ الحياة إلى معمعانِها المعتاد، إلى أن يُنهي تيمور القصةّ بقولِه "وعاش بو طنوس ووردة في الثبات والنبات وخلّفا الصبيان والبنات، حتى أتاهم هازم اللذات ومفرّق الجماعات!". هكذا لا يحرمنا من التذكرة بأنّ كُلَّ ما سبقَ كان وهمًا جميلاً مآلُه إلى الفَناء، رغم ما يَحبو به سَردَه من تلوينٍ وتفصيلٍ كأنّ أبطالَه مخلَّدُون في حياتِهم!
في (نبّوت الخفير) تتصارع الرؤية الأرستقراطية - تلك التي لا مفرَّ لتيمور منها – مع تنزُّلِه من عليائه ليتواجَدَ مع أبطالِه المهمَّشِين، ومن حُسن الحظِّ أنّ المُواجَدَةَ تنتصر في النهاية. تتجلى الأرستقراطية في فقرةٍ مثل: "وإنّ هؤلاء الباعةَ ليتصدّون للسابلة الذين يَجُوزون بهم في الطريق، فيرددون أمامهم نداءات متشابكة مهوَّشَة، لا تستطيع أن تميّز لها معنى. بَيدَ أنهم يصيبون بها أطيب الكسب. فليس ثمّة مِن حوانيت يؤدّون أجرتَها في كل شهر، وليس وراءهم من ضرائبَ يفرضها عليهم السادة المحاسبون في كل عام. ولم يكن ينغص عليهم حياتهم هذه إلا أن يَلُوحَ لهم رجُل الشرطة، ذلك الذي تُناطُ به ملاحقة هذا الصنف المارق من سُلطة القانون".
هنا ينظر تيمور إلى الباعة الجائلين من مكانٍ عليٍّ، ولا يبدو لنا أنّ تقمُّصًا حقيقيًّا لحياةِ أحدِ هؤلاء يمكن أن يَتلُوَ هذه الفقرة. لكنّه بفِعل الحدَث البسيط الذي صوَّرَه في أستاذيّةٍ - متمثّلاً في حماس شُرطيٍّ جديدٍ للقبض على أحد صِغارِ هؤلاء الباعة ونجاح البائع الصبيِّ في الإفلات من قبضتِه – يَصِل إلى قرارة نفس ذلك الصبيّ الذي يُضطَرّ إلى أكل كُلّ ما معه من حلوى (نبُّوت الخفير) للهروب من الشُّرطيّ، وهو الذي كان يستنكِف أن يأكُل من هذه الحلوى ويظنُّها قذرةً رغمَ النداء الذي يردِّدُه لترويجِها "يا أحلى من الشهد يا نبُّوت الخفير"!
هنا لا يدرك الصبيُّ لذَّة الحِمل الذي يروح ويجيء به إلا تحت وطأة مطاردةٍ مفعمةٍ بالتوتُّر، في تدبيرٍ غريبٍ للقدَر لا يمكننا أن نكتنه مَغزاه. وهي يلتذُّ طعمَ حَلواهُ لدرجةِ أن يكرر فِعلَ أكلِها كثيرًا، ويُضطَرّ إلى الكذب على مُعلِّمِه صانع نبُّوت الخفير مختلقًا حكاياتٍ عن شُرطيٍّ أصَرَّ على أكل كُلِّ ما معَه مِن حلوى، ولا يتوقف عن تكرار ذلك رغم ما ينالُه كُلَّ مرّةٍ من ضربٍ على مؤخِّرَته بهراوة المعلِّم!
ومن اللافت أنّ الصبيَّ قبل أن يبدأ الشرطي مطاردتَه تأخذُه سِنَةٌ من النَّومِ وهو مستندٌ إلى أحد الجدران، يرى خلالَها نبابيت الخفير السكريّة وهو تتهشم بن أضراسه الطاحنة "فتعلو لها ضجة تشبه دقّ الأحجار.
وظلّت دقات الأحجار تتوالى ويضخم صوتها حتى اتخذت لها طابعا متميزًا فإذا هي وقع أقدام." وكانت هذه أقدام الشرطي (الشاويش جاد الله). المهمّ هنا هو ذلك التماهي بين الحُلم والحقيقة وإفضاءُ أحدهما إلى الآخَر.
هذا التماهي وذلك الإفضاءُ يمكن أن يتّسِعا ليشملا علاقةَ الحكايةِ نفسِها – بوصفِها حُلمًا – بواقعِنا كقُرّاء، فأيٌّ مِنّا لم تَمُرّ بحياتِه حادثةٌ مماثلةٌ ساقَت إليه لذّةً كان يستهجنُها بينما يحاول النجاةَ ممّا يكرَهُه؟! وأيٌّ مِنّا لم يتعلّم تحمُّلَ وخزاتِ الإثم – الشبيهةَ بضربات هراوة المعلّم على مؤخرة البائع الصبيّ – في سبيل لذّةٍ قصيرةٍ عاجلةٍ، ولم يتعلم في سبيلِها كذلك اختلاقَ الأكاذيبِ وتكرارَها؟!
وأيٌّ منّا أخيرًا لم يشعر ذاتَ يومٍ أنّه واقِعٌ بين نبُّوتَي خفيرَين (ممثَّلَين في تهديدَي الشرطيِّ والمعلّم)، وأنه يحاول بينهما أن يقتنص من اللذّة السريعة واللحظاتِ الهنيئة ما يستطيعُ إليه سبيلاً، ويا حَبَّذا لو كان مصدر هذه اللذّة شيئًا يُشبهُ النبُّوتَين ظاهريًّا، وإن كان يفترِقُ عنهما في مضمونه ومعناه وخامتِه الأوّليّة؟! لقد كان الصبيُّ المسكينُ بمعنىً من المعاني يأكُلُ الخطرَين اللذَين يتهدّدانِه، وينتقِمُ منهما في شخص الحلوى اللذيذة الرخيصةِ التي كان يُفترَضُ أن يبيعَها ويؤدّي للمعلم رِبحَها!
في تقديري أنّ هذا الصبيّ هو بطل أبطال هذه المجموعةِ، وأكثرُهم إنسانيّةً، إذ اختلَجَت فيه لحظاتُ الألم واللذة، والزهو والخِزي، والضعف والقوّة، كما ينبغي أن تختلج وتتواشَجَ في الإنسان كما نعرفُه. وربما لهذا نظر أديبُنا العظيم إلى مجموعته متأمّلاً فلم يجد أسمى مِن عنوان هذه القصّة ليجعله عنوانًا للمجموعة.
في (أثرٌ خالد) نجدُ ضعفًا إنسانيًّا آخر يتجاوبُ وما في (نبوت الخفير) ممّا قُلناه. فأستاذ التاريخ الذي أرهقَته تكاليفُ الأسرة، والذي رُقِّيَ إلى ناظرٍ لإحدى المدارس فتوقّف عن تدريس التاريخ، يتوقف كذلك تحت ضغط أعباء الحياةِ عن متابعة شغفِه القديم بجمع التماثيل المُشكَّلَة على هيئة آثارٍ نحتيةٍ فرعونية، لاسيّما أنّ زوجَته لا تفتؤُ تسخرُ من ذلك الشغف ولا تقيم له وزنًا، وأولادَه يحوِّلُون مقتنياتِه تلك إلى لُعَبٍ ويُشبعونها تشويها.
لكنّ القدَرَ يَسوقُ إليه عن طريق أحد أصدقائه القدامى عالِمًا أمريكيًّا شغوفًا بالحضارة المصرية القديمة، يُبدي ولَعًا بالغًا بتمثالٍ لرمسيس الثاني، يعتقِدُ مِن جُملَة ما يراه عليه من ندوبٍ وقُروحٍ أنه أثريٌّ يعود إلى الأسرة التاسعة عشرة! والمهم أنه يعرض على بطلِنا خمسمائةَ دولار (وهو مبلغٌ كبيرٌ في ذلك الوقت) ثمنًا للتمثال، ويوافق صاحبُنا، ساكتًا عن الحقيقة التي يعرفُها مِن أنّ التمثالَ أبعَدُ ما يكونُ عن الأصليّة!
وبعد إتمام الصفقة ومُضِيِّ الأمريكيِّ إلى حالِ سبيلِه تأخذ الزوجةُ على عاتقِها تبكيتَ الزوجِ حتى تُشعِرَه بالندم على قبولِه أولَ ثمَنٍ يعرضُه الزائرُ، وتشكِّكُه فيما يعرفُه. في النهاية، يكونُ لدينا أمرٌ واقِعٌ هو توفُّر مالٍ للأسرةِ مِن حيثُ لم يحتسب الزوجان، كفيلٍ بحلّ بعض مشكلاتها الماليّة، ولدينا مشكلةٌ معرفيّةٌ بالِغة العُمق، حيث تهتزّ أركانُ ثالوث المعرفة (الاعتقاد والفرض والحقيقة) أمام أستاذ التاريخ الحائر، فلا يدري كيف أصبحَ التمثالُ مستحقًّا هذا الثَّمَن، ولا يدري إن كان فِعل أولادِه بالتمثال هو ما رفعَ قدرَه هكذا أم لا! باختصارٍ، هو محصورٌ بين تهديدَين، تهديد الأعباء الماليّة العائليّة، وتهديد ضميرِه الحائرِ أمام المشكلة المعرفيّة المفاجئة، وبين التهديدَين له أن يستمتع بالثروة الصغيرة التي هبطَت على رأسِه أو لا يستمتع! هل هو نبّوت خفيرٍ آخَر؟! لا أحبُّ أن أبالِغَ في مقاربة عناصر هذه القصة وسِواها إلى عناصر القصة حاملة عنوان المجموعة، وإن كان تجسيدُ المأزق الإنسانيِّ هنا وهناك أبلغَ ما يكون.
لا أحب كذلك أن أحرق ما تنطوي عليه المجموعة من إمكاناتٍ متعددةٍ للقراءة، وحَسبي أن أشير من بعيدٍ كما فعلتُ إلى جُملةٍ مِن سِماتِها وهمومِها التي نفخ فيها تيمور – رحمةُ الله عليه – مِن رُوحِه الراقيةِ، تلك الرُّوح التي صارعَت بعض عناصر تكوينِها الثقافيّ لتُلقِيَ بنفسِها وبنا في أَتُون الخبرة المعذَّبَةِ لأبطالٍ اختارَهم بعنايةٍ ليطرحَهم أمامنا على الورَق.