ميّز
انتخابات الطور الثاني لبلديات
فرنسا، المنظم يوم الأحد (28 حزيران/ يونيو 2020)، عنصران بارزان، هما: عزوف الجسم الانتخابي عن المشاركة، بنسبة غير مسبوقة في
تاريخ فرنسا، وصلت بحسب الإحصائيات الأولية إلى 60 في المئة، وتصدّر حزب الخُضر (Ecologistes) قائمة الفائزين، وانتزاعه مقاعد كبريات مدن فرنسا، وهي سابقة في الحياة السياسية الفرنسية خلال الجمهورية الخامسة.
وإلى جانب هذين العنصرين هناك رسائل جديدة حملها اقتراع البلديات للنخبة الحاكمة وعموم الفاعلين السياسيين، تتعلق بعودة اليسار بكافة مكوناته، وتراجع القوى التقليدية، بما فيها
حركة الرئيس "ماكرون" (الجمهورية إلى الأمام).
ليس في الإمكان، قبل أن يمر وقت معقول على الإعلان الرسمي عن نتائج اقتراع البلديات واستقرارها نهائيا، تحديد مصادر العزوف الحاصل، وتشخيص أسبابه بشكل قطعي، لكن من الممكن التأكيد على عدد من المؤشرات الممكن الاسترشاد بها في تفسير ظاهرة الامتناع عن المشاركة في الاستحقاقات البلدية.
فمن جهة، هناك شبح الخوف من وباء "كوفيد- 19"، والسعي إلى تجنب الاحتكاك الاجتماعي ربما كان وراء عدم المشاركة، علما أن مجريات الاقتراع أثبتت ضعف التصويت حتى في الدوائر الأقل تفشيا للوباء. ويكون الدافع، من جهة ثانية، رغبة المواطنين إبلاغ رسالة مفادها دعوة النخبة الحاكمة إلى مزيد من الشفافية والمصداقية، والإنصات لمطالب الناس، عوض الاستمرار في الممارسات التي ميزت سنوات حكم الرئيس "
ماكرون"، التي بدأت تقترب من نهايتها (2017-2022).
وقد يكون، إلى جانب ما سلف، مصدر ثالث يرتبط بمطالبة الجسم الانتخابي غير المشارك في الاقتراع الأخير، بصياغة حلول واقعية قابلة للتطبيق، وذات فعالية ونجاعة للمشاكل البيئية والاجتماعية التي ألمّت بالمجتمع الفرنسي، وحوّلت فضاءَه العام إلى ساحة للاحتجاج والاعتراض على السياسات المتبعة خلال الولاية الرئاسية الحالية.
وفي كل الأحوال ثمة قلق متزايد داخل المجال السياسي الفرنسي بما حصل من عزوف غير مسبوق، وخطورة تأثيره السلبي على حيوية والحياة السياسية وفعاليتها، في بلد يختزن موروثا تاريخيا كبيرا وثريا في مجال المشاركة
السياسة الديمقراطية.
لا شك في أن نتائج اقتراع البلديات، والتأثيرات الناجمة عنها بالنسبة للفاعلين السياسيين، ستتحكم لا محالة في الخريطة السياسية القادمة في فرنسا. فمن زاوية مؤسسة الرئاسة، سيجد الرئيس "ماكرون" نفسه أمام توازنات جديدة على صعيد البلديات في كامل المحافظات، وسيكون مطالبا بالتحاور مع تنظيمات مختلفة عن حركته، والبحث عن توافقات حول القضايا المحورية في سجل مطالب هذه القوى، وعلى رأسها قضيتا "البيئة والعدالة الاجتماعية".
ثم إن صعود قوى جديدة، كحركة الخُضر، وعودة الحياة إلى تنظيمات اليسار، وتحديدا الحزب الاشتراكي بعدما تراجعت مكانته في انتخابات عامي 2014 و2017، سيفعل، دون شك، في رسم المستقبل السياسي للرئيس "ماكرون" وحركته السياسية إن هو أراد الترشح مرة ثانية لرئاسيات 2022.
ومع ذلك، سيكون من السابق لأوانه توقّع ما سيحدثُ في الحياة السياسية والحزبية الفرنسية قبل استقرار النتائج النهائية، ووضوح ردود فعل
الأحزاب المتنافسة حُيالها. فمن الأسئلة المطروحة بخصوص آفاق التطور بعد اقتراع البلديات، كيف ستستثمر القوى الفائزة نتائجَها؟ وما السبيل لتحويل انتصارها إلى قوة سياسية حقيقية في المؤسسات الفرنسية، بما في ذلك الاستحقاق الرئاسي القادم (2022)؟
لعل من أكثر المتضررين من نتائج اقتراع البلديات؛ الرئيس الفرنسي وحركته "الجمهورية إلى الأمام"، التي لم تستطع كما يبدو ترسيخ وجودها داخل المجتمع الفرنسي بعد أربع سنوات من إنشائها، بدليل "الموجة المتصاعدة" لتيار الخضر وظفرهم بحواضر بالغة الأهمية في النسيج العام الفرنسي، من قبيل مدن: ستراسبورغ، وبوردو، وباريس وليون، وتور، وبزنسون، وبواتييه، وأنسي، وليل. لذلك، يبدو هامش العمل بأريحية بالنسبة للرئيس "ماكرون" أصبح ضيقا في ضوء هذه النتائج، وسيزداد اشتدادا مستقبلا، بسبب ضعف دائرته السياسية العامة، وتصاعد اليسار بكافة مكوناته.
ثم إن الحزب الرئاسي الذي ظفر بأغلبية الجمعية الوطنية قبل ثلاث سنوات، فقد العاصمة باريس، وأصبح يواجه تراجعا في شعبيته، وحتى رئيس وزرائه "أدوار فليب" تنامت قوته بفوزه بأغلبية جد وازنة في دائرته بمحافظة "الهافر" (le Havre).
تُجمع أغلب الآراء على أن الوضع العام الفرنسي، والحالة الاقتصادية والاجتماعية على وجه الخصوص، تشكو الكثير من الصعوبات والتعقيدات، وأنها تحتاج إلى رؤية أكثر
قدرة على التغيير نحو الأفضل، وربما زادتها جائحة "كورونا" تعقيدا وتراجعا.
لذلك، سيكون من الصعوبة بمكان إعادة الحياة السياسية الفرنسية إلى وضعها الطبيعي، مهما كانت قدرة وكفاءة النخب الجهوية والبلدية الجديدة، فالبلاد في حاجة إلى تجاوز الوباء وآثاره، والاقتصاد ينتظر من يُعيد إطلاقه وتقويته، والفجوات الاجتماعية تزداد اتساعا، والمحيط الإقليمي والعالمي يشكو هو الآخر من أسباب الانكماش نفسها. وكلها عوامل ستحد من قدرة النخب الجديدة على إعادة فرنسا إلى وضعها الطبيعي، مهما كانت الإرادات والتطلعات.