هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "الأوصاف التجسيدية للخالق في التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي: تمثيل ما لا يمكن تمثيله".
المؤلف: ذو الفقار علي شاه
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة: الأولى
سنة النشر: 2020
يتميز هذا الكتاب أولا من خلال كاتبه، فالمؤلف الدكتور ذو الفقار علي شاه، هو أحد المتخصصين في اللاهوت والدراسات الدينية، وقد حصل على الدكتوراه في التخصص ذاته من جامعة ويلز البريطانية، كما أنه يكتسي أهميته من كونه يتناول قضية حساسة لا يريد علم الأديان المقارن أن يقتحم أسوارها بقدر من الموضوعية العلمية، إذ لا يقتصر هذا الكتاب على مقارنة الأديان من جهة حضور التشبيه والتجسيم في الكتب المقدسة الثلاثة: القرآن والعهد الجديد والعهد القديم، ولكنه، يقرأ هذه القضية في علاقتها بتطور الفلسفة، أي يقرأ النظرة الدينية والموقع الذي احتله الإله في النص الديني بتطور المنظور الإنساني للدين، وموقع الدين في الحياة.
يقدم الكتاب قراءة أخرى مختلفة عن القراءات التي هيمنت وفرضت ذاتها في الكتابات المعاصرة، فقد جرت العادة أن تقرأ الدين من منظار الوضعية باعتباره صناعة بشرية اصطنعها الإنسان للدفاع عن نفسه وتأمين ذاته وتلبية حاجاته، وأن الدين ليس سوى مرحلة من مراحل وعيه، ذلك المنظار الذي يسوغ للعلمانية وأخذ المسافة عن الدين وإزاحة الدين عن حقل السياسة والإعلان عن موت الإله في حقلها، بحيث يبرر الاستغناء عن الدين في التجربة الغربية بمسار الصراع بينه وبين العلم، والدور الذي قام به لإيقاف التحديث ومعاندته للحرية فضلا عن الدور الذي قام به ضدا على الحقوق الاجتماعية والسياسية والنزوع نحو الحرية والدمقرطة..
هذا البحث يسعى لإثبات أطروحة أخرى مغايرة، ترتبط في الظاهر بالتفاصيل، أي تفاصيل النص الديني، ولكنها في الجوهر تفسر أسباب التحول عن الدين، والأسباب العميقة التي تفسر نمو النزعة الوضعية والتطورية ثم نزعة الاستغناء عن الإله والإعلان عن موته.
تنطلق هذه الأطروحة من مسلمة قوية، ترى أن موقع الإله وصفاته داخل النص الديني في نسخته اليهودية أو المسيحية، قد شابها كثير من التشبيه والتجسيد، حتى أضحى الله غير مختلف عن الإنسان في شتى توجهاته وطموحاته، ونزوعه إلى العرق والقومية وما إلى ذلك، وأن هذا الركام المكتظ من التشبيه والتجسيد الذي اختلط به التوحيد هو الذي دفع الدراسات الانثروبولوجية المبكرة إلى الاعتقاد بأن الدين هو فكرة أنشأها الإنسان من تلقاء ذاته لمواجهة احتياجاته أو لتبديد مخاوفه، وأن أكبر مستند تم اللجوء إليه سواء من قبل الفلاسفة المتقدمين، أو الانثروبولوجيين المتأخرين في إثبات هذه المقولات هو فكرة التجسيد والتمثيل والتشبيه، التي صورت الإله كما ولو كان إنسانا يتلبس بكل ممكنات الفعل الإنساني، بل ويستشعر كل المشاعر الإنسانية، ويحلم بكل الأحلام التي تراود الإنسان، ويحمل كل طموحاته ومخاوفه أيضا.
ألوهية التنوير كجواب عن فكرة التجسيد والتمثيل في التراث اليهودي والمسيحي
كان من أكبر نتائج التجسيد والتمثيل في نظر الكاتب أن تم النزول بالإله إلى أدنى المستويات، وذلك لخلق مطلقات قومية وعرقية وجدت مقاومة عنيفة من قبل الفكر الغربي الذي كان بإزاء تشكله، وبإزاء البحث عن قواعده، وأن النتيجة التي آل إليها مسار التشبيه والتجسيد والتمثيل هو تبلور ألوهية عصر التنوير، والاعتداد بالعلم ولا شيء غير العلم، أو شيوع منطق اللاأدرية، ثم الإلحاد، واستبدلت الحاجيات الدينية بسطوة الحاجيات المادية، وأصبحت القضايا الروحية لا وجود لها أو مستغنى عنها بالمطلق، وتم طرد الدين من ساحته الحيوية، وتعرض الإيمان لمأساة خطيرة داخل الغرب، وتم إزالة الدين والإله من وعي شرائح كثيرة من المواطنين الغربيين.
يقر الكاتب أن هذا النجاح في محاولة إزالة الدين من وعي الناس، لم ينتج عنه تخليص البشرية من مشاكل الفقر والمعاناة والظلم والعنف، ويستدل على ذلك بالمأساة التي تعرضت لها البشرية مع الحربين الأولى والثانية وظهور النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا والثورة البلشفية في روسيا، وأن هذا المسار كله، لم يستطع أن يقتلع من الفطرة الإنسانية الحاجة للتدين والبحث عن الخالق، إذ بدا هناك وعي آخر بحقيقة الخالق، ينصرف إلى تلبية المشاعر والأحاسيس أكثر من الحاجة إلى الوصف والتمثيل والتشبيه والتجسيد، وإعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والخلق على نحو يستعيد فيه الإنسان التوازن في الحياة.
يرى المؤلف أن هذه الغاية حتى ولو كان الناس يستشعرون الحاجة إليها، إلا ان بلوغها يتوقف على فهم كيف تم الوصول إلى هذا المسار، ولماذا اختار الفلاسفة والعلماء تفسير الدين من زاوية الصناعة البشرية؟
يحاول المؤلف أن يطرح السؤال الذي جعل الباحثين يؤولون في نتائجهم إلى أن الدين والإله نشأ في وعي الإنسان البدائي من خلال إسقاط مخاوف الإنسان وتطلعاته على الكون، والسبب الذي دفع العلم الحديث من خلال بعض حقوله العلمية إلى أن يخلص إلى أن الإنسان خلق إلهه ودينه لحمايته، وكيف انقلبت الصورة، بحيث بدل أن يكون الله هو الذي خلق الإنسان، صار الإله في زعم بعض نظريات العلماء الأنثروبولوجيين مخلوقا إنسانيا صرفا، شكله وصنع لتلبية حاجاته المختلفة.
النتيجة التي آل إليها مسار التشبيه والتجسيد والتمثيل هو تبلور ألوهية عصر التنوير، والاعتداد بالعلم ولا شيء غير العلم، أو شيوع منطق اللاأدرية، ثم الإلحاد، واستبدلت الحاجيات الدينية بسطوة الحاجيات المادية، وأصبحت القضايا الروحية لا وجود لها أو مستغنى عنها بالمطلق
يصحح المؤلف بعض الأفهام التي ترى أن هذه التفسيرات العلمية تعود للعصر الحديث، ويرى أنها قديمة، ترتبط بالفلسفة اليونانية، وأنها ظهرت قبل الميلاد بستة قرون، مع الفيلسوف الشاعر اليوناني زينوفانيس الذي قال بأن الأديان تنشأ من رغبات الإنسان ومحاولاته لفهم الطبيعة التي تحيط به ويسيطر عليها بما فيها من ظواهر محيرة ومزعجة. وقد تطور هذا الفهم مع رواد التجريبية في الفكر الغربي، مع فرانسيس بيكون الذي لاحظ أن الفهم البشري يعتمد على العلل والأسباب التي ترتبط ارتباطا واضحا بطبيعة الإنسان، وليس بطبيعة الكون، وذكر بعد ذلك محاولة الكاتب الفرنسي برنار فوتانتيل في القرن السابع عشر الذي اقترح إطارا تطوريا شاملا لنمو الفكر البشري والثقافة البشرية، قال فيه أن البشر فسروا اللامرئي والمجهول بالمرئي والمعروف، والقوى الطبيعية التي لا يستطيع الإنسان التحكم فيها جعلت البشر يتخيلون كائنات اقوى من أنفسهم يمكنها أن تؤثر تأثيرا كبيرا في حياتهم وفي مصيرهم. ثم جاء ديفيد هيوم الذي قدم وصفا أكثر تفصيلا للطبيعة التشبيهية للإله، ورأى أن الأفكار الإلهية لا تنبع من العقل، بل من جوانب الشك الطبيعي في الحياة والخوف من المستقبل، وأن الإنسان قام بتشخيص آماله ومخاوفه، ثم أسقط هذا التشخيص على الكون حوله، وبعد ذلك، عبد الآلهة التي خلقها على صورته كإنسان.
ثم يمضي المؤلف في ذكر الفلاسفة الذين جاؤوا بعد هيوم، وأسسوا لما سمي بقوانين الفكر الوضعي، وأن المرحلة الدينية هي مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري، وأن الإنسان يلجأ إليها لتفسير ما لم يستطع تفسيره من ظواهر الكون، ثم يذكر بعد ذلك إسهامات كل من فيورباخ وتيلور وفرويد وغيرهم من المتخصصين في الانثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع الديني.
ويعتبر المؤلف أن الداروينية التي برزت في القرن التاسع عشر ورثت هذا المسار، فأنكر دارون النظرة التوحيدية لله وانه الخالق المصور، كما أنكر أن تكون الطبيعية تجليا لهدف أو حكمة عليا.
ويشير المؤلف أنه مع تعدد التفسيرات التي قدمها العلماء في العصر الحديث لفكرة الإله وفكرة الدين، إلا أن ما يجمعها هو الاعتقاد بأن الله لا يتمتع باي وجود موضوعي مستقل، وأن وجوده يعتمد على احتياجات البشر وتطلعاتهم ومخاوفهم، وأن كلمة الله ما هي إلا تجسيم او تشخيص أو إسقاط نفسي لقوى عالم الإنسان الخارجي والداخلي والاجتماعي.
وفي الجانب المقابل، يذكر المؤلف وجهة نظر أخرى، يتبناها عدد من العلماء، ترى أن النفور من الدين، ومحاولة تصويره كما ولو كان صناعة بشرية، اصطنعها الإنسان للجواب عن تطلعاته ومخاوفه، ترجع إلى الطبيعية التشبيهية والتجسيدية الذي تتضمنها نصوصه حول الإله خاصة في النصوص اليهودية والنصوص المسيحية، وأن هذا ما يفسر عزلة الدين وهجره في الغرب، بل ما يفسر تراجع الانتساب إلى الكنيسة والثقة بالقيم الدينية والمروز الدينية.
تهمتان أساسيتان للتوحيد
ويعزو الكاتب سبب هذا النفور من الدين إلى تهمتين توجهان إلى التوحيد:
1 ـ تهمة التشبيه بالبشر وهي لا تعني الإنكار التام للإله، ولكن تعني أن أي وصف مادي لله يرتبط ارتباطا شرطيا بفهم الإنسان لطبيعته، والأثر المترتب عن هذا الفهم. فهؤلاء يعتقدون أن الإله يتعالى عن هذا العالم المادي، ويختلف اختلافا تاما عن البشر، ولذلك فإن أي وصف يقوم على الطبيعة البشرية أيا كانت عظمة الصفات التي يتم وصفه بها، سيشوه كمال الإله، وسيكون اسوأ من عدم وصفه من الأصل
2 ـ أما التهمة الثانية، فهي تهمة الابتداع، ويزعم المدافعون عن هذه التهمة، أن الله وهم، وليس له وجود، فهو يعتمد وجوديا على البشر الذين يبتدعونه من خلال الإسقاط الكوني لطبيعتهم وصفاتهم عليه
النزعات التشبيهية والتجسيدية في النص الديني التوراتي والمسيحي
يستقرئ المؤلف الكتب السماوية الثلاثة، ويرى أن التوراة والإنجيل طافحتين بالأوصاف التجسيدية، وأن القرآن وحده هو الذي يخلو منها، وأن من ألصق التشبيه والتجسيد بالتوحيد في الإسلام، ليس هو النص المقدس (القرآن)، بل يرجع ذلك إلى بعض الفرق الإسلامية.
ويستقرئ نص التوراة، فيرى أنه يمزج بين الصفة المتعالية للإله والصفة التجسيدية، وأنه قلما لا توجد صفة تجسيدية في صفحة من صفحات العهد القديم. ويثير المؤلف قضية خطيرة تتعلق بموقع عقيدة التوحيد في العهد القديم، وأن وصايا موسى الخمس، تفسح المجال لتقرير التوحيد، وتقرير وجود آلهة اخرى، وأن النص يذهب إلى وجود أمم أخرى لها آلهة، واختصاص اليهود بإله (ياهوه) وأنه الإله القومي لهم. ويرى الباحث أن فكرة تعدد الإله بين المحلي والعام والقومي، في النص اليهودي، هي التي سمحت لعلماء الأنثروبولوجيا بتطوير فكرتهم عن صناعة الإنسان للدين لتلبية حاجاته وتطلعاته وتأمينه من الخوف.
ويلاحظ الكاتب أن اللاهوت المسيحي يمثل ذروة مفهوم الإله التجسيدي التجسيمي لكن نصوصه لا تحتوي كثيرا من التعبيرات التجسيدية.
يستقرئ نص التوراة، فيرى أنه يمزج بين الصفة المتعالية للإله والصفة التجسيدية، وأنه قلما لا توجد صفة تجسيدية في صفحة من صفحات العهد القديم.
وذكر الباحث بعض التوصيفات التجسيدية في التوراة، وأن الله في النص التوراتي ينزل إلى أدني مستويات الإنسان، فهو يأكل ويشرب، ويستريح وينتعش، ويصارع يعقوب ويخلخل فخده، كما يتم تصويره على أساس أنه ضعيف وعاجز عن أن يتغلب جسديا على يعقوب لدرجة أنه يطلب من يعقوب أن يذهب لأن الفجر قد حل، ونتيجة لهذه المصارعة يبدل الله اسم يعقوب ويسميه إسرائيل الذي يعني أنه يصارع الله. والله في التوراة، متحيز يظهر لإبراهيم، وسنحني له إبراهيم، ويقدم له ماء، ويطلب منه أن يغسل له رجله، ويقدم له كسرة خبز ويظهر الله لإبراهيم بواقعية شديدة التجسيد لدرجة أن إبراهيم لا يتعرف عليه إلا بعد أن يكشف (ياهوه) عن نفسه كلاميا، ويسمح لموسى أن يرى ظهر الله، ويتكلم معه وجها لوجه كما لو كان شخص ما يتكلم مع صديقه، وتنسب جميع الأعضاء لله ما عدا الأعضاء التناسلية.
يلاحظ الكاتب أن اللاهوت المسيحي يمثل ذروة مفهوم الإله التجسيدي التجسيمي لكن نصوصه لا تحتوي كثيرا من التعبيرات التجسيدية.
أما في العهد الجديد، فيقوم التصور المسيحي لله على افتراض أن الله يتكشف تماما من خلال ما يزعم المسيحيون أنه الكشف الذاتي في حياة المسيح وتعالميه وموته وقيامته. ولا يتمثل الكشف النهائي للمسيحية في أن عيسى هو الله، بل في أن الله هو عيسى.
وما عدا هذا التصور التجسيمي الواضح، يلاحظ الباحث أن نصوص العهد الجديد لا تتضمن إلا تعبيرات تجسيدية قليلة، تثبت لله قدما وأصبعا ويدا، وغيرها من التعبيرات التي يمكن تأويلها.
ويشير الكاتب إلى قضية جوهرية، هو أن نص العهد الجديد ليس متمركزا على الذات الإلهية أي على الله، وإنما يتمركز على عيسى، مما يجعل التصور اللاهوتي المسيحي في ورطة تدبير العلاقة بين الثالوث، لاسيما العلاقة بين الإله وبين عيسىى.
أما بالنسبة لنص القرآن الكريم، فيستقرئ الكاتب جميع نصوصه، ويرى أن الله واحد متعال عظيم في القرآن، ويتميز بتوحيد أخلاقي صارم، ولا نقاش فيه يدل على وحدانية مطلقة ووحدته ووحدانيته وتعاليمه بأسمى وأرقى ما تحمله الكلمات من معان، إذ تستبعد الشرك بجميع اشكاله وكذا التثنية والتثليث ويستبعد أي افتراض أو تصور إشراك أشخاص في ألوهية الله.
ينتهي المؤلف إلى أن النص القرآني لا يمكن أن يلتمس فيه تعبيرات يمكن أن يقرأ منها شيء من صناعة الإنسان للدين، ولا يمكن أن تجد فيه الدراسات الأنثروبولجية ما يمكن أن تطمئن إليه وتجعله مؤشرا على أن الإنسان يخلق دينه ويصنعه صناعة لتلبية حاجاته وتأمين ذاته، فنص القرآن خال تماما من التجسيد والتشبيه بالإنسان، بل إنه صارم في نفي التشبيه لله وانه ليبس كمثله شيء.