هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: مدخل إلى دراسة السياسة المالية ببلاد المغرب، من القرن الأول إلى القرن الخامس هجري
الكاتب: إبراهيم جدلة
دار النشر: كلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة ومجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المشترك. تونس 2019.
عدد الصفحات: 227 صفحة
اشتغلنا ضمن الجزء الأول من قراءة هذتا الكتاب على السياسة المالية للإسلام وعرضنا أهم خصائص النظام الجبائي في البلدان الإسلامية. وفي هذه الورقة نعرض النتائج التي توصل إليها الدكتور إبراهيم جدلة عند دراسته للنظام الجبائي في بلاد المغرب ولعلاقته بالحياة السياسية والاقتصادية.
1 ـ أصول النظام الجبائي المغربي
لقد كان النظام الجبائي المغربي موروثا، بشكل ما، عن نظام الجباية البيزنطي الذي يشتمل على قسمين: ما يتعلق بالأرض وجبايته مزدوجة تتعلق بالمنتج الفلاحي وبالأشخاص وكانت تدفع للدولة أو لكبار ملاك الأرض وتتعلق بالتجارة والصناعة، مثل ضريبة الملاحة. وكان الإمبراطور يشرف على كيفية جباية المال ويمثله في إفريقية قائد إمبراطور له ممثلون بدوره. كان بعض الأموال والأغذية يأخذ طريقه إلى القسطنطينية وتضاف إلى البعض الآخر مداخيل الكنيسة ويرسل إلى روما ويحتفظ بالباقي لدفع أجور الأعوان والنفقات المحلية. وعامة كانت الضرائب مشطة وكان الحصول عليها يتم بقسوة حتى أن بعض المؤرخين ردوا انهيار إفريقية أمام أول موجة فتح قادها العرب إلى ضيق أهلها بتعسف الإدارة البيزنطية.
لقد وجد حسّان بن النعمان هذا النظام قائما. "فصالح على الخراج وكتبه على عجم إفريقية وعلى من أقام معهم على دين النصرانية" وكان ضريبة إجمالية تدفعها المجموعة وتبعث بها حين يحين وقتها. ومع ذلك لم يكن هذا النظام يختلف كثيرا عن نظيره في المشرق المتأثر بدوره بالموروث البيزنطي. ولكن هياكله الإدارية لم تتطور كثيرا لأن استقرار البلاد لم يتحقق إلا في عهد موسى بن نصير (88هـ ـ 96ه).
ولم يبلغ أوجه إلا في العهد الفاطمي. فيجد المؤلف في رأي القاضي النعمان وعيا بعلاقة الفرد "المتمدن" بالدولة في هذه المرحلة، عند قوله "أكثر الناس هم لا يحاسبون أنفسهم ولا ينزلون الأمور عندهم. فيريدون من ولاة أمرهم أم يدفعوا عنهم ويجاهدوا عدوهم ويكفوا أيدي المتطاولين عليهم وينفقون من ذلك ويرزقون ما يقوّمونه بلا مؤونة عليهم، ولا واجب يقيمونه لهم، ولا فرض مما افترضه الله يؤدونه إليه، كأن الذي ينفقونه على مصالحهم يقطعونه من الجبال أو يغرفونه من البحار..".
2 ـ الموارد الجبائية في بلاد المغرب
يقسمها الباحث إلى موارد أولية شرعية وأخرى مستحدثة. فمن الموارد الشرعية ما هو مفروض على غير المسلمين من غنائم وفيء. وقد أضحى مؤسسة شبه قارة تضمن موارد دائمة. فكانت كتائب الجند تغزو مناطق في إفريقية لتعود بالغنائم الكثيرة. فما أخذه عبد الله بن سعد بن أبي سرح من الروم سنة 27 هـ بلغ 300 قنطار من الذهب وبلغت هذه الغنائم أقصاها في عهدي حسّان بن النعمان وموسى بن نصير. فكانت الأموال المغنومة من الأندلس وحدها وسق مائة وأربع عشرة عجلة أو مائة وثلاثين عجلة. وكان السبي عنصرا تجاريا مربحا. فقد بلغ ذروته في عقبة بن نافع وفي فترة حسان بن النعمان الذي رجع إلى المشرق ومعه خمسة وثلاثون ألف أمازيغي.
من الموارد الجبائية المستحدثة، أو المفروضة خارج نطاق الشرع، العشور التي تفرض على التجارة. ورغم أنها لم تكن تلقى القبول عند بعض رجال الدين وكان يشار إليها بكونها غير شرعية، فقد أصبحت ضريبة رسمية للدولة.
أما في عهد موسى بن نصير فالأرقام المذكورة في المصادر "أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة فقد بلغ سبيه من جهة زغوان عشرة ألاف رأس ومن هوارة وزناتة وكتامة خمسة آلاف ومن صنهاجة مائة ألف رأس وسبى أبناءه من نواحي إفريقية مائتي ألف رأس". ثم دخل الأمازيغ في الإسلام في الفترة العباسية. وتراجع السبي حتى أنّ عبد الرحمن بن حبيب كتب إلى أبي جعفر المنصور (136 هـ) "إنّ إفريقية اليوم إسلامية كلّها وقد انقطع السبي منها" واقتصر على صقلية التي صالح أبو العباس أهلها، لما حاصر مدينة بنيرة "على ست ألاف رأس" وفي 312 هـ سبى الفاطميون منها حوالي إحدى عشر ألف رأس وفي 318هـ سبوا ثمانية عشر ألف رأس. ووقعت بعض التجاوزات في كيفية جمع هذه الزكاة فجعل أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب "قطع العشر حبا وجعله ثمانية دنانير للقفيز أصاب أم لم يصب". ثم أضحت تؤدى نقدا كما فعل عبد الله المرادي عامل طنجة أو كما فعل عامة حكّام الدولة الفاطمية.
ومن الموارد الجبائية المستحدثة، أو المفروضة خارج نطاق الشرع، العشور التي تفرض على التجارة. ورغم أنها لم تكن تلقى القبول عند بعض رجال الدين وكان يشار إليها بكونها غير شرعية، فقد أصبحت ضريبة رسمية للدولة. ولا تجود المصادر بمقاديرها في العهد الأغلبي أما في العهد الفاطمي، فكانت المراكز (المراصد) تقام لاستخلاصها في أبواب المدن. وكانت جوازات المرور تسلّم للتجار بعد أن تُضبط الكميات والبضائع في سجلات ومناشير رسمية. واستهدف التعشير المسلمين وغير المسلمين. وابتكرت مكوس إضافية. منها ما تعلق بالأسواق والتنقل ومنها ما تعلق بالخبازين والجزارين وعامة الدكاكين. وطُلب في العهد الفاطمي حق المرور بالمهدية بالنسبة إلى الحاج وأغرم على المرور بالأبواب وفرضت في صقلية ضريبة البحر وشملت السفن الراسية في المدن. ومن طريف ما ابتكر أموال اللطف في صقلية أو التقرب في إفريقية وهي أموال، على سبيل التطوّع، لتقدم هدايا يتقرب بها الحاكم لأمير المؤمنين في الأعياد. ومن مؤلمه جباية الاستصفاء وتتعلق بالخصوم والمعارضين وتشبه عمليات المصادرة اليوم. هذا ما فعله عقبة بن نافع بأبي المهاجر مثلا وما فعله سليمان بن عبد الملك بموسى بن نصير وأبنائه وما تحوّل إلى عادة مألوفة عند الفاطميين. ويجد الباحث في وصف الإدريسي لجبابات مراكش قبل قيام الدولة الموحدية نموذجا فــ"أكثر الصنع في مراكش متقبلة عليها مال لازم مثل سوق الدخان والصابون.. وكانت القبالة على كل شيء يباع دقّ أو جل".
3 ـ النظام الجبائي والمعضلة الفقهية
كانت الوضعية في إفريقية تثير إشكاليات من الناحية الفقهية. والمعضلة هنا هي تحديد كيفية فتح المغرب. ففتحتها عبر الصلح يوجب الفيء أما فتحها عنوة فيعني غنم الأراضي واقتسامها بين الفاتحين. تذكر المصادر هنا صلح عمرو بن العاص لبرقة وصلح عبد الله بن سعد بن أبي سرح لأهل إفريقية وصلح أبي المهاجر لبربر إفريقية وصلح موسى بن نصير لبربر المغرب. في الآن نفسه تذكر مصادر أخرى نقض هذه الاتفاقيات ما مرة. فالوضعية ظلت متقلبة. فغزوة معاوية بن حديج افريقية سنة (45 هـ) كانت حربا لا صلح فيها وبعد موت عقبة بن نافع سنة (65 هـ) نقض الروم العهد ورفعوا سيوفهم من جديد. ثم أخذ شق عصا الطاعة بعدا إسلاميا من خلال تحالف القبائل الأمازيغية مع المذاهب المتمردة كالإباضية والخوارج. وبالمحصلة فرض الواقع نفسه. فظلت الأراضي في المغرب الأوسط وفي المغرب الأقصى بأيدي الأمازيغ لضعف حضور العرب فيها أو امتناع أراضيها. أما في إفريقية فظلت بعض الأراضي عند مالكيها وتحولت إلى أراض خراجية وانتزعت أخرى وأجلي عنها أهلها.
4 ـ التنظيم الجبائي:
عهد لإسماعيل بن عبد الله، إثر عملية الفتح، بمسؤوليات الحرب والخراج والصداقات. فكان سلطة عليا تجمع الديني والعسكري والمالي بوصفه واليا وباعتبار نيابته للخليفة في الدولة الإسلامية الناشئة، ولكن المصادر كانت ضنينة بالمعلومات عن معاونيه وبتفاصيل التنظيم الجبائي. فلم تذكر غير إرسال الأموال إلى المشرق صحبة عشرة عدول أو إشراف صاحب المقاسم على توزيع الغنائم.
ولئن ظلت الصورة غائمة في المغربين الأوسط والأقصى بالنسبة إلى الباحث، فقد أخذت تتضح شيئا فشيئا في إفريقية. فيعرف من الجباة في العهد الأغلبي "العراض والمعطون" وهم المكلفون بتوزيع العطاء و"خُزّان الأموال" و"جباة ضروب المغانم". ويكون تنظيم الدولة الفاطمية والزيرية من بعدها أدق. فقد كان الحليفة الفاطمي هو المسؤول الأول عن بيت المال. وكان يعيّن مختلف الموظفين. ويمثله الولاة في الجهات ويساعدهم عمال. وتتشكل الإدارة المالية من بيت المال المركزي ومن عدة دواوين كديوان الكشف وديوان أموال الهاربين وديوان العطاء وديوان الخراج وديوان المنصورية. ومأتى الموارد من الغنائم التي تراجعت ومن الخراج والجزية والجبايات المستحدثة التي كانت تفرض حسب الظروف الطارئة ثم ترفع عندما تثير الاحتجاجات أو يريد الحاكم أن يكسف الأهالي إلى صفه. وكانت هذه الموارد تنفق على الجند وعلى جرايات الموظفين والانجازات العمرانية والهدايا والصلات التي كان الحكام يكسبون بها الولاء والأنصار وكان نفقات طارئة تظهر بين حين وآخر.
5 ـ مدخل إلى دراسة السياسة المالية ببلاد المغرب، من القرن الأول إلى القرن الخامس
لم تمثل دراسة الجبايات مدخلا لفهم التنظيم الإداري والمالي في المغرب حتى القرن الخامس هجري فحسب. فقد كشفت وجوها من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منها:
ـ الإجحاف في جمع الضرائب بسبب تراجع موارد الغنائم لدخول الأهالي للإسلام بصفة جماعية وكان هذا التعسف يستهدف الأمازيغ في عهد الولاة ثم شمل العرب في العهد الأغلبي بعد أن ضبطت الحدود وانعدمت الغنائم والسبي. ثم تراجعت حدة التعسف في العهد الفاطمي بتنويع الموارد الجبائية وتوسيعها لتشمل التجارة الداخلية والخارجية والصنائع. وأصبحت تشمل الجميع بما في ذلك أكبر رجالات الدولة.
ـ تطور هذا الجهاز في إفريقية فيما بقي بدائيا في المغربين الأوسط والأقصى(باستثناء المدن الكبرى). فقد ظلت البلاد تحت هيمنة القبائل التي سيطرت على الطرق التجارية واعتمدت الغزو. ولكن رغم التقاليد الموروثة عن البيزنطيين أو التي جاء بها العرب لم يستفد المغرب كثيرا من أموال الجباية لغياب الاستقرار السياسي وعدم وجود أسرة حاكمة استقرت طويلا "فكان همّ كل وال جمع أكثر ما يمكن من الأموال والسبي والرجوع إلى الشرق". وكثيرا ما مثلت عائقا يحول دون التنمية. ولكن هذه القوانين العامة لم تمنع من بروز ظاهرة لافتة. فقد كانت بعض القبائل تنتمي إلى دولة مركزية معينة وتدفع الضرائب لجهة أخرى (أمير، شيخ، دولة أخرى). فالمصادر تذكر أن المنطقة التي تمتد من سرت إلى قسطيلية مرورا بنفزاوة وقابس وقفصة والتي ترجع بالنظر إلى الأغالبة كانت تدفع الضرائب إلى الرستميين وتذكر أيضا أنّ الإباضيين بسلجامة كانوا يبعثون بزكاتهم إلى رؤسائهم بتاهرت. وكان الفاطميون يتلقون مثل هذه الأموال من شيعة الشرق. فكانت الجبايات تتخذ طريقا معاكسة للاتجاه التقليدي. وعليه لم تكن الضرائب تعبّر عن الخضوع للسلطة المركزية أحيانا بقدر ما تعبر عن الامتثال إلى واجب ديني من منظور عقدي أو مذهبي ضيّق.
ـ يكشف الأثر صفحة منسية من تاريخ المغرب. فهم الولاة اقتصر على جمع الغنائم عبر غزوات خاطفة ضد مواقع الأمازيغ، حتى أنّ دخولهم للإسلام تمّ عبر المناوئين للدولة المركزية (الشيعة والخوارج والإباضية) الذين تحالفوا معهم لإزعاج السلطات المركزية. ولم يستقر الأمر لهذه الدول إلا مع الدولة الموحدية.
ـ من شأن هذا المؤلف أن يجعلنا نراجع العديد من المسلمات ذات الصلة البعد الديمغرافي. فليس سكان المغرب الكبير اليوم من الأمازيغ. فهم خليط من السكان الأصليين ومن العنصر العربي الوافد مع الفاتحين ثم الأتراك لاحقا ومن السبي من إيطاليا والأندلس ومن الوافدين من جنوب الصحراء. وليس سكان المشرق من العرب الخلّص أيضا. فالسبايا كانت ترد من المغرب كما ترد من الفرس وآسيا الوسطى. وفي هذا السياق يفقد القول بالهوية العرقية في الدول الإسلامية معناه ماضيا كما يفقده اليوم في الغرب بعد الاختلاط الشديد بين الأعراق والأجناس، وهذا ما ينسجم مع المراجعات الفلسفية اليوم التي تجد الهوية في الثقافي وتحث على المحافظ على تنوعها فيما تعمل العولمة على سحق كل ما اختلف عن النموذج الثقافي الغربي، والأمريكي تحديدا.
إقرأ أيضا: السياسات المالية في الإسلام.. المغرب الإسلامي نموذجا (1من2)