تُؤكد الوقائعُ والأحداثُ الجارية في
ليبيا أن ما يحصل فوق أراضي هذا البلد الشقيق يدعو بقوة إلى الشك وعدم اليقين في حظوظ خروج أبنائه من أزمتهم، والتوجّه الجماعي نحو إعادة وطنهم على قاعدة التوافق، والتسامح، والسلام.
فمنذ سقوط النظام (2011)، دخلت ليبيا دائرة التجاذب والصراع بين مكوناتها السياسية والاجتماعية الداخلية، وتحولت، بالموازاة، إلى فضاء مفتوح للتدخلات الإقليمية والدولية. ولأن ليبيا شاء لها تاريخها وجغرافيتها أن تكون كما هي، فقد تنامت صراعات أبنائها في الداخل، وازدادت شهيةُ الدول البعيدة عنها والقريبة منها للتحكم في سيادتها، واقتسام كعكة النظام المنهار. لذلك، وعلى الرغم مما قد يظهر من اختلاف في الاستراتيجيات، المعتمدة وتباين في المواقف والتصريحات المعبر عنها، فإن الهدف في جوهر مقاصد أطرافه يروم سلبَ إرادة الليبيين في إعادة بناء شرعية دولتهم وسلطة مؤسساتهم، وفتح أفق جديد لنقل بلدهم إلى برّ السلم والأمن والأمان.
تُعتبر الدول المغاربية الثلاث (
المغرب،
الجزائر، تونس) معنيةً بدرجة أولى بتجاوز ليبيا لأزمتها، وإعادة السلم والاستقرار إلى ربوعها. فعلاوة على شريط الحدود البرية الذي يربط ليبيا بكل من تونس والجزائر، هناك قواسم مشتركة أبرزها الدين، واللغة والتاريخ المشترك، كما أن هناك التزامات متبادلة تضمنتها معاهدة تأسيس الاتحاد المغاربي عام 1989. غير أن الأهم استراتيجيا من كل هذه الاعتبارات، هناك مصالح حيوية تستلزم خروج ليبيا من أزمتها، كي تظل المنطقة المغاربية في منأى عن كل ما يمكن أن ينجم من مضاعفات خطيرة، إن تعذرت عودة السلم والسلام إلى الأرض الليبية.
فمن زاوية الجوار الليبي التونسي، ثمة شريط حدودي بين البلدين، يشكل تهديداً حقيقيا إن لم تستقر الأوضاع الأمنية في ليبيا. ويسري الأمر نفسه على كل من الجزائر
ومصر. أما المغرب، وإن كان غير مرتبط بحدود ترابية مع ليبيا، فإنه معني بعودة الأمن والسلام إلى هذا البلد الشقيق، وقد بذل جهودا كبيرة من أجل تصالح الفرقاء المتصارعين، والتوافق على مشروع إعادة بناء السلام في ليبيا ما بعد 2011، من خلال مسلسل التفاوض المباشر الذي احتضنته لقاءات مدينة "الصخيرات" المغربية.
يبدو أداءُ الدول المغاربية في موضوع ما يجري في ليبيا محدوداً، إن لم نقل ضعيفاً، من حيث الفعالية والنجاعة. فعلى الرغم من الجولات العديدة التي تمت على أرض المغرب من أجل خلق فرصة للسلام في ليبيا، لم تتمكن من فتح أفق حقيقي من أجل عودة السلم والاستقرار، بل بقي الوطن الليبي منشطرا ومنقسماً على نفسه، بين شرق بمؤسساته وجيشه، وغرب بشرعيته، المعترف بها دوليا، ومؤسساته هو الآخر.
كما ظل الاقتتال اللغة السائدة والمتحكمة في مصير هذا البلد. ولئن سعت كل من الجزائر وتونس إلى إمساك العصى من الوسط، والتطلع لأن يكون لهما دور في مجريات الأحداث، فقد عجزا عن إحداث تغيير فعلي في سيرورة الصراع في هذا البلد، بل ظهرا بأن قدرتهما على تغيير مسار الصراع في ليبيا نحو الأفضل غير مؤثرة، ولا قادرة على التأثير في الشروط الراهنة للأزمة. لذلك، يُطرح سؤال بالغ الأهمية، مفاده: لماذا ظل الدور المطلوب من البلاد المغاربية شاحباً وغير فعال؟
يُدرك المغاربيون قبل غيرهم أن جوهر الصراع في ليبيا من طبيعة مركبة، وأن الأطراف المتحكمة في تأجيجه متعددة، والاستراتيجيات كثيرة ومتنوعة، وأن الكلمة الفصل في الحل أو الحلول الممكنة ليست بيد أبناء ليبيا، ولا بيد أشقائهم في الجوار، بل متوقفة على إرادات القوى الكبرى المتنافسة في الخط الأول، وعزيمة الفاعلين الإقليميين غير البعيدين عن نظرائهم الدوليين، والذين يتقاسمون معهم جملة من الأهداف والمصالح.
والواقع أن الأزمة الليبية خرجت منذ نشوبها من معطف القوى الكبرى، أولا بتدخل حلف "النيتو"، باسم حماية الليبيين من اقتراب قوات النظام المنهار من بنغازي، ومخافة تعرضهم لإبادة جماعية، وثانيا بتدخل قوى إقليمية عربية (
الإمارات وقطر ومصر)، وأخرى على تماسها الجغرافي (تركيا تحديدا). وقد ظل الداخل الليبي متأرجحا بين هذه القوى، و موزعاً على ولاءاتها، وعزَّ على أبنائه إمساك مصير بلادهم ووطنهم بأيديهم.
شاءت ظروف ليبيا الحديثة أن تكون ثرواتها الطبيعية الثمينة، وموقعها الجيوستراتيجي، وطبيعة الحكم الذي سادَ مجالها السياسي أكثر من أربعة عقود، أن تكون مصدر ما تُعاني منه منذ انطلاق ما سُمي "ثورة 17 فبراير 2011"، ولا تظهر على وجه اليقين حظوظ خروجها من عُشّ العنكبوت الذي تم نسجُه بعناية منذ سقوط النظام.
فلم يعد خافيا عن أحد تزايد شهية القوى الدولية والإقليمية على نفط ليبيا وغازها رفيع المستوى، كما ليس خافيا مساعي الدول المتنافسة على أن يكون لها نصيب وافر في اقتسام تركة ليبيا المنهارة. فالتواجد الروسي واضح ولا غبار عليه، عبر وسائل وأدوات متعددة، والزحف التركي لم يتردد في الجهر بـ"حقه" في التراب الليبي، والأوروبيون (فرنسا وإيطاليا أساسا) يترنحون بين تأجيج الصراع والدعوة إلى إخماده.
والجانب الأمريكي يجهر بضرورة استتباب السلم في الأرض الليبية وغَضّ النظر عما يحصل فيها، عنوة تارة، وبإيعاز مضمر تارة أخرى.
أما الأطراف العربية فلم يحل بينها وبين التوغل سياسيا في الأرض الليبية لا اعتبارات الدم والدين واللغة، ولا متطلبات التاريخ المشترك. لذلك، فالخوف كل الخوف أن يتجدد المشهدان العراقي والسوري في ليبيا الشقيقة، فينفلت من أيدي أبنائها خيط المحافظة على الوطن من التمزيق والتجزئة وترسيم الكيانات الصغيرة.