هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: كارل ماركس قراءة معاصرة في إشكالية العلاقة بين الحرّية والتقدم
الكاتب: هيثم توفيق العطواني
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب ـ 2020 .
(277 صفحة من القطع الكبير).
كان مفهوم الإنسان، ولا يزال، محط الخلافات الفكرية الأعمق في مسيرة التاريخ الفكري البشري، وقد يظل كذلك إلى ما لا نهاية. ولا يمكن تأطير الإنسان ورؤيته من خلال رؤية واحدة شاملة وكلية، وربما يكون هذا أحد أهم الأسباب في عدم إجماع الفلاسفة والمفكرين على دلالة واحدة حاسمة يمكن من خلالها تعيين الجوهر الإنساني.
فالإنسان ليس وجودا فحسب، بل هو وعي بهذا الوجود، وتساؤل عن معناه، وإنَّ رحلته المعقدة والمستمرة والغنية بالانفعالات والصّبوات، والأسئلة الأزلية الأبدية، تعبّر عن مدى طموحه لمعرفة كل شيء، والسيطرة على كل شيء بما في ذلك الكون والطبيعة والحياة، بوصف الإنسان إشكالية مركزية في هذا الكون، إذْ إنَّ مكانته مميزة بين الكائنات، بوصفه الأرقى، وقد تنوعت المذاهب الفلسفية عبر التاريخ في تحديد جوهر الإنسان وغاية وجوده.
منذ عصر التنوير الأوروبي، ظهرت فكرة الإنسان الكوني، وبدأت فكرة التقدم منذ القرن الثامن عشر تتبلور على يد الفلاسفة من أمثال فيكو، وفولتير، وكوندورسيه، وكانط، وهيغل إلخ.. فهل ثمة نظرية عامة للتقدم حقّا، تشمل البشرية، وتفترض وحدة التاريخ البشري، وحركته الدائمة نحو مستقبل أفضل؟ وهل يستمر التقدم التاريخي في الزمان والمكان في سلم تصاعدي، أو إنَّه يخضغ لمجموعة من الانحرافات والانتكاسات؟
في هذا الكتاب، الذي يحمل العنوان التالي: "كارل ماركس: قراءة معاصرة في إشكالية العلاقة بين الحرية والتقدم"، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب في عام 2020، والمتكون، من مقدمة وأربعة فصول، يقدم فيه الكاتب هيثم توفيق العطواني، قراءة عصرية لفكرتي الحرية والتقدم عند ماركس، فيقول: "لقد اقتضى البحث دراسة أهم معايير التقدم الإنساني في فكر ماركس المتمثلة في الحرية الإنسانية، وعلاقتها بكل من الضرورة والحتمية، ومع أن وعي الضرورة شرط أساسي لدى ماركس للحرية، لكنَ مفهومه عن الحرّية أعمق من مجرد وعي الضرورة. كما استدعى البحث معيارا آخر للتقدم هو اضمحلال الدولة، وما إذا كانت الدولة قد وجدت منذ الأزل أم إنها نتيجة تطور تاريخي؟ وهل تنطوي الدولة على عوامل اضمحلالها عندما تسقط مسوغات وجودها في نهاية المطاف؟ وكيف يتم ذلك؟" (ص 9 من المقدمة).
التطور التاريخي لمفهوم الاغتراب
شكل مفهوم الاغتراب عبر تمظهره التاريخي، وتغير مدلولاته من مفكر لآخر، مشكلة معقدة تتضمن أبعادا وجودية وفلسفية، واجتماعية واقتصادية، وأدبية وثقافية وإنسانية، وهذا ما أدَّى إلى تعدد الآراء واختلافها حول مشكلة الاغتراب، مما أسفر عن إطلاق تسميات مختلفة له مثل: التشيؤ، الغربة، الاستلاب، كما وصف الإنسان المغترب باللامنتمي.
إنَّ لمصطلح الاغتراب معاني مختلفة في الحياة اليومية وفي العلم وفي الفلسفة، ومعظمها يمكن اعتباره تصنيفات لمعنى واحد عريض، تفترضه أيتمولوجيا ومورفولوجيا الكلمة، هذا المعنى الذي يكون فيه الاغتراب فعلا أو نتيجة فعل يصبح بواسطته شخص ما، أو شيء ما، غريبا عن شخص ما. ففي الاستعمال اليومي غالبا ما يعني الاغتراب الابتعاد أو الانزواء عن أصدقاء قدامى، أو عن مقرّبين، أو عن موضوعات معينة.
كان مفهوم الإنسان، ولا يزال، محط الخلافات الفكرية الأعمق في مسيرة التاريخ الفكري البشري، وقد يظل كذلك إلى ما لا نهاية.
الضياع والغربة والاغتراب، هو عند (هيغل) أن يضيِّع الإنسان شخصيته الأولى ويصير إنسانا آخر أغنى من الأول. أما عند (ماركس) فهو أن يفقد الإنسان حرِّيته واستقلاله الذاتي بتأثير الأسباب الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية، ويصبح مِلْكاً لغيره أو عبدا للأشياء المادية. وضياع العقل خلله، وضياع المُلْكِ انتقاله إلى مالك آخر أو فقده، وضياع النفس غربتها أو اغترابها.
والاغتراب مقولة فلسفية يختلف معناها باختلاف الحقول التي تستخدم فيها، بالمعنى الحقوقي: التنازل عن الملكية لمصلحة الآخر في الطب النفسي: الاضطراب العقلي الذي يجعل الإنسان غريبا عن ذاته ومجتمعه ونظرائه (الانفصام). لقد بات يساعد على وصف وفهم أشد الظاهرات تباينا وتنوعا في ميدان الاقتصاد، علم الاجتماع، علم النفس، اللاهوت، ومن عبادة المال إلى الأمراض النفسية، من القلق إلى الاستلاب، من التمرد إلى رفض فكرة الإله، من الغربة عن الله في اللاهوت إلى غربة الفردي عن الاجتماعي في الفلسفة. إن هذا التنوع يجعل بعضهم يجد صعوبة بالغة في تحديد المفهوم. هذا المفهوم مثل غيره من المفاهيم المستخدمة في حقل العلوم الإنسانية، لا يمكن أن نعثر له سواء في حقل الفلسفة أو الأنثروبوجيا (علم الإنسان الاجتماعي) على تحديد دقيق متفق عليه، يسمح بوضع اليد على معناه. كما يمكن القول إنَّ هذا المصطلح متخم بالمعاني والدلالات، ويُطلق على العديد من الظواهر بتوسع بالغ توحي بأنه لم يعد يعني شيئا على الإطلاق.
يقول الكاتب هيثم العطواني: "يمكن رصد مفهوم الاغتراب في الأديان الكبرى، المسيحية واليهودية، وبدرجة ما في الإسلام، وذلك من خلال النظر إليه على أنه انحلال الرابطة بين الإنسان وربه. وهناك من يرجعه إلى الكتابات اللاهوتية الأولى، التي تشير إلى الروح الإنسانية عن الله، والمتمثلة في الخطيئة الأولى التي ارتكبها آدم وأدت إلى اغترابه وفقدانه حالة الطمأنينة والراحة، النعيم والفردوس الإلهي وسقوطه في شقاء الدنيا. تجلت فكرة الاغتراب في سفر التكوين في قصة المأساة الإنسانية المتجسدة بالخلق والانفصام الأول بين آدم وحواء، فأوقع الربّ الإله آدم في نوم عميق، ثم تناول ضلعا من أضلاعه وسد مكانها باللحم، وعمل من هذا الضلع امرأة أحضرها إلى آدم" (ص 82 من الكتاب).
إضافة إلى ذلك، اغتراب الإنسان عن الله بسبب الخطيئة والثمرة المحرمة وعصيان آدم أمر ربه، حيث أخرجه من جنة عدنٍ ليعمر الأرض التي جُبل من ترابها، فكانت النتيجة الانفصال بين الله والإنسان بعد طرده من الجنة، وعندها أصبح الإنسان في مواجهة هذه الحياة القائمة، على الصراع بين الروح والجسد.
فالاغتراب تعبير عن انحلال الرابطة بين الإنسان وربه، وبهذه الرؤية نظر (شاخت) إلى الاغتراب على أنه الابتعاد عن الله، وفي هذا السياق يورد تعليق (كالفن) على رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس قائلا؛ إنَّ القديس بولس قد قال في رسالته إلى المسيح: أحيانا نحن أموات بالخطايا، بالنعمة أنتم مخلصون، وأجلسنا معه في السماوات، واعتبر كالفن أن الموت الروحي لا يعدو أن يكون اغترابا للروح عن الله.
إذن، تشير كلمة الاغتراب في المنظور الديني في أحد معانيها إلى الابتعاد عن الحق والسقوط في الباطل والضلال. قد تجلى ذلك في آراء القديس أوغسطين (354 ـ 430م) الذي عبّر عن هذا المعنى للاغتراب في كتابه (مدينة الله)، حيث ميّز في هذا الكتاب بين مدينتين: مدينة الله، ومدينة الإنسان. الأولى خالدة أبدية، والثانية اغترابية وطارئة، فالعالم منذ بدء الخليقة في صراع بين نوعين من الحب: حب الإنسان لله، وحب الإنسان لنفسه، وهذا ما أدى إلى انقسام المدينة إلى مدينتين: مدينة أرضية ومدينة سماوية، انقسم التاريخ إلى تاريخ دنيوي وتاريخ مقدس.
يؤكد هذا الانقسام ـ كما يرى أوغسطين ـ اغتراب الإنسان في هذا العالم، المنطوي على كل الذنوب والخطايا، فالطبيعة الإنسانية كانت خيرّة قبل خطيئة آدم، ولكنه نتج عن ذلك أمران: الشهوة والجهل، وبهذا تحولت طبيعته ـ كان خلقها الله خيرةّ ـ إلى طبيعة فاسدة، لكن الله بفضل منه يمكن أن يرد هذه الطبيعة إلى الخير، هذا هو الفضل أو اللطف الإلهي الذي طالما أكده أوغسطين والمسيحية بشكل عام من خلال مفهوم العناية الإلهية.
منذ عصر التنوير الأوروبي، ظهرت فكرة الإنسان الكوني، وبدأت فكرة التقدم منذ القرن الثامن عشر تتبلور على يد الفلاسفة من أمثال فيكو، وفولتير، وكوندورسيه، وكانط، وهيغل إلخ.. فهل ثمة نظرية عامة للتقدم حقّا، تشمل البشرية، وتفترض وحدة التاريخ البشري، وحركته الدائمة نحو مستقبل أفضل؟
وبطبيعة الحال ـ انسجاما مع هذا المنطق ـ لا يمكن تجاوز الاغتراب إلا بالعودة إلى مدينة الله، حيث لا اغتراب فيها. فالاغتراب إذن بالمعنى اللاهوتي قدر محتوم ملازم للوجود الإنساني لا خلاص منه إلا بالله أو المخلصّ.
يقول الكاتب العطواني: "تنوعت استخدامات هذا المفهوم (الاغتراب) مع تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي والاقتصادي؛ ابتداء من الفلسفة اليونانية مرورا بفلسفة العصور الوسطى، وصولا إلى فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبز Hobbes ولوك وروسو) وفيخته، ومن ثم إلى هيجل وفيورباخ وماركس وفرويد والوجودية ومدرسة فرانكفورت. نستطيع تلمّس ملامح فكرة الاغتراب عند سقراط Socrate (469 ـ 399ق.م) الذي خاطب الإنسان: "اعرف نفسك بنفسك"، يكاد يكون سقراط الوحيد بين مفكري العصور القديمة الذي جعل من معرفة الذات الهدف الرئيسي لفلسفته، والمبدأ الموجه لكل نشاطه، مع هذا التوجه السقراطي لمعرفة الذات، أخذت مسألة الإنسان ـ موضوع الفلسفة الأهم ـ منحى جديدا في تاريخ الفكر البشري، حيث ترك هذا التوجه بصماته الفعلية في عصرنا، عصر الثورة العلمية والتقنية، الثورة المعلوماتية"، (ص 84 من الكتاب).
الاغتراب بين هيغل وماركس
فيما يطل هيغل على الاغتراب من موقع الفكرة المطلقة فيحاكمها ويقيّمها إيجابيا، يطل عليه ماركس من موقع عملي ـ أخلاقي: حيث الاغتراب موقف يغترب فيه الإنسان عن ذاته ولا بد من السعي لإنهائه. ويرى هيغل في الاغتراب خروجا من الذات وأداة لإغنائها، أما ماركس فقد ربط الاغتراب بالعمل المأجور وتَمَوْضُعِ الإنسان بالنسبة له، فالإنسان ينتج عملا، لكنَّه يصير عبدا له، بمعنى أنه يشعر بالغربة عما تنتجه يداه، وتتفاقم هذه الغربة إذا علمنا أنّ في العمل إمكانات حقيقية لتفتّح طاقات الفرد وتطوره.
وهكذا حوّل ماركس الاغتراب من ظاهرة فلسفية ميتافيزيقية إلى ظاهرة تاريخية لها أصلها الذي ينسحب على المجتمع، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، والنتاجات النظرية. ويفترض ماركس أنَ اغتراب العمل الذي وجد عبر التاريخ يصل إلى ذروته في المجتمع الرأسمالي، وأن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر اغترابا، هذا الاغتراب يستند على فكرة أنَّ العامل الذي لا يشارك في إدارة العمل، والذي يُسْتَخَدمُ كجزء ملحق بالآلات التي يخدمها، يتحوّل إلى شيء من تبعيته لرأس المال.
من هنا بالنسبة لماركس؛ "إنّ انعتاق المجتمع من الملكية الخاصة، من العبودية، يأخذ شكلا سياسيا متمثلا في انعتاق العمال، ليس في معنى أن انعتاق العمال يستلزم فقط، بل يتضمن انعتاق الإنسانية ككل، لأن عبودية الإنسانية الكلية متضمنة في علاقة العامل بالإنتاج، ولأن كل أنواع العبودية هي مجرد تحولات ونتائج لهذه العلاقة".
من الواضح أنّ لكلمة الاغتراب في الخطاب الماركسي حضورا لا فتا، سواء في بواكير كتابات ماركس أو في أواخر كتبه، يرد لفظ الاغتراب في (مخطوطات 1844)، وكتاب (الأيديولوجيا الألمانية)1845، كما يرد في كتاب (رأس المال) أيضا. فقد قدم ماركس طرحا مغايرا، واستعمالا دلاليا جديدا، فتح أمام هذا المفهوم مجالا للتداول بشكل أوسع داخل النقاش الفكري و الإيديولوجي الذي شهده القرن العشرون.
يفترض ماركس أنَ اغتراب العمل الذي وجد عبر التاريخ يصل إلى ذروته في المجتمع الرأسمالي، وأن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر اغترابا، هذا الاغتراب يستند على فكرة أنَّ العامل الذي لا يشارك في إدارة العمل، والذي يُسْتَخَدمُ كجزء ملحق بالآلات التي يخدمها، يتحوّل إلى شيء من تبعيته لرأس المال.
يقول الكاتب العطواني: "يزداد اغتراب الإنسان كلما ازداد عمله تجريدا بواسطة تقسيم العمل ليصبح مجرد عمل إنساني بسيط. كما نستطيع العثور على منشأ الدين عند ماركس عبر فكرة تشيؤ العلاقات الإنسانية وتشيؤ الحياة الصنمية وبنية علاقات الإنتاج، التي يبدو أنها اكتسبت حياة خاصة بها متحكمة عبر ذلك بالبشر. أيضا هنا علاقة بين منشأ الدين واغتراب الإنسان لجوهر الإنسانية المنفصلة عنه في فكرة الله. إن هذا كله عند ماركس جوانب مختلفة للإشكالية نفسها. في التشيؤ الاغترابي تصبح الأشياء (السلع والنقود والمؤسسات..) كما لو أنها من خارج عالم الإنسان، فيبقى مصدرها الحقيقي مموها، لتشكل عالما مختلفا على جانب الإنسان الذي صنعها في عملية تاريخية، وهكذا تتجلى بوصفها وجودا مستقلا غريبا عن عالم الإنسان، لا بل تنوب عنه وتقمعه، وحتى تدمره، وهي تفعل ذلك كما لو أنها تنشط باسمها الشخصي (الشخصنة)، وكأنها قوة اجتماعية لها شخصية محددة توجه الإنسان وتتحكم بأعماله وأفكاره. وتصبح علاقات الناس بالأشياء وكأنها ملك لها وليست ملكا لهم، وتظهر الأشياء كما لو أنها قد قطعت كل صلة بالبشر، كأنها مكتفية بذاتها"(ص 124 من الكتاب).
إنَّ مفهوم ماركس للنتاج المغرّب للعمل قد تم التعبير عنه فيما دعاه "وثنية السلعة"، حيث إن الإنتاج الرأسمالي يحول علاقات الأفراد إلى نوع من كيفيات الأشياء ذاتها، كما أنَّ هذا التحويل يشكل طبيعة السلعة في أسلوب ذلك الإنتاج، ويمكن من نواح أخرى في الأسلوب ذاته أن يوجد العامل لإشباع التوسع الذاتي للقيم السائدة بدلا من كون الثروة المادية موجودة لتلبية حاجات التطور لدى العامل. كذلك تتحكم به في الإنتاج الرأسمالي نتاجات يديه، والآلات تسهم في تحويل الكائن الإنساني الضعيف إلى آلة.
اغتراب العمل في إنتاج الإنسان هو أخطر مما كان عليه الأمر في زمن الحرفة اليدوية، حيث كان يستعمل العامل الأداة، بينما في المصنع تقوم الآلة باستعماله. من هنا، فإن حركات آلة العمل تتقدم عنه، مما يرغمه على أن يتبع حركات الآلة. ففي المانيفاكتورة يكون العامل جزءا من آلية حية، بينما لدينا في المصنع آلية بلا حياة مستقلة عن العامل الذي يصبح مجرد ملحق تابع لها. وبالنتيجة تصبح العلاقة الاجتماعية التي تربط الأفراد وكأنها علاقة شيئية خارجية وسلعية، تتحكم بها روح المقايضة والتجارة والربح.