تتوالى الشواهد الواضحة على صحة التقديرات القائلة باختلال موازين القوى بدرجة لا يستهان بها في غير صالح الكيان الصهيوني في هذه المرحلة، دوليا وإقليميا وفي الداخل
الفلسطيني أيضا.
فبعد عجز كيان الاحتلال عن الصمود سوى لأيام معدودات أمام انتفاضة كاميرات الأقصى الأخيرة، التي أُجبر بفضلها على العدول عن قرار تركيب كاميرات مراقبة في المسجد الأقصى، ها هو اليوم نتنياهو يضطر إلى بلع كلامه وتأجيل تطبيق قرار نهب (ضم) الضفة والأغوار الذي كان مقررا في الأول من تموز/ يوليو الجاري. وبعدما كان يتبختر كالطاووس في البيت الأبيض وعلى وسائل إعلام الكيان متباهيا بأنه سينفذ قراره في موعده، ها هو قد أُجبر على تعديل خطته خوفا من اندلاع انتفاضة جديدة تقلب المعادلات، انتفاضة لا تضع حدا لخطة النهب (الضم) فحسب، بل يمكن أن تتطور إلى حراك يُجبره على إخلاء مستوطنات الضفة أو بعضها على أقل تقدير، وتكون هزيمة مدوية للكيان بحسب تقديرات الكثير من الإستراتيجيين في كيان الاحتلال وفي الدول الداعمة له، فرضخ إلى هزيمة معنوية أصغر بدلا من هزيمة ميدانية أكبر.
لكن في المقلب الآخر، لما يستثمر الطرف الفلسطيني بعد اختلال موازين القوى هذا ويبني على أوراق قوته بشكل عملي في الميدان، فمع الترحيب بالخطوات الأخيرة التي اتخذها طرفا الانقسام الفلسطيني نحو المصالحة الداخلية الفلسطينية، ومع التأكيد على ما لجمع الشمل وتوحيد الجهود من أهمية في مواجهة مخططات الكيان، يأخذ البعض على المؤتمر الصحفي الأخير الذي عقده طرفا الانقسام الفلسطيني خلوّه من خطة عمل مستقبلية واضحة. ومن الممكن أن يؤدي عدم تدارك هذه القضية سريعا إلى تنفيس الغضب المعتمل في الضفة وتفريغه من محتواه، وسيكون في هذا انتكاسة كبيرة في تاريخ القضية الفلسطينية إن وقع.
فقسم وازن من الشعب الفلسطيني يتطلع اليوم إلى توافق الفصائل على خطة واضحة تستغل إرباك العدو، وتؤسس إلى انتفاضة ثالثة قد ثبُت من تراجعه الأخير أنه يخشاها وأنها تشكل له نقطة ضعف أساسية، انتفاضة تهدف إلى دحر الاحتلال عن أراضي الضفة الغربية دون قيد أو شرط. وهذا هدف مرحلي قابل للتحقيق ضمن موازين القوة الحالية، وإذا ما أحسنت الفصائل التدبير بحسب رأي الكثير من ذوي الرأي الراجح.
فالخشية من أن ينجح الكيان في جر الفصائل الفلسطينية إلى الملعب الذي كان يريده، فبدلا من أن نرى انتفاضة جادة تعيد للشعب الفلسطيني بعضا من حقوقه، يعود الحال إلى ما كان عليه من عراضات سياسية ومؤتمرات. والرهانات خائبة على ما يسمى بالمجتمع الدولي، بينما يمضي الكيان في تنفيذ مخططه، لكن هذه المرة بشكل تدريجي وهادئ بحيث لا يستجلب ردات فعل قوية سواء فلسطينيا أو دوليا.
نعيش اليوم مرحلة تغيير في العالم والإقليم من حولنا، فالهيمنة الأمريكية حول العالم في تراجع واضح مقابل صعود صيني وروسي، ويعيش الكيان حالة هُزال وضعف منذ مدة. وبالرغم مما تتعرض له دول وقوى محور المقاومة من تضييق جدي وتحرشات مستمرة، فإن قدرات هذا المحور في تعاظم مضطرد، فها هي إيران تُراكِم في إمكانياتها العسكرية مع مرور كل يوم.
أما سوريا فباتت مزروعة بالصواريخ الدقيقة الموجهة نحو الكيان وصارت دولة مصنِّعة لتلك الصواريخ، وجاء توقيع المعاهدة العسكرية منذ أيام بين سوريا وإيران لتكون نقلة استراتيجية وخطوة مهمة على طريق دعم حركة التحرر العربية.
أما في لبنان، فقد أعلن حزب الله عن تدشين مرحلة "الجهاد الزراعي والصناعي" الذي سيكون من شأنه تغيير نمط المعاش الاقتصادي للمجتمع اللبناني، وسيكون لهذا انعكاسات كبيرة على انعتاق لبنان من القبضة الغربية وعلى مشروع التوجه شرقا. ولا يخفى على أحد ما لهذا التحول (إن حصل) من أهمية على مشروع التحرر العربي الأوسع. فهل يستقيم أن تقلب فصائل المقاومة الفلسطينية الآية، وتتأخر اليوم عن القيام بواجبها التحرري في الداخل الفلسطيني تجاه شعبها أولا وأمتها ثانيا، ضمن كل هذه التحولات المبشرة، وألا تكون في طليعة حركة التحرر العربي؟
إن الضفة ما زالت محتلة، والكيان قد تراجع خطوة للوراء فقط وما زال في حساباته ابتلاع أراضي الضفة كاملة وتهجير سكانها، وإن تحرير الأرض واستعادة الحقوق المسلوبة هو كُنه القضية الفلسطينية، وليس هو ثني الكيان عن شرعنة احتلال الضفة فحسب، ولا هو فك الحصار عن غزة. وإذا كان دخول منظمة التحرير الفلسطينية في ما سمي بعملية السلام خطأ، فهناك من يعتقد أن تضييع الفرصة التي ما زالت قائمة وعدم استغلال اللحظة التاريخية الراهنة من أجل الشروع بانتفاضة ثالثة تفضي إلى دحر الاحتلال عن أراضي 67 وتفكيك المستوطنات مقارنة بجنوب لبنان وبعد ذلك في غزة؛ ما هو إلا خطيئة.
يرى الكثيرون أنه برغم التشويش وغبار المعارك، فإن الإقليم تُعاد صياغته من حولنا بصورة أفضل، ولطالما كانت القوى الفلسطينية الحية في صدارة مشروع التحرر العربي من الاستعمار وآثاره رغم كل الظروف القاسية التي مر بها وطننا العربي والقضية الفلسطينية، فلا تقلبوا اليوم الآية.