أفكَار

ما هي خيارات الحركات الإسلامية لتجاوز محاولات استئصالها؟

راشد الغنوشي يقود تيار التوافق بين الإسلاميين وخصومهم في تونس- (عربي21)
راشد الغنوشي يقود تيار التوافق بين الإسلاميين وخصومهم في تونس- (عربي21)

وظفت بعض الحركات الإسلامية السياسية خلال العقود الماضية، ثنائية الاعتدال والتطرف لصالحها بتقديم نفسها كحركات ممثلة للاتجاه الإسلامي المعتدل في مقابل الاتجاهات الإسلامية المتشددة والمتطرفة، وقد كان ذلك مقبولا حينما كانت مراكز الدراسات والبحوث الغربية، كمؤسسة "راند" الأمريكية توصي بإدماج الحركات الإسلامية الموصوفة بالاعتدال في الأنظمة السياسة القائمة.

وكانت توصيات تلك المراكز تنطلق من التعاطي مع تلك الحركات بوصفها أحد المكونات السياسية، ذات الحضور والتأثير في الحياة العامة مع إمكانية استيعابها وإدماجها في الحياة السياسية، لكن وبحسب مراقبين فزمن تلك التوصيات قد انتهى، إذ لم تعد الأنظمة السياسية بعد الربيع العربي تفرق بين حركات معتدلة وأخرى متشددة ومتطرفة، فالكل بات في مرمى الاستهداف المباشر، وبالتالي السعي لإقصائها عن مسرح الحياة العامة. 

ويُشار في هذا السياق إلى أن حركة "النهضة" التونسية التي تصنف بأنها من أكثر تلك الحركات مرونة وبراغماتية إلى الحد الذي دفع بعض خصومها الإسلاميين لاتهامها بأنها تسير باتجاه علمنة الدين، لم تسلم هي الأخرى في الآونة الأخيرة من حملات الاستهداف ومحاولات الاستئصال وهو ما أكده رئيس الوزراء التونسي الأسبق، علي العريض في تصريحات صحفية قبل أيام. 

وقال العريض في مقابلته مع منتدى التفكير العربي التي بُثت على منصات التواصل الاجتماعي: "هناك من يستهدف حركة النهضة، لأن له موقفا من الإسلام السياسي، بحيث يتهم الحركة بالتخلف أو الإرهاب أو الخطر على حقوق الإنسان، رغم أنها مقبولة جدا من كل الدول الديمقراطية، ولا تشكل أي تهديد حقوقي أو أمني".

وتابع: "هناك محاولة استئصال للحركة دون أي نقاش معها بسبب كره لا دواء له"، وقال: "لا تجد أسبابا موضوعية لمسعى إقصاء النهضة من الأطراف الداخلية أو الخارجية".   
  
وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين أوضاع الحركات الإسلامية السياسية بحسب أماكن تواجدها؛ فـ"أوضاعها تختلف من بلد إلى آخر، فهناك حركات مشاركة في السلطة أو متناغمة معها، وأخرى تعيش أوضاعا صعبة إما لكونها مقموعة بشدة أو لمشاركتها في الكفاح المسلح ضد النظام" وفق الكاتب والباحث التونسي، رضا خالد. 

وواصل خالد حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وتلك الأوضاع المختلفة تتقاطع مع صراعات قوى إقليمية، ومحاور خارجية منها ما يدفع باتجاه مقاومة كل انتشار وتوسع للحركات الإسلامية، ولا يميز بين متشدد ومعتدل لاعتباره إياها جميعا تشكل خطرا على مصالحه، ومنها ما يقدم الدعم المادي والسياسي والعسكري سواء للمعتدلة منها أو المتشددة خدمة لمصالحه في المنطقة".

 


 
وأضاف: "وهذا التقاطع بين مصالح الأنظمة القائمة وقوى إقليمية من جهة وبين حركات إسلامية وقوى إقليمية أخرى منافسة من جهة أخرى يسلب الحركات حق المبادرة لارتهانها بمصالح الممول والحامي، كما أن هذا الوضع الجديد الذي يتميز باشتداد القمع وازدياد منسوب العنف، وتفاقم التوتر الطائفي لا يترك هامشا للتفكير للقيام بمراجعات فكرية وتصحيح الاستراتيجيات السياسية، والتحرر النسبي من ثقل التحالفات الخارجية". 

وتابع: "وكان الأجدر بتلك الحركات الانفتاح على محيطها المحلي ومد الجسور مع القوى السياسية الأخرى بدل الارتهان لمحور إقليمي أو آخر، وهذا الخلل ناتج عن غلبة التوجه المذهبي والأيديولوجي على التوجه السياسي الوطني، أي تغليب التقارب الأيديولوجي مع من هو خارج الوطن على التقارب مع المخالف أو الشريك في الوطن" على حد قوله. 

وأبدى خالد تخوفه من المرحلة القادمة التي ستكون "حرجة، قد تدمر فيها أوطان أخرى إضافة للعراق وسوريا واليمن، وربما يشتد عود العسكر في أكثر من بلد، وهو ما سيرجئ التحول الديمقراطي في بلاد العرب إلى ظروف تكون فيه الأنظمة والمعارضة الإسلامية قد بلغ بهما الإنهاك مبلغه واقتنعا بأنه لا محيد عن التعايش بين مكونات المجتمع المختلفة، ولا محيد عن التداول السلمي للسلطة لتجنيب البلاد والعباد شرور القمع والاقتتال". 

من جهته قال الكاتب والإعلامي المصري، المستشار الإعلامي للرئيس محمد مرسي، أحمد عبد العزيز: "لا يوجد لدى الأنظمة العربية المستبدة، مثل هذا التصنيف للحركات الإسلامية (متشددة وغير متشددة)، فكل حركة تنادي بالعودة إلى الإسلام، بمعنى تمكينه واعتباره مرجعية عليا ونهائية للسلطة والمجتمع على حد سواء، تعدها هذه الأنظمة حركة متشددة، بل "إرهابية" حسب تصنيف بعض هذه الأنظمة".
 
وأضاف: "تماما كما حدث مؤخرا مع جماعة الإخوان المسلمين التي يعتقد عامة الناس أنها أكثر الحركات الإسلامية اعتدالا، لأن هذه الأنظمة "علمانية" في الواقع، حتى تلك التي ترفع راية التوحيد، ومن ثم فهي في عداوة (ولا أقول خصومة) مع كل حركة تسعى لجلب قيم الإسلام إلى الواقع المعاش على اختلاف مجالاته". 

 


 
وردا على سؤال "عربي21" حول خيارات تلك الحركات للمحافظة على ما تبقى من كيانها، ومظاهر وجودها بعد تصاعد حملات استهدافها، لفت عبد العزيز إلى "أنه لا سبيل إلا الهجرة لمن استطاع ذلك، إلى جانب الاستخدام الأمثل لكافة وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تعرف الحدود، فمن خلال هذه الوسائل يمكن لهذه الحركات بث رسائلها لأبنائها أينما كانوا، وللجمهور الذي تستهدفه على السواء".
 
وأشار إلى أن "حركة الإخوان المسلمين مرت بمثل هذه التجربة في ستينيات القرن الماضي، على إثر اضطهاد عبد الناصر لها فهاجر منهم من استطاع، وأحيوا أفكارها من جديد في كل بلد حلوا فيه، ووصلوا بها إلى أكثر من ثمانين دولة".

وعن إمكانية تغيير تلك الحركات لطريقة تعاطيها مع الأنظمة السياسية القمعية، استبعد عبد العزيز حدوث ذلك "في المديين المنظور والقريب، لأن قيادات هذه الحركات لا تزال تعتقد أن دورها هو الإصلاح، ولا تؤمن بالثورة سبيلا للتغيير، وإنما تؤمن بالتغيير المتدرج، مهما كانت التكلفة عالية".
 
وأردف بأن "تلك التكلفة التي يعتبرونها (تضحية) يقدمونها عن طيب خاطر، لكنني أعتقد أنه ستكون لهذا الجيل الشاب من هذه الحركات طريقة مختلفة في المستقبل، وستكون أكثر فاعلية؛ لأن هذا الجيل عاشر وشارك بقوة في تجربة الربيع العربي الذي لم ينته بعد، بحسب كثير من المحللين، وآمن بالثورة كأسلوب بات مطروحا ومُجربا للتغيير، لكن ذلك يحتاج إلى مراجعات عميقة لكثير من النظريات التي تربى عليها، وهذا ليس يسيرا ويحتاج إلى وقت طويل". 

وفي ذات الإطار رأى الكاتب والمحلل السياسي اليمني، عباس الضالعي أن "معاداة تيار الإسلام السياسي في دول المنطقة وملاحقته بطرق وأشكال مختلفة كان سببا للاحتراب في بعض الدول، وللتوتر في دول أخرى، بل إن بعض الدول انهارت بسبب هذه السياسة".

وتابع حديثه لـ"عربي21" مرجحا أن سياسة إلغاء تيار الإسلام السياسي وإقصائه ستفضي  إلى عدم استقرار أي دولة تنتهج هذه السياسة، وهو ما يعني فشل تلك السياسات، وأن سياسة الاحتواء هي أفضل الخيارات للتعامل مع هذا التيار".

 



ولفت الضالعي إلى أن "النظامين السعودي والإماراتي وظفا في السنوات الأخيرة، خاصة عقب الربيع العربي، قدراتهما المالية والعسكرية والاستراتيجية لمواجهة هذا التيار، وتم التعميم على كل الفصائل التي تندرج تحت هذا المسمى، ولم يفرق بين حركات معتدلة تؤمن بالعمل الديمقراطي والمشاركة السياسية السلمية وبين الحركات العنفية، وتمت المواجهة مباشرة في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وحاليا في تونس، وباتت المواجهة مفتوحة وتزداد وتيرة الصراع يوما بعد يوم".
 
وعن خيارات حركات تيار الإسلام السياسي للمحافظة على ما تبقى من كياناتها بعد تصاعد حملات استهدافها، ذكر الضالعي أن لتلك الحركات "أخطاء وهفوات، منها اعتمادها على الخطاب العاطفي الذي يتصدر المشهد العام في مواقفها، وهو سبب تخوف الأنظمة الديكتاتورية من هذا التيار، ما يعني ضرورة إعادة ضبط خطابه، والتغيير من أدواته، والتصالح مع باقي التيارات بعيدا عن الخطاب المتشنج" وفق وصفه. 

وأضاف: "وعلى حركات ذلك التيار إعادة صياغة خطاب جديد وواقعي يتماشى مع المتغيرات والتخلي عن الأدبيات التي تستعدي الآخر، وتحويل الشعارات إلى واقع، مثلا يرفعون شعار الدولة المدنية وأثناء الممارسة يقومون بإقصاء خصومهم، وهذا تناقض بين الخطاب والممارسة".
 
وخلص إلى القول: "سياسة الاحتواء لهذا التيار من قبل الأنظمة السياسية هي الحل الأفضل، ولن يتم هذا إلا بسد أنبوب التمويل السعودي والإماراتي، وعلى تيار الإسلام السياسي تجديد خطابه بواقعية دون تشنج وانغلاق".
  
بدوره أكدّ القيادي في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، إبراهيم اليماني، على "وجود الحركات الإسلامية السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية، كجزء أساسي منها، وهي متجذرة في نسيجها الفكري والاجتماعي والديني، وستبقى موجودة بأفكارها ورؤاها وتصوراتها فيها مهما تصاعدت حملات استهدافها، وتتابعت محاولات إلغائها وإقصائها".

ولفت إلى أن بعض الدول العربية تضيق الخناق على الإخوان المسلمين، وهم متواجدون في برلماناتها بصفة رسمية، وبعض الدول حظرت وجودهم وصنفتهم كجماعات إرهابية، ودول أخرى تلاحقهم وتطاردهم بلا هوادة، ومع ذلك كله ما زالت الجماعة متواجدة في تلك الدول.

 


 
وإجابة عن سؤال "عربي21" حول الخيارات المتاحة أمام تلك الحركات لاتقاء شراسة حملات استهدافها، ومحاولات استئصالها، وحتى تحافظ على ما تبقى من كياناتها، قال اليماني: "من المعلوم أن الحركات الإسلامية السياسية، خاصة الإخوان المسلمين، حركات إصلاحية، وقد أعلنت مرارا عن قبولها بالعمل عبر المؤسسات الدستورية والقانونية القائمة، وهي متشبثة بخيار السلمية في عملها الدعوي والفكري والسياسي". 

وأضاف: "لذا فإنها ستبقى محافظة على منهجيتها الدعوية والفكرية والسياسية المعروفة،  ولن تغيرها مهما تصاعدت حملات استهدافها، ولن تسلك أي سبيل من سبل العنف، لقناعتها بفشل كل التجارب الممارسة للعمل العنفي، لكل ذلك فهي حريصة على تحاشي كل ما من شأنه تصعيد تلك الحملات وتأجيجها".

وتابع: "ما يحسن التذكير به في هذا المقام أن الحركات الإسلامية السياسية تتمتع بمرونة عالية في العمل السياسي، وهي تدرك تمام الإدراك أنها لا تقوى على مواجهة الواقع المتوحش، خاصة مع تصاعد حملات استهدافها بعد الربيع العربي، لذا فإنها قد تنحني أمام العاصفة حتى تمر، وهذه من الخيارات المتاحة لها في حالة الاضطرار والإكراه".
  
وأردف: "ليس ثمة ما يمنع تلك الحركات من تغيير خطابها كلما كان ذلك ضروريا، وهي مستعدة للقيام بالمراجعات المطلوبة، للإفادة من أخطائها وتحسين أدائها، وهي منفتحة دائما على الجانب الرسمي الذي لم يعد يبادلها ذات التوجه، خاصة في الآونة الأخيرة". 

وختم حديثه مذكرا بأن الحركات الإسلامية السياسية، التي تدور في فلك جماعة الإخوان المسلمين، مهما ضُيّق عليها وتمت ملاحقتها بشتى الطرق والوسائل، لن يتم استئصالها لأن الفكر الذي تحمله لا يمكن استئصاله، فهي تمثل فكرا دينيا دعويا يسعى لإصلاح الأنفس والمجتمعات، بالعلم والدعوة والفكر، وهو ما يوفر لها دوافع العمل والثبات بصفة دائمة". 

التعليقات (2)
rmb
الإثنين، 27-07-2020 09:20 م
ما قاله المستشار أحمد عبد العزيز هو خلاصة القول. لا وجود لشركاء ليمد لهم أحد الجسور. التجربة السياسية ليست ناضجة لهذه الدرجة بعد. لا يوجد الآن سوى أعداء يجب مقارعتهم بالوسائل التي تختلف من بلد لآخر. وحينما تصل الشرائح الاجتماعية الفاسدة التي تدعم هؤلاء لتقبل فكرة أن الإسلام باق ومشروع اجتثاثه فشل عندها يمكن الحديث عن البحث عن سقف مشترك. أما الآن فما زال هؤلاء يعولون على علمنة أولاد المسلمين وإزالة دور الدين الإسلامي في المجتمع ولا يريدون التصالح مع الواقع.
موسى
الإثنين، 27-07-2020 04:14 م
وماذا ستفعل الحركات؟ هي دائما مفعول بها.. تتلقى الضربات وسجن واعتقالات وحرمان وتعذيب وما النتيجة..؟
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل