قرأت لملحد وهو يبيّن بدايات حَيده؛ أن التصور الديني ينحو إلى تحقير الإنسان وإظهار جهله وضعفه ودناءة طباعه، وهو ما تبنى عليه حاجته إلى الإخضاع والعبودية، بينما هذا الإنسان كائن عظيم تكمن في داخله قوى جبارة حين تتحرر فإنها تبدع وتعمر الحياة وتفك أسرار الوجود، فهل نختار طريق تحقير الإنسان أم تعظيمه؟!
هذا التصور السلبي لعلاقة الدين بالإنسان تغذيه بعض نماذج التدين التي تركز بالفعل على تثبيط قوى الحياة والنشاط في الإنسان، مثل أن هذه الدنيا زائلة وينبغي الزهد فيها والانشغال بما بعد الموت، والنظر إلى النشاط الإنساني عموما بأنه مدنس ممتلئ بالفجور والمنكرات، وفهم العبادة بأنها حالة انسحاب من الحياة وليس حالة اشتباك، والسؤال عن الحكم الشرعي لكل صغيرة وكبيرة من أنشطة الحياة، وهو موقف من الطبيعي أن يعطل فاعلية الإنسان، إذ لا يستوي من يمارس الحياة بعفوية وانطلاق مع من تسكنه الريبة والخوف وينتظر رخصة فقهية قبل أي إقدام.
إن ضغط التحدي الحضاري الذي ينتج مثل هذه الأسئلة الجدلية ينبغي أن يستفز قوانا الفكرية لتقييم المفاهيم السائدة والبحث عن إجابات تحترم العقل، دون أن تميع روح الدين وتنسب إليه أشياء ليست من جوهره.
إن ضغط التحدي الحضاري الذي ينتج مثل هذه الأسئلة الجدلية ينبغي أن يستفز قوانا الفكرية لتقييم المفاهيم السائدة والبحث عن إجابات تحترم العقل، دون أن تميع روح الدين وتنسب إليه أشياء ليست من جوهره
هل الدين في توجهه الكلي يدفع باتجاه تكريم الإنسان وإيقاظ قواه الكامنة، أم يسعى إلى تثبيط قواه وإخضاعه؟
وفق الرؤية القرآنية، فإن الإنسان مكرم ومفضل على كثير من الخلق: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".
بل هو الكائن الذي سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض جميعا. والتسخير هو التذليل، أي أن الإنسان سيد الطبيعة، وهي خادمة مطوَّعة لسلطانه: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذلك لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".
وقد أظهرت صيرورة الإنسان التاريخية أن الإنسان قد تمكن فعلا من تسخير كثير من قوى الكون مثل الرياح والكهرباء والجاذبية وقوى الذرة بالعلم، وهذا الإنسان الذي بدأ رحلته خائفا في الغابة من الوحوش قد بلغت به رحلته أن يطوي الزمان والمكان، وأن يبني القلاع الحصينة والأسلحة الفتاكة، وأن يكافح مسببات المرض، ويبدع أسباب الأمن والراحة ويطير في السماء ويغوص في البحار. ولا يزال هذا الإنسان كادحا في إعمار الحياة، وربما يجلي المستقبل من إمكاناته الكامنة مما لا نقدر اليوم على تخيله، كما لم يكن الإنسان قبل 300 عام قادرا على تخيل ما بلغته ذريته اليوم.
يقول بادي الرأي إن الدين يريد الإنسان الضعيف العاجز ليثبت له حاجته إلى الله!
لكن النظرة الأقرب إلى روح القرآن أن الدين يريد الإنسان القوي الفاعل لتتجلى فيه روح الله، إذ كلما تعلم الإنسان وامتلك مفاتح فهم الحياة وتفتحت له أسرار الكون وانزاحت أمامه أستار الغيب؛ كلما كان أقدر على مقاربة معاني الإيمان وتصور حقائق قدرة الله، وإحاطته وتعزيز دوافع الإيمان في داخله بالعالم الآخر: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" .
لذلك فتح القرآن باب استفزاز قوى الإنسان إلى آخر مدى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ".
اعتادت الرؤية السلبية للإنسان أن تفهم مثل هذه الآية بأنها تعجيز، لكن الدعوة التي تتضمنها هذه الآية لا تمنع الإنسان من بلوغ أقصى طاقة ممكنة بطريق
العلم، حتى لو نفذ من أقطار السماوات فتجاوز إلى المستويات العليا في الكون، بل إن هذه الآية تستفز روح التحدي في الإنسان لأن يفعل ذلك. والإنسان فعلا في مساره العملي عبر التاريخ يندفع بروح التحدي ويحاول النفاذ من أقطار السماوات، والشرط الذي حددت به الآية قدرة الإنسان هو سلطان العلم، فما دام هذا الإنسان قادرا على التعمق في أسرار العلم حتى يمتلك القدرة على النفاذ من أقطار السماوات والأرض؛ فلن يمنعه الله من ذلك.
ربما تمثل الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال هذه الروح في مناجاة الله إذ قال: "قلت يا رب: إن هذا العالَم لا يُعجبني! فقال لي: اهدمه وابنِ أفضل منه".
هذا الإنسان هو خليفة الله في الأرض، وقد ميزه على الملائكة بأن علّمه الأسماء كلها، فسجد الملائكة له. وقد استقر في المخيال الإنساني منذ القدم أن الملائكة الكائنات النورانية اللطيفة هي خير من الإنسان، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟
لا بد أن هذا الكائن يحتوي سرا لم تحظ به الملائكة، وهذا السر بيِّن في السياق القرآني، فآدم تعلم الأسماء كلها والملائكة لم تتعلمها، وفي ذلك إشارة إلى أن ميزة هذا الكائن هو قدرته على التعلم ومراكمة التعلم التي ستبلغ به أن يفكك أسرار الوجود بنفسه، فيستحق أن يكون خليفة الله في الأرض.
عبرت الملائكة عن تخوفها من أن هذا الكائن سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، وقد أثبت مسار التاريخ أن ظن الملائكة كان محقا، لكن الله تعالى أجابهم "إني أعلم ما لا تعلمون"!
إن هذا الكائن جدلي الطبيعة "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا"، فهو معقد التركيب. إن طبيعته معجونة بالأنانية والحسد والكفر والإفساد وسفك الدماء، لكن بذرة الارتقاء والتسامي كامنة فيه، وكما اقترف هذا الكائن الفظائع عبر التاريخ، فهو ذاته الذي أبدع العمران وفتَّح مغاليق الأكوان، وهو ذاته الذي تجسدت فيه أعظم أمثلة التراحم والإحسان والتضحية والعطاء. وبحسب فهم المفكر جودت سعيد، فإن علم الله سيتحقق في هذا الإنسان وسيتغلب على ظن الملائكة، وستتفجر من هذا الإنسان طاقات الخير العظيمة المودعة فيه.
هذا الكائن قد أودعت فيه نفخة من روح الله؛ هي التي استدعت تكريمه وسجود الملائكة له: "فإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ"!
لماذا سيأمر الله الملائكة النورانية التي لا تعصيه بالسجود لهذا المخلوق إن كان جوهره مدنسا؟!
هذه النفخة من روح الله المودعة في فطرة الإنسان تفتح أمام هذا الكائن إمكانات لا متناهية للترقي والتسامي حتى بلوغ سدرة المنتهى، وللقدرة الكامنة على الإبداع والخلق وإعمار الكون، وتضمنه توقا أبديا للسلام والخلود، وتحرك فيه كوامن القوة والحياة، وتستثير فيه دوافع الرحمة والإحسان والخير.
مهما قيل عن تكريم الإنسان في الفلسفات الإنسانية، فلن يعدل ذلك تكريمه بهذا الوصف الموجز "ونفخت فيه من روحي".. إن فيك أيها الإنسان أثرا من روح المصدر الكلي للرحمة والسلام والقدرة والعلم والخلق والحياة والخلود، فكيف ترضى بالقعود والإخلاد إلى الأرض؟!
قد يسأل سائل: كيف يستقيم تكريم الله للإنسان مع حقيقة أن أساس الدين هو إخضاع الإنسان وعبوديته لله؟
إن تعبيد الإنسان لله ليس تعبيدا لكيان متناه أو قوة محدودة، بل هو تعبيده للمطلق المتجاوز لكل حدود الإمكانات والقدرات المتخيلة، وبذلك فإن عبودية الإنسان لله تعالى لا تضعف قدراته، بل تصله بالمصدر الأعلى المطلق للقدرة والرحمة والخلق والسلام.
والإنسان الذي لا يتجرد لعبادة الله اللا محدود سيقع لا محالة في عبودية المحدود، فإن أفلت من عبادة صنم خارجي فلن يفلت من أن يكون عبدا لأهواء نفسه ونزواتها.
لا يكون تحرير طاقة الإنسان إلا بتجرده من دواعي الهوى ومثبطات الحركة، وإيمانه بروح عليا يندفع نحوها دون التفات. لذلك صوَّر القرآن حال الإنسان حين يضمر فيه دافع الروح بأنها حالة تكاسل وإثقال وإبطاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ".. "ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه".. "وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ".
عماد الدين هو إسلام القلب لله، لكن الإسلام والخضوع لله ليس نقيض الحرية وإطلاق ممكنات الإنسان، بل هو نقيض الشتات وتنازع الدوافع الذي يحرم صاحبه من القدرة على جمع القلب وتوحيد وجهته وإنتاج عمل خالص مثمر
إن عماد الدين هو إسلام القلب لله، لكن الإسلام والخضوع لله ليس نقيض الحرية وإطلاق ممكنات الإنسان، بل هو نقيض الشتات وتنازع الدوافع الذي يحرم صاحبه من القدرة على جمع القلب وتوحيد وجهته وإنتاج عمل خالص مثمر.
يضرب الله تعالى مثل التوحيد والشرك بصورة بالغة الدلالة: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَما لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا"..
من هو الأكفأ إنتاجيا: رجل يأمره سيدان متشاكسان في وقت واحد بأمرين متناقضين فلا يستطيع أن يطيع كليهما في وقت واحد؟ أم رجل يتلقى الأوامر من سيد واحد؛ فهو قادر على العمل المثمر بسبب وحدة الإرادة الموجهة؟
هذا هو معنى التوحيد والشرك، فالشرك هو تصارع الدوافع الداخلية فتتفرق قوى الإنسان ويتبدد اجتماع أمره، بينما التوحيد هو توحيد الوجهة والغاية وقوى النفس.
سؤال آخر: إذا كان الدين يحرر طاقات الإنسان، فلماذا قيَّده بالمحرمات والنواهي الكثيرة؟ أليس ذلك الإنسان الذي ينطلق في حياته بدون مقيدات أقدر على الإنتاج من المتدين الذي يلاحقه هاجس الإثم في حركة حياته؟
إن مفهوم الحرام في الدين هو الاستثناء وليس الأصل في الحياة، والقرآن حين يذكر المحرمات فإنه يذكرها بصيغة الحصر والقصر: "قل إنما حرم ربي..".. "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم".
والحرام يتعلق بدائرة المخالفات
الأخلاقية وليس بدائرة تقييد انطلاق الإنسان نفسيا وفكريا، وتثبيطه عن حركة الحياة: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق".
ولو عددنا أمثلة الحرام في الدين لوجدنا أنها تشمل الكذب والخيانة ونقض العهد والعدوان والظلم والبغي، وعقوق الوالدين، وأكل أموال الناس بالباطل، والفواحش والقتل والإفساد، مما تواضع البشر غالبا على رفضه بالفطرة، ولا يوجد عاقل من البشر يقول إن عدم ممارسة الإنسان للكذب والخيانة والظلم والسرقة هو تقييد لإمكاناته وكبت لطاقاته.
من الإنصاف القول إن نسخة التدين الشائعة لا تعزز هذا المفهوم، فلا يزال كثيرون يظنون أن الحرام والتقييد هو الأصل في الحياة وأن كل حركة تحتاج إلى تأصيل شرعي، لكن أفهام البشر ليست حجة على الدين، وعلينا أن ندفع باتجاه فقه ديني أكثر فاعلية وتصالحا مع الحياة.
من المعاني المركزية في القرآن هو معنى "ظلم النفس".
إن ظلم الإنسان لنفسه هو تعطيل قدراتها وتبديد قواها، وفي سورة الكهف: "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئا" والظلم في هذه الآية يعني نقص الإنتاج، ومن لم يستخرج الطاقة الإنتاجية الممكنة فقد ظلم، وبهذا المعنى فإن الإنسان الذي يظلم نفسه هو الإنسان الذي يعطل طاقات نفسه ولا يستثمرها بسبب غفلته وعمى بصيرته وغلاظة فهمه: "نسوا الله فأنساهم أنفسهم".
الإيمان هو تفتيح منافذ السمع والبصر والقلب في الحياة وتأمل عميق في حقائقها، وتذوق نعم الله وتفكر في آياته، بينما الكفر هو عمى وصمم وغفلة وإعراض: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّور".
twitter.com/aburtema