هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "صورة الحسين بن علي في المتخيل الإسلامي: دراسة مقارنية بين الفكر السني والفكر الشيعي"
الكاتب: جيهان عامر
الناشر: الأطلسية للنشر، تونس؛ ومنشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات، منوبة-تونس 2015
عدد الصفحات: 350 صفحة.
1 ـ الحسين شهيدا.. الحسين قتيلا.. الحسين يواجه قدره وحيدا
لنفهم أكثر موقف الفريقين من شهادة الحسين لا بد أن نستدعي أحداث مقتله التي تضن بها الباحثة: فقد أصر يزيد على الحصول على مبايعة الحسين تأكيدا لاستمراره على العهد الذي قطعه على نفسه أمام والده وربما تحيينا للهبات التي كان ينالها جزاء هذا التعهد وكلّف والي المدينة الوليد بن عتبة بالحصول عليها. ولكن الحسين تلكأ.
وذهب المؤرخون والفقهاء في تفسير ذلك مذاهب شتى بين من يرى أن الحسين رفض تلك البيعة لأن معاوية لم يحترم مبدأ الشورى وكرّس الوراثة وحوّل الخلافة إلى ملك. وثمة من يلح على استمرار على صلاته بأهل الكوفة. فقد سارع زعماؤها بالكتابة إليه يستحثون مسيره إليهم. ولكنه خرج إلى مكة أولا. ولعله كان في طور تأسيس موقف سياسي واضح من حكم يزيد وحكم بني أمية عامة، أو كان يختبر مدى صدق أهل الكوفة وحماستهم لنصرته.. ثم طرح نفسه، لمّا وصلته كتب مبايعتهم له، بديلاً للسلطة.
لئن كان الشيعة في صفّ المعارضة التي تريد الحكم وتعلي من النماذج المتمردة، فإن الرؤية السنية ظلت محكومة بالموقف من الخروج عن الحاكم عند أهل السنة والجماعة.
وهذا ما عدّ، عند عدد كبير من الصحابة والتابعين خروجا عن الإمام يهدد أركان الدولة وينذر باستئناف الفتنة التي عصفت بالمسلمين منذ مقتل الخليفة عثمان. فقد عارضه عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وعمرة بنت عبد الرحمن وغيرهم كثير. أما هو فقد حسم الأمور بعد. فالكوفة أضحت قبلته وانتزاع الخلافة من الأمويين غدا غايته. ولكن هيهات فدهاء يزيد وحماسة رجاله من حوله عصفا بأحلامه. فقتل رسوله مسلم بن عقيل أولا. وتخاذل شيعة الكوفة في نصرته ثانيا. فاضطر لقتال رجال يزيد، بين قلة من رجاله وأهله، مكرها فيما تقول المصادر السنية، مسلما بقدره الذي أراده له الله فيما تقول المصادر الشيعية. فقتل واحتز رأسه ومثل بجسده ونكّل بأهله. كان ذلك سنة 61 للهجرة، هكذا وبعد مرور نحو عشرين سنة على قتل والده في ظروف مشابهة.
2 ـ في مفهوم الشهادة
كان سلم المعايير التي يُعد القتيل في ضوئها شهيدا مدخل الباحثة لدراسة مفهوم الشهادة بين الفهم السني والفهم الشيعي. وانتهت إلى رصد انفلات في ضبط المفهوم وتعدد في تأويل دلالاته الواردة النص القرآني. فالشهيد هو المقتول في سبيل الله ـ وسمي بذلك لقيامه بشهادة الحق في جنب الله حتى قتل. والشهداء، وفق فهم ثان، أمة محمد صلى الله عليه وسلـم عامة، يستشهدهم ربهم على الرسل أو هم عدول الآخرة يشهدون على الأمم بما شاهدوا وفق فهم ثالث وهم وفق فهم رابع الأنباس الذين يشهدون للأمم وعليهم، و"كل مؤمن شهيد" من منطلق الحديث النبوي. وطُرح إشكال المرادفة بين شاهد وشهيد واختلف المفسرون في فهم الآية 169 من آل عمران "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" هل يتعلق الأمر بقتلى أحد أم بدر أم الأمر يفيد الشهادة في سبيل الله عامة ونصرة للدين.
ولا يتعلّق الأمر بمسألة نظرية متعالية فحسب. فالتعامل مع الشهيد، عمليا، تعامل خاص. فغسله محرّم لقول الرسول "زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تتخشب دما" و الصلاة عليه محرمة عليه أيضا وفق بعض المذاهب. ومن نتائج هذا اللبس الترددُ الذي وسم كتب اللغويين والفقهاء والذي كان منفذا لتداخل السياسي بالديني بالاجتماعي خاصة بعد أن غامت الصورة منذ أضحى السيف يجري بين المسلمين بدايةً بحرب الردة، ومعلوم أن من صنفوا بالمرتدين رفضوا دفع الزكاة ولم ينكروا رسالة محمد، مرورا بمقتل عثمان وصولا إلى الصدام المميت بين فريقين من المبشرين بالجنة في حرب "الجمل"، علي بن أبي طالب من جهة، وطلحة والزبير والسيدة عائشة من جهة ثانية.
ومن المراجع الحديثة تستند الباحثة إلى مقالة شهيد لـ Kohlberg الواردة بدائرة المعارف الإسلامية. وتقف من خلالها على توسّع المفهوم المستمر ليضم ضحايا المعارك ومن ماتوا بعدئذ لإصابات لحقتهم أثناءها وتضيف من ماتوا ضحية عنف أو قضوا بسبب عقيدتهم أو ماتوا في خدمة الله أو بسبب المرض وتلحق النساء اللواتي قضين أثناء الولادة والموتى أثناء الصلاة أو في طريق الحج بالقائمة. ويتخذ الموقف الشيعي بعض الخصوصية. فيضيف إلى القائمة من مارس التقية منهم ومن نجح في حرب النفس ولجمها عن شهواتها وتجعل بعض المصادر موت الشيعي أيا كان شهادة.
وفق هذه المعايير هل يمكن اعتبار الحسين شهيدا إذن؟ يظلّ الأمر خاضعا لمتحولات كثيرة ولئن كانت نيته لمواجهة يزيد ثابتة، فإن الموقف من الجهة التي خرج لقتالها إن هي مسلمة أم هي مارقة أم هي باغية وكافرة لم يكن المحدّد الوحيد. فيبقى السياسي متحكما في هذه المتحولات ويبقى العقل السني متردّدا متعثرا للعوامل التي ذكرنا سابقا. أما العقل الشيعي فقد حسم أمره. فانتماء الحسين لسلالة الرسول رفع عنه كلّ حرج ديني. أما بنو أمية عندهم ففئة باغية خالفت الشريعة واغتصبت الحكم.
3 ـ شهادة الحسين في المدونة الشيعية
هو عندهم شهيد أولا بمعنى أنه وسيط بين الله وعباده وعنصر وصل بين السماء والأرض. وهذا المعنى مستمد من مفهوم الولاية في الفكر الشيعي التي تعني امتداد الوحي بعد موت الرسول. فالإمام قائد روحي وُهب العصمة. فيواصل رسالات الأنبياء عبر العلم الذي يحفظه في صدره وينهض بالدور الذي أوكل لهم. وهذا ما يمنحه القداسة ويوجب طاعته من قبل العابدين.
العقل الشيعي يميل إلى تفضيل الشهادة المرتبطة بالإمامة برفع الحجب بين الشهيد والملإ الأعلى على الشهادة بمعنى الموت في سبيل الله. فيكون نموذجا للفداء والتضحية في سبيل الإنسانية جمعاء يعتمده الشيعة.
وهو ثانيا ولي الله الذي خرج على الحكام الفاسدين فتصدى لزيغ الخلافة بشجاعة وفق مشيئة الله لما ينسبون للرسول من حديث يقول "الخلافة محرمة على آل أبي سفيان". فمات في سبيل ذلك. فقد حتمت عليه وراثة آل البيت هذا الخروج. وكما ينتقى الله الأنبياء والرسل ينتقى الورثة فـ"ـيختار لوراثتهم من يكون بمستواهم من حيث القوة والعصمة".
وتقدر الباحثة أن العقل الشيعي يميل إلى تفضيل الشهادة المرتبطة بالإمامة برفع الحجب بين الشهيد والملإ الأعلى على الشهادة بمعنى الموت في سبيل الله. فيكون نموذجا للفداء والتضحية في سبيل الإنسانية جمعاء يعتمده الشيعة. وهذا ما يحوّل موته إلى حياة للناس من بعده. فقد مثل ثورة واعية تماما، أساسها التصميم وجوهرها الإرادة الواعية وسمتها "الاختيار الحر والعمل على أساس التكليف الشرعي والاجتهاد العقلي الذي يفرض على كل قائد وإمام مخلص في سبيل أهدافه الإسلامية" فيما تذكره الباحثة عن ياسر محمد الصالح وسامي نصر خليفة في مقالة "أبعاد المنهج العلمي في دراسة نهضة الإمام الحسين عليه السلام". ولئن رفض التسليم بظلم يزيد فإن عمله هذا ارتقى إلى الموقف من سائر الحكام الجائرين. وتجاوز الرفض إلى الخروج للتغيير بيده وللتصدي للانحراف الذي أصاب القيم الإسلامية.
إذن هل الحسين مسيح الشيعة تتساءل الباحثة؟ فمما ينقله الشيعة عنه من خطبته لما عزم على المسير إلى العراق:" خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ، وَ مَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، وَ خُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَ أَجْرِبَةً سُغْباً لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَيُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ" وتعود إلى العهد الجديد لتحدد مفهوم الشهادة ببذل النفس في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته ففي أنجيل يوحنا: "من يأكل جسدي و يشرب دمي فله حياة أبدية و أنا أقيمه في اليوم الأخير".
ويبدو العقل الشيعي على وعي بهذه المقارنة فيصر على أن تضحية الحسين تتجاوز تضحية المسيح نفسه. ففي الكتاب المقدس أخفى المسيح نفسه ولم يقبل كما الحسين بملاقاة الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق. وبعيدا عن هذه المفاضلة تجد الباحثة أن العقلين المسيحي والشيعي يشتركان في إخراج حدث الموت الإخراج نفسه. ففي الحالتين يسند الحاكم الظالم مكافأة لكل من يأتيه برأس المطلوب. نجد في العهد الجديد: "وَقَرُبَ عِيدُ الْفَطِيرِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْفِصْحُ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاثْنَيْ عَشَرَ. فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْوًا مِنْ جَمْعٍ".
أما عند قتل الحسين. فقد "برز له سنان بن أنس النخعي فطعنه في ترقوته ثم انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره فخر الحسين صريعا، ثم نزل إليه ليحتز رأسه، ونزل معه خولي بن يزيد الأصبحي فاحتز رأسه ثم أتى به عبيد الله بن زياد فقال (ابن سعد في الطبقات):
أوقر ركابي فضة وذهبا * أنا قتلت الملك المحجبـــا
قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وفي الحالين يشترك الرمزان في محورية الموت ذلك الحدث الدنيوي الذي يرفع الميت إلى مصاف القداسة ويلم شمل المجموعة المؤمنة التي تتخذ من هذا الحدث موضوعا للتأمل والاعتبار وإلى ردم الهوة بين المجموعات المتصارعة. ولا ترد هذا التشابه إلى تناص أو تأثر وإنما إلى "ما يكتنف الجماعة المؤمنة من شعور بالأسى على مقتل البطل الشهيد بل ربما بالذنب لعدم قدرتها على دفع الموت عنه".
4 ـ شهادة الحسين في المدونة السنية
يختلف العقل السني في تقييم مقتل الحسين عن العقل الشيعي. فمفهوم الشهادة عنده لا يقترن بمفهوم الولاية أو الوساطة بين السماء والأرض. وهذا ما سيسقط جدولا كاملا من صورة الحسين الشهيد من متخيّله. ولعلّ تولي السنة للسلطة ما جعل نصوصهم القديمة تسكت عن وقعة كربلاء ومقتل الحسين فيها وجعل النصوص الحديثة تتجنب التوسع فيها بدورها.
ولئن كان الشيعة في صفّ المعارضة التي تريد الحكم وتعلي من النماذج المتمردة، فإن الرؤية السنية ظلت محكومة بالموقف من الخروج عن الحاكم عند أهل السنة والجماعة. فكانت تميل إلى عرض الأحاديث التي تدين الفتن وتكفرها. وتحث على الخضوع والتسليم.
فمن صحيح مسلم قول الرسول: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ: أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا. أَلَا، فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَر، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ، أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ، أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ : يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". ومن ثمة فقد كانت تجد في خروج الحسين تمردا غير مبرر.
وتحاول بعمل تلفيقي أن تجد حلا لهذه المعادلة الصعبة. فالحسين المعطّش كان يريد أن يصل إلى الفرات ليشرب فيرمى بسهم. ويزيد يتأثر لمقتله ويبكيه. فموته بالنهاية كان خطأ من مجموعة مارقة تصرفت بمحض إرادتها. ولم يسلم ابن خلدون من هذا الحرج الذي خيّم على العقل السني وبتلفيق أيضا يقر بأن الحسين قد أخطأ بالخروج عن يزيد. ولكنه ينفي الإثم عن الرجلين معا ويقر بشهادة الحسين رغم أنه لم يوفق في فهم الوضع السياسي قبل الخروج نحو الكوفة. فيعكس رغبة هذا العقل في تجاوز الواقعة على عكس العقل الشيعي الذي يريد أن يخلدها ويجعلها أمارة على حق سلب من أهله. فكان الحسين شهيدا غالبا، قتيلا عند بعض السنة. وكان الحدث محكوما بالعوامل السياسية أكثر مما كان عائدا إلى التعاطي الديني.
إقرأ أيضا: صورة الحسين بن علي بين هويتين سرديتين (1من3)