هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في عشرينات القرن الماضي، جاء إلى شمال شرق سوريا بالقرب من الحدود العراقية، رجل فرنسي يدعي الجنون والتسول، وكان يتخذ من منزل مهجور بجانب مسجد في القرية مكانًا للنوم، وفي النهار يبدأ التسول في القرى والمزارع المحيطة، أطلق عليه سكان المنطقة (الفرنسي المتسول)، وكان في الحقيقة يجمع معلومات عن المنطقة قبل قدوم القوات الفرنسية، وبالفعل بعد دخول القوات الفرنسية إلى المنطقة شُوهد باللباس العسكري الفرنسي التقليدي، فقد كان دليلًا للقوات الفرنسية ومكث بالمنطقة لعدة سنوات إلى أن رحل إلى باريس، حيث كان يحمل شهادات عالية في التاريخ واللغات، وهذا الشخص من المؤكد أنه ينتمي إلى جيل المستشرقين الأوائل الذين عملوا أدلَّاء لبداية حقبة استعمارية جديدة لتقسيم المنطقة.
هذه الرواية دفعت الصحافي السوري عبد الرحمن مظهر الهلوش، إلى تأليف كتاب "الشرق: ملحمة العشق الاستشراقي"، الصادر عن سلسلة كتاب المجلة العربية - الرياض 2019. يقع الكتاب في 108 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف الكتاب من مقدمة، وستة عناوين، وخاتمة.
في مفهوم الاستشراق
يستعرض الكتاب تاريخ الاستشراق، حين "شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر تدفقًا غربيا تجاه الشرق العربي بلغ حد الهوس بكل ما هو شرقي، من خلال هجرة المغامرين والرحالة والرسامين إلى ولايات الإمبراطورية العثمانية، خصوصًا بلدان المغرب العربي وبلاد الشام والعراق، أُطلق على هذه الهجرة فيما بعد (الاستشراق) الذي اقترن في الكثير من مظاهرة بالسيطرة والمعرفة والمغامرة الرومانسية" (ص 9).
يُعرف الكاتب الاستشراق، بأنه "الاشتغال بدراسة الشرق من أقصاه إلى أدناه، في كل ما يتعلق به من عقائد ومعتقدات، وآداب، وفنون، وعادات، وتقاليد، وتاريخ، وجغرافيا" (ص 15). ويتناول مراحل التكوين والتقدم ثم الانطلاق.
ينقل المؤلف عن الباحثة العراقية، د. مي عبد الكريم، قولها: "من جهة المصطلح ونشوئه وتكونه، ففي الواقع لم يستقر مصطلح (الرحلة إلى الشرق) إلا في القرن التاسع عشر ومع الرومانطيقيين حصرًا، وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو لامارتين" (ص 18).
يتناول المؤلف دلالات مصطلح الاستشراق، لغويًا وإصطلاحيًا، ويرى أن "تعريف الاستشراق لدى الغربيين عمومًا يرتبط بظهور مصطلح الاستشراق منذ قرنين من الزمان (...) ولعل كلمة مستشرق ظهرت قبل مصطلح استشراق" (ص 22).
أما بدايات ظهور الاستشراق، فقد أكد عدد من المختصصين، "على أن بداية الاستشراق كانت من الأندلس أثناء الحكم الإسلامي، وهناك من يقول إن الاستشراق ظهر مع انطلاق الحملات الصليبية باتجاه الشرق" (ص 22).
يقول المؤلف إن كتابات يوحنا الدمشقي (680 ـ 750م)، "الممثل القديم للاستشرق ـ ظل المصدر الملهم والروح الحارس لإحدى أكثر الدراسات المعاصرة تشددًا" (ص 24). لقد "كان هناك افتنان غير مسبوق لكل ما هو شرقي، من قصص ألف ليلة وليلة التي من خلالها كان ولع الأوروبيين بالشرق وإسقاط تلك القصص على الواقع الاجتماعي، متأثرين بالسحرة وأضواء الشرق الباهرة، والشمس الحارقة كدليل على تحمل الشرقي لكل تلك المصاعب. وكانت لوحات الفنانين الشرقيين تجسد طبيعة الحياة الشعبية فلا يكاد يخلو عمل فني لهم من الجواري والراقصات في لباسهن التقليدي. والباعة والحواري الشعبية بكل بساطتها. إلى القصور وما تحويه من ترف ومجون في بعض الأحيان" (ص 27).
مقاصد الاستشراق
يتطرق المؤلف إلى مقاصد الاستشراق التبشرية، ويرى أن "آراء بعض المستشرقين والرحالة الغربين المهتمين بالشرق ما كانت استشراقًا: لأن مقاصدها ما كانت معرفية، بل تبشيرية. فلم يكن الغرض من الاستشراق عمومًا العلم للعلم أو المعرفة للإطلاع أو توسيع دائرة التاريخ خارج المركز إلى الأطراف" (ص 32). فـ"الأدبيات الاستشراقية كُتبت على يد موظفين في دوائر استعمارية بريطانية وفرنسية، كجزء من نشاط استعماري" (ص 34).
يجمل المؤلف أهداف الاستشراق، في ثلاثية "دنيوية، سياسية، دينية" (ص 38 ـ 41). وبحسب المؤلف كان المستشرق يقوم "بعملية إحياء للخلافات وتعميقها في المنطقة العربية، وحتى على مستوى المذاهب الإسلامية. وجعل المنطقة تغلي على نار الطائفية والمذهبية من أجل تنفيذ مخططاتهم الاستعمارية من خلال دعم لمجموعات محسوبة على الغرب لتكون مخلبًا لهم في المنطقة ودعمها ماديًا ومعنويًا" (ص 42).
لم تخل مطلقًا من التحيزات الأيديولوجية، والتدخلات السياسية، وخدمة الأجندات الاستعمارية، لكن بالمقابل من ذلك ثمة جهود استشراقية جبارة أسهمت في بعث وإحياء تراثنا العربي الإسلامي
يستعرض الكاتب أشهر مدراس المستشرقين، ومواقفهم من الإسلام وحضارته، فيتناول المدرسة الفرنسية، وبعض شخصياتها، ويرى أنهم "أسسوا لنظريات استشراقية تختزن رؤى استعلائية تجاه الحضارة الإسلامية، وما نتج عنها من علوم ولاسيما في مضمار الإنتاج الفلسفي" (ص 53). وقد "نشط المستشرقون في معظم البلاد الغربية (هولندا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، أمريكا... إلخ)" (ص 55).
وبحسب المؤلف، فإن "الاستشراق الروسي يعاني مشاكل وانحيازًا وعداءً لا تختلف عن انحياز الاستشراق الغربي" (ص 60).
حول الدافع العلمي للاستشراق، يقول المؤلف: "لكننا نجد أغلب المستشرقين ـ للأسف الشديد ـ مُنحازين في بحوثهم، وبعيدين عن الموضوعية، ويتخفون وراء دراساتهم بالأغراض التي يسعَون لتحقيقها بدوافع شخصية، أو بإيحاء من أطراف أخرى مُغرضة، وفي محاولة خبيثة للطعن في الإسلام، والمس بالتراث العربي الإسلامي" (ص 61).
يرى الكاتب أن حركة الاستشراق "لم تخل مطلقًا من التحيزات الأيديولوجية، والتدخلات السياسية، وخدمة الأجندات الاستعمارية، لكن بالمقابل من ذلك ثمة جهود استشراقية جبارة أسهمت في بعث وإحياء تراثنا العربي الإسلامي" (ص 65).
إذن لا يجب أن يحاكم الاستشراق ككتلة واحدة، فهناك صور مزدوجة، فقد "أفاد الثقافة العربية فوائد عديدة؛ منها: نشر الثقافة العربية في أوروبا، وترجمة كثير من كتب التراث العربي إلى اللغات الأخرى. وكذلك تصحيح فكرة الشعوب الأوروبية عن العرب والإسلام، وأيضاً نشر كثير من كتب التراث نشراً علمياً، أضف إلى ذلك كتابة العديد من المؤلفات النفيسة عن الحضارة العربية والإسلامية" (ص 78).
يقول المؤلف، شاعت ظاهرة الاستشراق الفني: "فقد تم توثيق صورة الحياة في الشرق بكل تفاصيلها وأسرارها، من قبل أكثر من ثلاثين رسامًا استشراقيًا يمثلون مختلف المدارس الفنية زاروا الشرق في رحلات متعاقبة إبان القرن التاسع عشر" (ص 81). فاللوحات الاستشراقية، كما تصفها المؤرخة ليندا توكلين، "ملصقات دعائية ورموز إمبريالية وعنصرية (...) فهؤلاء الرسامون بحثوا ــ بعزم وتصميم ــ عن تصوير العرب والأتراك بطريقة متعجرفة، وعن تسطير إخفاقات الحضارة الإسلامية، بالتركيز على الأطلال، الحريم، أسواق العبيد، والإعدامات الدموية" (ص 83). وبحسب المؤلف، "قسم كبير من اللوحات الاستشراقية كانت تُبنى من خلال مخيلة الفنانين الغربيين على الرغم من واقعيتها الشديدة، ولكن لا أساس لها في الشرق" (ص 88). ولكنها "تعبير عن رغبة نفسية عميقة للهيمنة" (ص 101).
في نهاية المطاف، أعتقد أن هذا الكتاب مهم ويمكنه أن يشكل مدخلا لفهم حركة الاستشراق، ليس فقط لجهة دوافعها وإنما أيضا لما آلت إليه على جميع المستويات المعرفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولعله من المهم أيضا في ختام عرض هذا الكتاب الذي يختص بواحد من أهم مجالات العلم والمعرفة، على اعتبار أنه يتناول العلاقة بين الشعوب والحضارات، التأكيد مرة أخرى، أن مقولة استقلالية العلوم والمعارف تبقى مقولة نسبية..
*كاتِب وباحِث فلسطيني