تأسست
الحداثة الجمالية في ظل وعي الفنان الحديث المفرط بذاته، بوصفها مصدرا للقيم الجمالية بديلا للحضور الطاغي للتقاليد
الفنية الموروثة. وقد تكرس هذا الوعي الجديد عند شارل
بودلير (1821-1867)، الشاعر الناقد، مؤسس الحداثة الجمالية ومنظرها الأول، حيث يصوغها في مقالته المشهورة "رسام الحياة الحديثة" على الشكل التالي: "الحداثة هي الانتقالي والعابر والعارض، إنها نصف الفن، أما النصف الآخر فهو الخالد والثابت، وليس لكم الحق في أن تبغضوا هذا العنصر العابر والهارب ذي التحولات".
ويردف: "هذا الإنسان يجري ويبحث، فعمّ يبحث؟ المؤكّد أن لهذا الإنسان الّذي أصفُ، والمتوحد الّذي يملكُ خيالاً نشطاً، والمسافر عبر صحراء البشر الشاسعة، هدفاً أسمى من هدف متسكع بسيط، وأكثر شمولاً من المتعة الهاربة والعارضة، إنّه يبحث عن هذا الشيء الّذي أستسمحكم في تسميته "الحداثة"، إذ ليس ثمة كلمة أبلغ من هذه الفكرة.
فالفن عند بودلير هو استخلاص عناصر الخلود من العابر والزائل، الذي لا يمكن للفنان تجاوزه "هذا العنصر العابر والمنفلت، والذي تكون تحولاته جد متواترة. ليس من حقك ازدراؤه أو الاستغناء عنه. إنك بإلغائه ستسقط لا محالة في تجريد جمالي، مستعصٍ عن التحديد كجمال المرأة الوحيدة قبل الخطيئة الأولى".
وهو في تأكيده على العنصر العابر في الفن يشدد على تجاوزه للقيم الجمالية، ويعلن بالمقابل انشداده للحاضر وما يثيره من انفعال لديه بالدهشة التي يجدها في الكهرباء، والسكة الحديدية، وبرج إيفل رمز الحداثة الصناعية وما أفرزته من قيم فنية جديدة.
يصوغ بودلير التعريف الأقصى للحداثة، إذ أصبحت بهذا المعنى تعتمد على مبدأ واحد، هو الإحساس الحاد بالزمن، مما يعني خصوصية اللحظة الراهنة، أن تؤسس الحداثة ذاتها بوسائلها الخاصة، وتستغني عن النماذج والإيحاءات الغريبة عنها، مع مراعاة التسارع الديناميكي المتواصل، إذ لم يعد وعي الحداثة يتحدد إلا بالتضاد مع ذاتها فهي صيرورة متحولة لا تتوقف عند حد. وهذا يعني ألا يظل الفنان مشدوداً إلى الماضي، بل منفتحا على آفاق المستقبل، فالمهمّ في الحداثة هو أن نعبّر عن روح الحاضر، عن روح الزمن الذي نعيش فيه.
لم يعد تحديد الحداثة يشير إلى مجرد مذهب جمالي فني، وانما أصبح يدل على موقف يتمثل بالإحساس الحاد بالحاضر والتحول. وهذا الاحساس المزدوج هو ما دعاه بودلير بالحداثة.
يركز بودلير على الحداثة بوصفها حالة مفصلية في مرحلة حاسمة من عمر الحضارة الغربية، وصراعا بين القديم والحديث، نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي والثورة الصناعية والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي جلبتها الرأسمالية، ويؤكد على الحداثة لا بوصفها مجرد حالة زمنية وإنما حالة جمالية.
لذا لا يلتفت إلى الماضي كما هو حال فناني عصره في حنينهم الدائم للماضي دون الالتفات لما هو راهن "إننا إذا ألقينا نظرة سريعة على ما نشاهده في معارضنا من لوحات حديثة، فإن ما سوف يصدمنا هو نزعة الفنانين العامة إلى إلباس جميع الشخوص ثيابًا قديمة". وهكذا نجده يؤكد على استقلالية الفن وعدم تبعيته كما أكد " كانط" من قبله.
لم يتجاوز بودلير في شعره عصره الذي طغت عليه الروح الرومانسية الحالمة فقط، بل غيّر أيضا أسلوبه الأدبي من الرومانسية الحالمة سالكا طريق الحداثة الجمالية في تمثلاتها الجديدة، ولذلك وصفه رامبو "إنه الرائي الأول، ملك الشعراء، وإله حقيقي"، ومن الأمثلة على هذا قوله:" تحت سماء شاسعة رمادية، في سهل أغبر رحيب، بلا دروب، بلا عشب، ولا شوك، أو قرَّاص، التقيت كثيرين من الناس كانوا يسعون منحني الظهور. كلٌّ كان يحمل على ظهره سرابه الهائل، كأنه كيس طحين ثقيل، أو كيس فحم، أو عُدَّة جندي روماني".
مثلت كتابات بودلير انعكاسا لتلك التوترات والتناقضات التي هيمنت على المجتمع الأوروبي في ظلّ هذه الظاهرة، بتأثيراتها الممتدة خلال القرن التاسع عشر والرغبة في استكشاف مساحات أخرى للتعبير، ونجده في أشعاره يجسد تطورات المجتمع الفرنسي، والأوروبي عموما وتمزقّاته، وقد أصبح معروفا بأسلوبه الغريب في الشعر، الذي مثَّل الطابع الحديث على مستوى بنية النصّ الشعري، ليعبِّر عن الحياة الداخلية الحميمية، والروحانية، والحلم بالآفاق اللانهائية، وخصوصا في قصيدته النثرية التي عدتها سوزان برنار البداية الفعلية لقصيدة النثر وإن ظهرت إرهاصاتها سابقا.
كان بودلير رافضا للمجتمع البرجوازي الذي فرض نفسه على فرنسا خلال القرن التاسع عشر مع اندلاع الثورة الصناعية، من خلال تجسيد صور ترمز إلى السآمة الروحية، والأوهام المرضية، والوقوع في العدمية، كما يعبر عنه في ديوانه " أزهار الشر" في رؤيته التراجيدية المأساوية وديوانه النثري "سأم باريس"، هذا الديوان الذي أثر، ولا يزال، تأثيرا عارما في الأجيال الأدبية اللاحقة وفي شتى الأجناس الأدبية.
في ضوء طرحه النقدي ورؤيته الفنية يغدو الفن الحديث شديد الصلة بالواقع الإنساني وهو ما انعكس في تجربته الإبداعية بوجهين متناقضين: وجه فاتن حيث يغدو فيها كل ما هو بائس ومتدهور واصطناعي فاتنا وعنصرا مهما من عناصر الفن. وفي المقابل يظهر وجه سلبي يتجلى في صورة المدينة الحديثة بما يندرج فيها من غياب الخضرة، وبشاعة، وإسفلت، وأضواء اصطناعية، وخطايا، ووحدة بين أمواج البشر.
وهذا التناقض الذي أظهرته تجربة الحداثة الغربية قد جعل من تجربته دليلا على إخفاقها، لا سيما بعد تحويلها إلى ايدولوجيا سياسية ونسق اجتماعي اقتصادي ثقافي يخدم أيديولوجيا الطبقة السائدة. فإن هذه التجربة الفنية هي -كما يرى محمد برادة- محاولة لبلورة استطيقا للبشاعة كما تظهر في ديوانه " أزهار الشر". غير أن ما حدث أن بودلير "لم يستطع إيجاد باب الخلاص وسط جحيم العصرية المولدة للقلق والوساوس فظلّ موزعا بين ثنائية الانخطاف والسقوط"، فقد كان شخصاً مليئاً بالعقد النفسية والتناقضات. وقد حاول أن يتجاوز عقده وتناقضاته ولكنه فشل. وكان يعاني معاناة قاتلة في الداخل، وإذا كان قد أشرف على الجنون أو حاول الانتحار أكثر من مرّة.
ولعل هذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أن الحداثة الشعرية في الغرب في مضمونها وشكلها كانت انعكاسا واضحا لأزمة الحداثة الغربية كما يعبر عنها "برادبري": إن "عصرنا الحاضر يتطلب نوعا معينا من الفن نظرا للأزمات التي تمزقه، لذلك جاءت الحداثة لتسد هذا الفراغ الحضاري".
ومع مرور الوقت أفرزت أزمة الحداثة الغربية أبعادا أكثر حدة وشمولا قادتها إلى ما أطلق عليه "نيتشيه" مصطلح (العدمية) للدلالة على غياب القيمة والغاية وتلاشي معنى الحياة في الحضارة الأوروبية، وقد تجلت العدمية بشكل واضح في الأدب الغربي وصبغته بصبغتها المأساوية، وتصور لنا عبارة دوستويفسكي " كلنا عدميون" مدى تغلل العدمية في الأدب الغربي إلى الدرجة التي تغدو فيها، كما يرى أرفنغ هاو "هاجسا أساسياً وشيطاناً كامناً في قلب الأدب الحديث".
صورة المجتمع بدت أكثر قتامة في الأدب الحديث في مرحلة لاحقة كما نجدها على سبيل المثال عند "إيليوت" و"كافكا"، لتسود موضوعات التشظي والاغتراب والوحدة وغيرها من إفرازات الحداثة.