وقّع العرب أربع معاهدات ونصف للسلام مع الكيان الصهيوني قبل المعاهدة الأخيرة مع
الإمارات.. اثنتان منها تم إسقاطهما؛ إما بالضغط السياسي والنضالي، كما حدث مع اتفاق 17 أيار/ مايو 1983 بين لبنان والكيان الصهيوني، والذي لم يعمّر طويلا ولم يأخذ طريقه إلى التطبيق، وإما بالضغط الشعبي والدبلوماسي وبجهود إعادة التموضع الإقليمي، كما حدث بعد انقلاب عسكري حديث في موريتانيا (الطرفية التي تم الاستفراد بها في لحظة غفلة).
أما بخصوص معاهدة "كامب ديفيد" مع مصر، فقد وُصفت بالسلام الفاتر، وكان الرفض الشعبي لها شاملا، وبقيت العلاقات الدبلوماسية والتطبيعية دافئة؛ فقط على الصعيد الرسمي الصرف. وعلى هذا الصعيد الرسمي، كانت حادثة اغتيال السادات درسا بليغا لخلفائه في تقليص العلاقة وعدم تمددها.
ومع أن "كامب ديفيد" لم تتعرض لتهديد جدي بالرغم من عامي الربيع العربي (2011-2013)، غير أن السلام مع الأردن (وادي عربة)؛ واجه ويواجه باستمرار رفضا شعبيا وبرلمانيا أيضا، وقد مرّ بتهديد خطير في غير محطة، ليس أولها عام 1997 عند افتضاح محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، وليس أخيرا بمحاولات الضغط على الأردن لاستبدال دوره المتفق عليه في القدس والحرم القدسي، بدور سعودي ضمن صفقة تجري منذ سنوات في السر مع الكيان الصهيوني.
أما نصف الاتفاق (أوسلو) فقد تأكد سقوطه المدوّي الآن. ويرجع ذلك السقوط لعوامل متعلقة بفعل المقاومة الفلسطينية الضارب في التسعينيات، الذي أدى إلى تفويض جهود التسوية بقتل رابين، ثم بإعادة صعود "الصهيونية الجديدة" ذات الوجه اليميني المتطرف، أو حتى عوامل صهيونية معارضة لمبدأ التخلي عن جزء مما يسمونه "أرض
إسرائيل". بدأ ذلك بالعملية التي نفذها الطبيب المتطرف باروخ غولدشتاين في الحرم الإبراهيمي، في رمضان من عام 1994، ثم بصعود اليمين الديني، وفشل اليسار المدوي.
والسؤال هنا: ماذا عن الاتفاق الأخير مع الإمارات؟ هل يمكن أن تكتب له الحياة أم أن عناصر تقويضه أقوى؟
الإمارات دولة ذات مستوىً معيشي ورفاهية عالية، بجانب قلة عدد السكان الأصليين. كما أنها تخلو من أي سجل ذي صلة بالاحتكاك بالكيان، كما أن قيادتها تبدو مخترقة عموديا، وفي صلبها تنعكس كل الملابسات المحيطة بالإعلان المفاجئ عن تدشين العلاقات الدبلوماسية والسلمية. غير أن عوامل تقويض الاتفاق متاحة بصورة لعلها تفوق غيرها من الدول الأخرى. وهنا نفترض بأن العوامل التالية في حال تم تفعيلها كفيلة بتقويض الاتفاق وإلغائه، وهي:
أولا: الدور الإيراني. نجح الإيرانيون إلى حد كبير في أكثر من ملف إقليمي، منها نسف سياسات معادية لهم، وتمرير سياساتهم، خاصة في دول الجوار العربي، وهو المجال الاستراتيجي الحيوي الأهم بالنسبة لهم.
فقد نجحت طهران قبل ثلاث سنوات في سحب فتيل الحريق الكردي الذي كان يعد له الصهاينة مع بعض القوى الكردية في شمال العراق، عندما أحبطت محاولة إعلان دولة كردية (كان قد نجح استفتاء شعبي حولها) في شمال العراق، مما اضطر مسعود البرزاني في حينه إلى تقديم استقالته. ولا نتحدث هنا عن دور طهران في تعزيز مشاريعها الطائفية في المنطقة التي يجيء الاتفاق الإماراتي الصهيوني وكأنه رد عليها.
ثانيا: العمل على عزل الإمارات، خاصة من قبل دول وحركات وشعوب متضررة من سياساتها (التي نكتشف أنها محض سياسات صهيونية كانت "أبو ظبي" أداة لها). وهنا يمكن الحديث عن دور واسع من هؤلاء المتضررين، ليس أولهم تركيا التي كانت من أوائل من سجل رد فعل سلبي في الإقليم على المعاهدة الإماراتية- الصهيونية، ثم قطر، وجزء من المعارضة السورية، وحكومة الوفاق الليبية، وتنظيمات الإخوان المسلمين في البلدان العربية، خاصة إخوان اليمن والخليج ومصر..). ثم يضاف إلى ذلك كله، المحور الإيراني (حزب الله، العراق، الحوثيون، التنظيمات الشيعية الخليجية)، ويُستثنى من المحور نظام بشار الذي صمت بسبب علاقاته الوثيقة مع أبو ظبي. هناك أيضا الفلسطينيون بشتى تنظيماتهم وتوجهاتهم.
ويمكن لهذه المحاور أن تنشط سياسيا فتؤثر على دول شمال أفريقيا مثلا، أو دول آسيا الإسلامية الكبرى (إندونيسيا، ماليزيا، باكستان). ويمكن أن تعمل هذه الدول والفعاليات على مقاطعة الإمارات سياسيا واقتصاديا وتنمويا، كليا أو جزئيا؛ بحسب كل طرف وظروفه.
ثالثا: العمل على الاستثمار في الورقة الداخلية الإماراتية، فهناك سبع إمارات ينظمها اتحاد فيدرالي، وهنا مجال للتأثير في تمايز مواقف بعض تلك الإمارات ذات المنحى الإسلامي والعربي، والتي يمكن أن تتخذ مواقفها أشكالا من الضغط والتأثير، رغم هشاشتها الاقتصادية، وحاجتها لأبو ظبي.
رابعا: الاستهداف الإعلامي والشعبي لرؤوس العائلة الحاكمة، ومن يشد على يدها من وسائل الإعلام الممسوخة التي تتباهى إلى حد الوقاحة بعمالتها للكيان وارتمائها في أحضانه. وهؤلاء إذا ما شعروا بالخوف (وهناك الكثير مما يمكن أن يخافوا منه وعليه) فإن المعادلة كلها لديهم ستختل.
خامسا: على الفلسطينيين أن يستيقظوا من غفلتهم، ولا يكتفوا بنزع الشرعية عما فعلته الإمارات وفضحها، بل العمل أيضا على مقاطعتها في جميع المحافل بما في ذلك الجامعة العربية. كما أن عليهم أن يتكفلوا بمحاسبة العنصر الفلسطيني العميل الذي هيّأ ورتّب وأنضج مثل هذا الاتفاق، والذي يعتبر مجرد ذكر اسمه هو وحاشيته مصدر عار ينبغي التطهر منه.
سادسا: على تنظيمات الإخوان المسلمين التي أعلنت الإمارات حربها الشعواء عليها من دون سبب، سوى أنها عنوان للربيع العربي وللتغيير في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.. إلخ.. أن تراجع سياساتها، وأن تغادر تلك السياسات غير المفهومة في الحذر إلى حد أنها غدت لا تتقن غير تلقي الصفعات على الخدود؛ يمينها وشمالها. نعم عليها أن تبلغ سن رشدها السياسي والنضالي وتعرف طريقها وتأخذ حقها، وتستغل هذا الظرف الذي توجد فيه دول منبوذة، وتقرر أن تتخوشن وتغادر مربع الاستكانة، لأنها إذا فعلت ستصنع وجها جديدا للمنطقة.