كتاب عربي 21

عسكر البرهان وأحلام زلوط

جعفر عباس
1300x600
1300x600

زلوط، على ذمة الحكاية الشعبية ديك مزعوط، لا يملك من أدوات "الديكنة" سوى التاج الذي يعلو رأسه، ولا طاقة له بالنزال والتنافس مع بقية الديكة، ومع هذا يعتلي حبلا مشدودا ويسرح به الخيال وهو ينازل بقية الديكة ويفتك بها ليستفرد بأسراب الحسان من الدجاج، ويزهو بعد النصر مغمض العينين مصفقا بجناحيه، وفجأة يجد نفسه وقد سقط على الأرض وهو على حاله الأصلي، فصارت حكايته مثلا لمن يحلم بأشياء لا يملك أدوات تحقيقها.

رئيس مجلس السيادة الانتقالي السيد الفريق الركن القائد العام للقوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان ليس سعيدا بطابور الألقاب الفخيمة التي فاز بها بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير، ويحلم بلقب يحوزه هو بنفسه، فمجلس السيادة السودانية قيادة جماعية تمثل رئاسة الدولة، وحسب الوثيقة الدستورية التي تحتكم إليها الحكومة الحالية فقد بقي للبرهان في منصب رئيس المجلس تسعة أشهر، يصبح بعدها عضوا عاديا بعد أن تؤول الرئاسة إلى شخص مدني.

في أول لقاء تلفزيوني مطول له قال البرهان: إن والده رأى في المنام أنه (عبد الفتاح) سيصبح ذا شأن عظيم في السودان؛ وأن يسرد الرجل تفاصيل هذه الرؤيا التي ظل يختزنها في سنام ذاكرته ويرويها على رؤوس الأشهاد، دليل على أنه يصدق ما جاء فيها، ومن ثم فليس من الشطط أن نستنتج أنه مقتنع وعازم أن يكون ذا شأن، وليس أن يتقاسم الشؤون مع تسعة آخرين في مجلس السيادة.

ولهذا فلملايين السودانيين الحق في الشك في نواياه الانقلابية عندما خاطب ضباط الجيش السوداني قبل أسابيع ثلاثة قائلا: إنه يريد تفويضا من الشعب لينحاز إليه مجددا كما انحاز إليه في نيسان (أبريل) من عام 2019 عندما انقلب وصحبه على عمر البشير، وحقيقة الأمر هي أن البرهان وصحبه من كبار الجنرالات أبعدوا عن الجيش كل الضباط الذين انحازوا للثورة الشعبية بالهتاف والسلاح، وأن العسكريين الذين أقروا خلع البشير فعلوا ذلك وشكلوا مجلسا عسكريا صرفا لإدارة شؤون البلاد، ولكن سرعان ما تفكك ذلك المجلس تحت الضغوط الشعبية وتراضى العسكر والمدنيون على اقتسام السلطة بحيث تكون السلطة التنفيذية بأيدي المدنيين.

 

يكاد المراقب يرى بالعين المجردة كيف أن كبار العسكريين في السودان يريدون للحكومة المدنية أن تفشل، ويصرون على خنق اقتصاد يعاني سلفا من اختناقات قاتلة بالإبقاء على شركات تجارية ضخمة تحت السيطرة التامة للعسكريين،

 



ومن فرط سذاجة بعض العسكريين الذين عشقوا أضواء السلطة، وقد كان حكام الولايات الـ 18 جميعهم من العسكريين طوال عام كامل، انتهى بتعيين ولاة مدنيين قبل أسابيع قليلة، فقد استقبل قادة سلاح المدفعية في مدينة عطبرة موكبا حمل قائده عريضة بتفويض الجيش "لإنقاذ البلاد"، وفي ذلك مخالفة صريحة للقوانين العسكرية، فليس من مهام قائد عسكري استقبال مواكب سياسية وتسلم عرائض في مطالب سياسية أو اقتصادية او اجتماعية، ما لم يكن ذلك القائد قد اعتبر نفسه جزءا من برنامج البرهان للحصول على التفويض المنشود..

وليس سرا أن عسكريي مجلس السيادة اختطفوا مهام المجلس من زملائهم المدنيين، ولا يفتأون يتغولون على صلاحيات مجلس الوزراء، بل إن بين الكوادر المساعدة في مجلس السيادة ضباط ذوو رتب رفيعة، من بينهم الفريق محمد الغالي الذي أراد تمرير صفقة شراء 70 سيارة فارهة للمجلس، ولما رفضت وزارة المالية ذلك قال "خلوها 35"، ولما افتضح أنه أوكل أمر الشراء لشركة بعينها دون طرح مناقصة تم "طفطفة" الأمر دون أن تتم محاسبته على الشروع في التطفيف.

وهناك المستشار الإعلامي للبرهان، العميد الطاهر أبو هاجة الذي خرج إلى العلن قائلا: إن عدم ارتكاز القرار السياسي على البعد الأمني سيزيد معاناة الشعب ويؤدي إلى تعثر المرحلة الانتقالية، وبهذا فهو يقول إن معالجة مشكلات البلاد يجب أن تكون "أمنية"، أي أنه ما لم تكن للعسكر الكلمة العليا واليد الطولى في أمر الحكم، فسيكون في الأمر عسر.

ويكاد المراقب يرى بالعين المجردة كيف أن كبار العسكريين في السودان يريدون للحكومة المدنية أن تفشل، ويصرون على خنق اقتصاد يعاني سلفا من اختناقات قاتلة بالإبقاء على شركات تجارية ضخمة تحت السيطرة التامة للعسكريين، ولا عليهم أنه ما من جيش ولغ في التجارة إلا وتحوَّل إلى بؤرة للفساد ووكر للصراع على السلطة والثروة..

براكين الغضب التي فجرها طلب البرهان تفويضا من الشعب "لينحاز إلى الثورة"، كفيلة بردع البرهان وبطانته من مجرد التفكير ولو همسا في الاستيلاء على السلطة، ولولا أن كارثة الفيضانات والسيول التي دمرت العديد من القرى والبلدات في السودان الشمالي والأوسط مؤخرا، لكانت شوارع المدن تهدر يوما بعد يوم طوال الأسابيع الثلاثة الماضية مطالبة برحيل البرهان حتى عن المنصب الذي لا يرضي طموحاته، ولكن، وعلى كل حال فمن حق الزلوطيين أن يحلموا ومن حقهم أن يصيحوا في الشعب:

لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يفوت قيصر جديد.. بعدها يتهاوون من الحبال..

التعليقات (1)
الصعيدي المصري
السبت، 05-09-2020 06:01 م
نسخ - لصق تجربة عبدالفتاح المصري الانقلابية