تحدثنا في المقال السابق عن دور الأسرة في
التربية السياسية باعتبارها أول مؤسسة يراها أبناؤنا، واليوم نتناول دور كل من
المدرسة والجامعة في عملية التربية السياسية.
وبداية، لا بد أن نؤكد أن التربية السياسية تتأثر بالبيئة السياسية السائدة في المجتمع وبتَوَجهات النظام السياسي في تلك البيئة، فإذا كان النظام السياسي ديمقراطيا معبرا عن الإرادة الحقيقية للمواطنين؛ ازدهرت التربية السياسية وأثمرت جيلا واعيا بقضايا مجتمعه، ومؤمنا بواجبه ودوره في التصدي لتلك القضايا. أما إذا كان نظاما ديكتاتوريا مستبدا، ساد الخوف وتراجع دور التربية السياسية، ووجه الوجهة التي تخدم مصلحة ذلك النظام وتطيل بقاءه في الحكم، فينشأ جيل مرتبك الخطى، مشوش الفهم، ضعيف الانتماء، نفعي الغاية، إما كارها لتلك السلطة وناقما عليها، أو منافقا ومداهنا لها على حساب المصالح العليا للوطن.
ومما يؤسف له، أن ما يسود معظم بلداننا العربية والإسلامية هو ذلك الاستبداد السياسي، الذي لم تتخلص منه الشعوب بعد رغم ثوراتها وتضحياتها. ذلك الاستبداد يسخر مؤسسات الدولة كافة، بما فيها المؤسسات التعليمية لبسط نفوذه وتثبيت أركانه.
يؤكد ذلك محمود حسن إسماعيل في كتابه "التنشئة السياسية"، حيث يقول: "تعتبر المؤسسات التعليمية وسيطا اجتماعيا أوجده النظام لتكريس الوضع القائم. وفي هذا الإطار تُعد المناهج الدراسية وبقية جوانب العملية التعليمية إحدى الآليات المتاحة للحفاظ على البناء السياسي، وفي ظل النظام السياسي السائد تعتمد السلطة الحاكمة على النظام التربوي كوسيط من أجل المحافظة على سيطرتها الاجتماعية والاقتصادية".
أما عن دور المدرسة في عملية التربية السياسية، فتكمن أهميته في كونه يجمع بين التعليم النظري والتربية السلوكية، حيث يتعدى دورها الكتاب المدرسي والمادة المُوجَّهة، إذ يتنوع ذلك التأثير بسبب قضاء التلاميذ لفترات طويلة من حياتهم فيها، فلا يتأثر الطالب بالمحتوى العلمي وحده، بل يتأثر بكل ما يراه في بيئة المدرسة.
والمدرسة تختلف عن الأسرة في كونها أكثر انضباطا وأقل عاطفة، ففيها يدرك الطالب قيمة المحاسبة، ويتعود حياة أكثر جدية، حيث يجد نفسه ملزما بالاستيقاظ من أجل الذهاب إليها في مواعيد محددة، لأنه سيحاسب إن تأخر عن موعده. كما أنه سيجد السلطة المتمثلة في الإدارة المدرسية أكثر حزما من سلطة بيته الذي تربى فيه، فيبدأ في تعويد نفسه على احترام نلك السلطة، حيث يتلقى الأوامر والتوجيهات من معلمه أو مدير مدرسته.
ويتعود الطالب قيمة الانضباط واحترام النظام بوقوفه في صفوف الطابور المدرسي، والاستئذان كلما أراد أمرا.
ثم هو بين زملائه في حياة جماعية، يشعر معها بقيم متعددة، فالتنافس بينه وبين زملائه محرك له نحو الإنجاز وتحقيق الذات.
والمساواة بينه وبين أقرانه سلوك يومي، يلاحظه في تعامل معلمه معه ومع زملائه، فيتربى على ذلك السلوك.
إذن؛ فالمدرسة تقوم بدورين متوازيين: دور معرفي نظري، ودور سلوكي عملي.
أما الدور المعرفي النظري، فيتمثل في المناهج الموجَّهة والهادفة إلى التربية السياسية، كمادة التربية الوطنية أو القومية، أو مادة التاريخ، أو ما يتعلق بالقيم السياسية والاجتماعية التي تتضمنها كتب التربية الدينية واللغة العربية بما تحويه من نصوص أدبية، أو موضوعات قرائية تثقيفية وتوعوية.
وأما الدور السلوكي العملي، فيتم من خلال الأنشطة المدرسية الهادفة التي تنمي مواهب الطلاب وتوسع مداركهم كالإذاعة والصحافة المدرسية والنشاط المسرحي، أو التي تزرع فيهم قيمة تحمل المسؤولية من خلال المشاركة في الخدمة العامة، كالشرطة المدرسية الطلابية أو الجمعية التعاونية المدرسية.
وقد يمارس الطالب نشاطا سياسيا مباشرا من خلال مشاركته في انتخابات اتحاد الطلاب، حيث يرشح نفسه، وينافس زملاءه في الفوز بعضويته أو رئاسته، وغيرها من الوسائل العملية.
والطالب عندما يقضي في المدرسة فترة طويلة من حياته فإنه يتطبع بطباعها، فكلما رأى إدارة المدرسة مدركة لدورها، قدوة في إدارتها وقراراتها، ساعية لترسيخ قيم العدالة والحرية والشورى والمساواة، نشأ متمسكا بتلك القيم وممارسا لها.
وعلى النقيض، كلما كانت إدارة المدرسة بعيدة عن تلك القيم، وظاهرها الاستبداد والقهر، فإن ذلك - لا محالة - سيخرج أجيالا ناقمة على من حولها، تتخذ من التمرد والعنف وسيلة لاستخلاص حقوقها أو إثبات ذاتها.
وتأتي
الجامعة بعد ذلك امتدادا لدور المدرسة التعليمي المقصود والموجه، إلا أن ما يتاح في الجامعة يختلف عما تعود عليه الطلاب في المدرسة، ففي الجامعة يكون الطلاب قد بلغوا درجة من النضج العقلي، تمكنهم من الاطلاع الذاتي وزيادة حصيلتهم المعرفية والسياسية عبر وسائل تثقيفية مختلفة، كالصحف والمجلات ووسائل الإعلام التقليدية أو الحديثة، وكذا عبر جماعات الرفاق التي تحيط بالطالب في الجامعة وخارجها، ومن ثم الأنشطة الطلابية بمختلف أنواعها، وأهمها ما يسمى باتحادات الطلاب، وهو النشاط السياسي الأكثر تأثيرا في الوسط الجامعي، والمكون الأهم للكوادر السياسية الشبابية. وقد رأينا كيف أسهم ذلك النشاط المهم في صناعة رموز وقيادات سياسية طلابية في فترة مبكرة من عمرها، وكان لها بعد ذلك دورها البارز في الحياة السياسية. ورأينا من بين هؤلاء من أسس أحزابا سياسية أو ترشح لرئاسة البلاد بعد ذلك، كما كان في مصر على سبيل المثال.
ويتوفر للطلاب في المرحلة الجامعية مناخ من الانفتاح على مجتمع تعليمي أكثر تخصاً، وبيئة فكرية أكثر عمقا، فمن ذلك الدراسات السياسية المقصودة كما في كليات السياسة، والاقتصاد، والتاريخ، والحقوق، والاجتماع، وغيرها من المؤسسات الجامعية المتخصصة في العلوم السياسية خاصة، والعلوم الإنسانية بصفة عامة.
والذي يجب أن يتنبه إليه الجميع هنا، هو أن المدرسة والجامعة تستقطع من حياة أبنائنا زهرة أعمارهم، تلك السنوات هي فترة البناء الفكري والمعرفي والسلوكي، لذا فإن المجتمع لا بد أن يبقى رقيبا على تلك الأنظمة السياسية المستبدة المزورة، التي تسعى لتزييف وعي أبنائنا عبر طريقين:
الأول: هو العبث بالمناهج والمقررات الدراسية الذي لم يقف عند حد استبعاد سير العظماء والمصلحين أو حذف مقررات وإضافة غيرها، بل تعدى ذلك إلى استبعاد آيات ونصوص قرآنية ونبوية من المناهج الدراسية.
والثاني: هو فرض مناخ من التضييق والإرهاب الأمني، وزرع الرعب في نفوس القائمين على العملية التعليمية والتربوية، بغرض الحد من ممارسة الأنشطة الطلابية المختلفة، وأبرزها ما يتصل بالأوضاع السياسية.
وفي المقال القادم - بمشيئة الله - نتناول دور المسجد وأثره في التربية السياسية.