هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في بقعة هادئة من حي الزمالك تقبع قاعةُ أُوبُنتُو للفنّ التشكيلي Ubuntu التي تستقي اسمَها من العُمق الأفريقي لمصر. في لغة نجوني Nguni –إحدى لُغات شُعوب البانتو التي تَعمُر أفريقيا جَنوبَ الصحراء الكُبرى- تعني كلمةُ أُوبُنتُو معنىً قريبًا من مفهوم الإنسانية، مكوَّنةً من جذرَين لغويين هما "نْتُو" أي الشخص أو الإنسان، و"أُوبُو" وهي بادئةٌ تُكوَّن المفاهيمُ المجرَّدة بإضافتها إلى الأسماء.
والمهمّ أن الكلمة أصبحَت تعني في سياق النضال الفكري لأفريقيا الجنوبية "أنا أكون لأننا جميعًا نكون"، وأصبحت عَلَمًا على فلسفةٍ إنسانية تُعلي من قيمة الانتماء للجَماعة البشريّة، وعلى فكرٍ لاهوتيٍّ مسيحيِّ أفريقيٍّ يربط كُنهَ الإنسانيّة بخَلقِ الإنسان على صُورة الرَّبّ، والأهم أنّها عَلَمٌ على فكرٍ سياسيٍّ ارتبطَ بانتقال جنوب أفريقيا من سياسة الفصل العنصري Apartheid إلى حُكم الأغلبية. https://ubuntuartgallery.com/
في معرض (أُوبُنتُو كمان وكمان الرابع Ubuntu Revisited 4th) تجتمع في الطابقَين اللذَين تشغلُهما قاعةُ العرض أعمالٌ لفنّانين تعاونت معهم القاعةُ على مدار الأعوام الماضية منذ تأسيسِها عام 2014. وهي أعمالٌ تنتمي إلى مختلِف حقول الفنون البصرية، بين الرسم والنّحت والكولاچ والطباعة وغير ذلك. وفي هذا المقال سنقوم بجولة سريعة بين أروقة أُوبُنتُو نستعرضُ خلالَها نخبةً من أبرز الأعمال المعروضة.
* كائناتُ (عمران) بين التوتُّر والاستسلام:
في لوحات (محمد خالد عمران) الثلاث المرسومة بالأكريلك على القماش، نرى خلفيّةً شديدة البساطة، اختزلها الفنان إلى أشكال هندسية في اللوحتين اللتَين تُبرزان الشابّ، وإلى دائرةٍ شمسيّةٍ تتوسّطُ أفُقَ الغروب، مع بعض الأعشاب النابتة من الأرض في اللوحة الثالثة ذات الحيوانات. وبهذه البساطة في الخلفيّة يقدّم لنا أبطالَ أعمالِه تكتنفهم قوّةُ الهواجس المسيطرة على مخيّلة (عمران)، فكأنهم أفكارٌ شديدةُ الوضوح فرضَت نفسها كالوساوس على ذهنِه فلم يُرد أن تشوِّشَها الخلفيّات.
في لوحة الحيوانات يمثّل جذع الزرافة وسيقانُها الهيكل الأساسيّ للّوحة، حيث تظهر البقع اللونية المميزة لها على أسفل عنقها ومقدَّم صدرها فقط، ويغيب أعلى العنق خارج اللوحة، وتختفي البُقَع في بقية جسمها لتفسحَ المجال لكائناتٍ بحريةٍ مختلفةٍ تظهر عليها كأنها مرسومةٌ على جسدها أو كأنها تَسبَح تحت جِلدِها الشفّاف.
على ظهر الزرافة يقف غرابٌ مُطفأ العَين كأنه لا ينوي التحليقَ، وربما لا يحتاج عينيه ليطير فهو يحفظُ السماءَ عن ظهر قلب، وتحت الزرافة يجلس قِردٌ شيخٌ على درَقة سلحفاة، وفي نظرة القِرد الجانبيّة تأمُّلٌ حزين، بينما ترفع السلحفاةُ رأسها إلى أعلى ويَشي وضعُ أطرافِها بأنها ترزحُ تحت ثقل القِرد، لكنّ الاستسلامَ يهيمنُ على نظرتها كما يهيمِن على عالَم اللوحة بكاملِه، فالغُروب وتآخي الكائنات المُسالِمة - حتى إنّ أكبرها ليَتَّسِع لأصغرِها – وحُضورُ الطبيعة في الخلفية البسيطة، كلُّها مفرداتٌ تشي بالاستسلام، ولعلّ فكرة الزرافة التي تحمِل كائنات البحر والغُرابَ، والسلحفاة حاملة القِرد توحي بأنّ عالَم الطبيعة مهاجِرٌ مع هذا الغروب، وهو عالَمٌ تكتنفُه الألوان الدافئة بالكامل، ولا تظهر البرودة إلا في لون السماء الذي يُحيط الجميع.
في لوحتَي الشابّ –على عكس اللوحة السابقة– يبدو التوتُّر في عضلات النصف العلويّ للشابّ أو في ذقنِه وشفتيه، حتى إنّ شَعرَ رأسه ينتصِبُ في أوتادٍ حادّةٍ طويلةٍ تقع بينها بفعتان لونيتان باردتان في إحدى اللوحتين، وتَنبُت بينها نباتاتٌ صبّاريّةٌ في الأخرى، والشابُّ نفسُه مرسومٌ بتدرُّجٍ لونيٍّ باردٍ بن الأزرق والأخضر. هذا فضلاً عن الأشكال الهندسية المتقاطعة مع جسدِه كأنها تنغرزُ فيه في اللوحة التي يظهر فيها بنطالُه، فهل هي قُصاصاتٌ حادّةٌ غزَت اللوحةَ من لوحةٍ تجريديّة لموندريان أو كاندنسكي؟! يبدو أننا أمامَ إنسانٍ خاضعٍ لتجريبٍ علميٍّ صارمٍ، أحالَ لونَه ورُوحَه إلى البرودة، وحتى حين استنبتَ رأسَه المفلوقَ كشرائحِ الصُّلب، أنبتَ فيها صبّارًا يتجاوبُ والجفافَ المتوقَّعَ في عالَم اللوحة. هكذا فصّلَ لنا (عمران) مرثيّة أقاربِنا المستسلمين في سلّم التطوُّر مع الطبيعة الراحلة، في مقابل الإنسان المتوتِّر الذي حوَل نفسَه إلى مختبَرٍ بارد.
* أسماء جنيدي ودجاجها المنتصِر:
هي غرفة مكتبٍ في مكان عمل، تشهد بذلك الملفّات الضخمة وأكوام الورق المتراصّة والدولاب الرماديّ المعدني الذي يذكّرنا خِزانات المصالح الحكومية. لكنّ الأمر غير المعتاد في الخلفية – بالنسبة لغرفة مكتب - هو البرتقالي البرّاق الذي تصطبغ به الجدران. في تأويلي الذي لا أجدُ منه فِكاكًا، أرى هذا اللون ممثّلاً لانتصار الطبيعة التي تجسّدُها الدجاجاتُ الثلاث والدِّيك على النظام الإنسانيّ البارد الذي تجسّدُه بيئة العمل الكثيف وأوراقه المتراصّة. الدجاجة السمينة في أقصى اليمين تنظرُ إلينا في براءةٍ بينما تقفُ بين أطلالِ ما كان ورَقا.
ربّما أحالَته مع رفيقاتها إلى هذه الكومة المنتفشة التي تُشبه القَشّ! الدجاجتان في يسار اللوحة تنظران إلينا نظرةً جانبيةً كأنهما ترتقبان ما عسانا أن نفعلَ إزاءَ ما حقّقه الدجاجُ من فوضَى! والدجاجة التي في أقصى اليسار بالتحديد منتوفةُ الرِّيش حول عنقها وبطنها وجناحها الأيمن، وهي الوحيدةُ التي ترفرف بجناحَيها بينما تمشي فوق أوراق ملفٍّ مفتوحٍ واقف، فيبدو أنّ رجليها لا تثبتان على الأوراق ولذا تتأهّب للقفز إلى الأرض. أمّا الديك فهو كعادته يقف في أعلى مكانٍ بين الدجاجات، فاتحًا منقارَه قليلاً، وربما هو يتأهل للصياح. في تقديري أنّ اللوحة على بساطتها نموذجٌ للوحة الفكرة الطريفة المنفَّذَة بحِرفيّة، مُسفِرَةً عن أثرٍ فنّي جميل، قادرٍ على تحريك القلوب واستفزاز العقول.
* أحمد عبد الله - ممنوع العبور:
أشخاص فنّاننا فقدوا مرونتهم الإنسانية الحَيّة، وارتسموا على اللوحة أقربَ إلى الموتى الأحياء (الزومبي). في اللوحة الأولى يمتدّ شريط المرور الأصفر والأسود أفقيًّا ليقسم اللوحة إلى ثلثين فوقه وثلث تحته، وفي الجهة اليمنى يلتفّ الشريط ككمامة حول فم الشخص الجاحظ. أمّا الجاحظُ نفسُه فوجهه وعنقه مرسومان بدرجات من الرماديّ الذي يذكّرنا بشحوب المَوتى، فتبدو عيناه الجاحظتان قد تجمّدتا على هذه الحال في لحظة فزعٍ رهيبةٍ قُبَيلَ الموت.
الشخص الأيسر يبدو أنه قد أولانا ظهرَه، لكنّ ورقَ الشجر يحيط قفاه بالكامل ولا يبدو منه إلا الأذنان وعدستا قناع التنفُّس ومرشّح الأكسجين، كأن قناع تنفُّسه مكوَّنٌ أصلاً من ورق الشجر! عدا ذلك فما يبدو من جسدِه مرسومٌ بالرماديّ هو الآخَر.
أمّا قاعُ اللوحة فيتّسع لمرطبانين يحويان فِقراتٍ هيكليّةً إنسانيّةً وعضوًا جسميًّا آخر، وثلاثة أيقوناتٍ لقلوبٍ، غير أيقونة المحادثة الهاتفية بين الشخصين. والحَقّ أنّ استخدامَ الفنان لأيقونات المحادثات الرقمية وللمرطبان يُحيلُنا إلى أعمال (آندي وُارهل Andy Warhol) الذي يرتبط اسمُه بنقد الثقافة الاستهلاكية والسخرية منها.
بَيدَ أنّ السخرية المريرة هنا تبدو من الحال الإنسانية العامة، حيث الإنسان مكبَّل بقيود حضارته مسجونٌ في الأوبئة التي صنعها بيدَيه، عاجزٌ عن التواصل مع أخيه الإنسان إلاّ عبرَ الوسائل غير المباشِرة.
وقريبٌ من هذه المعاني نستطيع استكناهَه في اللوحة الثانية، حيث الشابّ المتزيِّي بزِيّ الملاكِمين، بينما جسدُه الهزيل الملوّن بالبرتقاليّ لا يشي بانتمائه إلى هذه الرياضة، لكنّه يتحلى بقلادة الفائزين رغم ذلك، والدبابيس مرشوقةٌ في قفّازَيه، وبنطالُه القصير يفضح انتصابَه كما لو كان مستغرَقًا في النوم يَحلُم، وحول خوذته التي تكشف نظرتَه الشاردةَ وجوهٌ تحملُ تعبيراتٍ مختلفةً كأنها أقنعةُ المسرح، وبشرةُ الوجوه مفتتةٌ كأنها حراشِف، وتحوم حول الخوذة والوجوه أيقوناتٌ أخرى للمحادثة الرقمية، وللشريط المروري حضورُه هنا أيضًا، حيث يربض فوقه إلى يمين الملاكِم غرابٌ ينظرُ إليه. هي حالةٌ حُلُميةٌ غريبة تلتبس فيها النوازع والرغبات بالحقيقة، ويسيطر عليها الصمت. والمهمّ أنّ الشريط المروريّ يذكِرنا دائمًا بامتناع العبور إلى الحياة كما أَلِفناها أو كما نصبو إليها.
* بُرُنز خالد زكي المقدَّس:
في منحوتته الوحيدة الحاضرة، يَمثُل الحجَر البُرُنزي مؤطَّرًا بخطوطٍ منحنية، فيها رُوح الحُنُوّ الأنثويّ، ويَخرج منها صدر الإنسان الذي يميل برأسه على الحَجَر مغمضَ العينين، بينما يضع يده اليسرى مفرودة الأصابع على الحجَر، وفي وجهه ويَدِه نحولٌ واضحٌ كأنه مبعوثٌ من الموتِ أو موشِكٌ عليه أو مُضنَىً بحُبٍّ عظيم، ولا يفوتنا كذلك ما في وضعية يده وانحناءة رأسه من تقديسٍ ورهبة، كأنه موشِكٌ على تقبيل الحجَر الذي منه خَرَج.
وهو في ذات الوقت لم يَخرُج تمامًا من الحَجَر، وإنما هو خارجٌ منه داخلٌ فيه في وحدة وجودٍ صوفيّة، وهو إلى ذلك يَنطِق بانتمائه الرُّوحي إلى العصر الذهبي للنحت المصري القديم في عهد إخناتون، وذلك من خلال ما يُثيرُه من مشاعر دينيّةٍ من ناحيةٍ، ومن الرأس الأسطوانيّة كأنها رأسُ نفرتيتي من ناحيةٍ أخرى، ومن الضعف الذي يكتنف الظاهر من الجسد البشري من ناحيةٍ ثالثة.
* كوميديا عُمَر جَبر:
في هذه الفانتازيا بالزيت على القماش، تقف ثمرتا الباذنجان وسط اللوحة في وضعيتين متقابلَتين، فتقعُّر كل ثمرةٍ مقابلٌ بدرجةٍ ما لتحدُّب الأخرى، كأنهما معًا تجسيدٌ لمفهوم (يِن- يانج) المركزيّ في الفكر الصيني القديم، بكل ما يعنيه من تكامُل الأضداد وارتباط المتناقضات، وهما في اللوحة تقومان بدورٍ قريبٍ من كيس الملاكمة الثقيل الذي يتدرب عليه الملاكمون، حيث يرتمي عليهما بعض مصارعي السومو اليابانيّ، وبعضهم يختبئ وراء إحداهما أو يبدو أنه يصارعها! ولعلّ الفنّان قد انتبه في لحظة إشراقٍ قريبةٍ من إشراقات مؤلّفي الكوميديا إلى اكتناز ثمرة الباذنجان بمادّتها، كأنها جسَدُ مصارع السومو المكتنز!
* أحمد البدوي – دفءٌ وميلادٌ جديد:
في لوحة ثلاثية Triptych يحتفي فنانُنا بالمرأة البسيطة جالسةً في وضعياتٍ ثلاثٍ، تربطُ غطاء رأسها في اللوحتين الطرفيتين، وتجلس في سكونٍ في الوسطى، وفي سقف اللوحات الثلاث تمتدّ حبال الغسيل وعليها المشابك، كأنها فرغَت لتوِّها من لَمّ الغسيل المنشور وخضعَت مِن ثَمَّ لريشة الفنان.
والمهمّ أننا نشهدُ جماليّات الثَّوب الفضفاض الذي لم يستطع إخفاء الحياة الشابّة التي تَموجُ في جسد المرأة، تنطقُ بها سلامة جذعِها وجلستُها الرشيقة وهي تعدّل هندامَ رأسها، وهي رغم ذلك تبدو مستسلمةً تمامًا في اللوحة الوسطى حين يستقرّ غطاءُ الرأس في ربطته، كأنّ عنفوانَ شبابها مرتبطٌ في ظهوره بسعيها إلى تمام الحشمة، فإذا بلغَت الحشمةَ تَبدو كسطح بحيرةٍ ساكنة!
ولعلّ درجة اللون النبيذي الساخن التي تميّز غطاء رأسها مِن بشرتها السمراء ولون جلبابها القريب من الفيروزيّ البارد، لعلّ هذا التميُّز الساخن لغطاء الرأس يقوّي شعورَنا بارتباط فورة الحياة عند بطلة اللوحة بغطاء رأسها/ حشمتها.
في لوحةٍ ثانيةٍ يقدم لنا (البدوي) بابًا على النُّور، حيث تفتح امرأةٌ شابّةٌ -تعتمرُ هي الأخرى غطاءَ رأسٍ بسيطا– باب شقّتها الخشبي الذي يحمي الحديدُ المشغولُ نافذتَه الزجاجية على الطراز المنتشر في العمارات الشعبية المصرية، وهي تسند يديها على ضلفتي الباب في لُطفٍ مُوحٍ بأنه ربما لا يجوز الدخولُ لأنّ رجالَ البيت بالخارج.
لكنّ بطل اللوحة الأثيريّ هو ذلك النُّور الغامر المنبعث من داخل الشّقّة بدرجةٍ من اللون الأصفر، قريبةٍ جدًّا من لون المُغات الذي يرتبط في العُرف المصري بالاحتفال بمولودٍ جديد.
تلك المرأة الشابّة تَعِدُ الواقفَ على بابِها بدفءٍ أُسريٍّ لا مثيلَ له، وميلادٍ جديدٍ ضاربٍ بجذورِه في المصريّة. في تقديري أنّ هذه اللوحةَ هي لوحةُ المعرضِ بلا منازع، رغم احتشاد قاعة أوبُنتو بالأعمال الرائعة، حيث يبلغ خطابُ الوجدان أفصحَ مستوياته هنا عبرَ دِقّة الشكل وعبقرية اختيار اللون وتوزيع الظلّ والنُّور.