لم نكن ننتظر موقفاً حاسماً أو قراراً شجاعاً، مما تسمى جامعة الدول العربية، تجاه الإمارات وتطبيعها مع الكيان الصهيوني، فالموتى لا يتكلمون، وجامعة الدول العربية في عتداد الأموات، ولقد شيعت جنازتها منذ سنوات خلت، ودُفنت اليوم بعد رفضها المشروع
الفلسطيني، بإدانة قرار
التطبيع الإماراتي مع الاحتلال الصهيوني، رغم أنه يمثل خروجاً على قرارات القمم العربية والإسلامية ومبادرة السلام التي تبنتها منذ قمة بيروت عام 2002.
ولقد نعت نفسها ببيان مدلس، أرادت من خلاله أن تحفظ ماء وجهها عند تكفينها، تزعم فيه تمسكها بمبادرة السلام العربية، والتي تربط التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني بالإنهاء الكامل للاحتلال الصهيوني، والالتزام بحل الدولتين، ومبدأ الأرض مقابل السلام، ولم تشر من قريب ولا من بعيد إلى مَن طبّع قبل إنهاء الاحتلال..
منتهى الهراء الذي لا ينطلي على طفل ساذج، وكأنها تستخف بالشعوب العربية التي ترفض التطبيع، وتريد أن ترضيها بكلمتين في هذا البيان المراوغ (المايع)، وكأن الخيانة باتت مُشرَعة لدى
الجامعة العربية، مما يفتح الباب لآخرين لدخوله، وهو ما شجع البحرين وهي آمنة بغطاء الجامعة، أن تحذوا حذو الإمارات، وتعلن تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وإرساء علاقات دبلوماسية كاملة وفتح سفارات، بعد أقل من 48 ساعة من صدور هذا البيان الهزيل، وبمجرد مكالمة تلفونية من "ترامب"!!
من البلاهة بمكان، أن نتوقع من جامعة العار أن تدين دولة الإمارات، فكيف تدينها، وهي وأختها الكبرى (السعودية) مَن تقودانها، وهما على الدرب تسيران، وفي العشق الصهيوني غارقتان، وإن تمنعت الكبرى؛ دلالاً وفضلت الآن أن تستمر في المغازلة مع العشيق الصهيوني من وراء الأشجار؛ لتداري سوأتها، إلا أنها في القريب العاجل ستخضع لرغبة العشيق وتعلن العلاقة على الملأ. ولقد قدمت له قربان المحبة؛ ابنتها الصغرى (البحرين) كي تنوب عنها ولتعبر لها عن مدى الحب والعشق الصهيوني لديها، والذي من أجله تبيع فلسطين وأم فلسطين، بل تبيع الأمة جلها وإرثها الإسلامي؛ من أجل عيونه والرضا عنها!!
لقد صدق رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني "بنيامين نتنياهو" حينما قال: "إن
إسرائيل تعيش أفضل أيامها مع الحكومات العربية، التي لم تعد ترانا عدواً، بل صديقاً وحليفاً في مواجهة الإرهاب الإسلامي، وإن مشكلتنا فقط مع الشعوب العربية".
لقد أعطتهم الأنظمة العربية المتصهينة أكثر مما كانوا يحلمون به، ولكن الحمد لله لا تزال الشعوب العربية الحرة تقف حائط صد ضد الاستمتاع بحلمهم الحرام، بل سيتحول حلمهم لكابوس يطاردهم في منامهم وصحواهم. فلا يزال في الأمة قلب ينبض ورجال أشداء، عاهدوا الله ورسوله أن يقاوموا هذا المحتل الغاصب ويحرروا فلسطين.
هؤلاء هم مَن يخشاهم الاحتلال الصهيوني، ليس في غزة والقدس فحسب؛ بل في كل البلاد العربية، لذلك حارب ثورات الربيع العربي، التي كانت ستُخرج هؤلاء الرجال الأبطال، واتخذ من دولة الإمارات مركزاً له ليدير منها الثورة المضادة، بتمويل من العاشقين المهرولين (السعودية والإمارات). وها هي الأحداث تبين صدق رؤيتنا، ولكم أن تقارنوا بين هذين المشهدين اللذين يتحدثان عن نفسيهما، لتعرفوا كيف حولت الثورة المضادة الربيع العربي إلى ربيع صهيوني!
حينما قامت ثورة 25 يناير، وأصبحت السيادة في يد الشعب، تم حصار سفارة الكيان الصهيونى بالقاهرة وإنزال علمه، وإجبار السفارة على الإغلاق وإجبار طاقمها على مغادرة البلاد. كان تسلق أحد شباب الثورة إلى الطابق التاسع عشر من البرج المطل على نيل القاهرة أمام كوبري الجامعة، حيث مقر السفارة، وإنزاله العلم الإسرائيلي وسط تهليل وتصفيق الجماهير التي احتشدت في المكان فرحا؛ حدثاً أذهل العالم وأقلق الكيان الصهيوني. ولقد تم تكريم هذا الشاب ومنحه محافظ مدينته شقة ليتزوج فيها، بينما في العام الماضي قُبض على شاب رفع علم فلسطين في أستاد القاهرة أثناء مباراة منتخب مصر وجنوب أفريقيا، وتم حبسه!
بعد خمس سنوات من وأد الثورة في مصر، احتفل الكيان الصهيوني بما تسميه عيد استقلالها، الذي هو ذكرى احتلالها فلسطين، في فندق يبعد أمتاراً قليلة عن جامعة الدول العربية، ويطل مباشرة على ميدان التحرير، رمز ثورة يناير. وحضرته للأسف الشديد، شخصيات سياسية ودبلوماسية وثقافية وإعلامية ورجال أعمال!!
لا شك في أن هناك تغيرات كبيرة حدثت في السنوات الأخيرة، بعد إجهاض ثورات الربيع العربي، وبروز المحور العربي الصهيوني بغطاء أمريكي، والذي تمثله السعودية والإمارات ومَن يسير في ركابهما، وأصبح هذا المحور هو مَن يضع الديناميات السياسية العربية الحالية، في غياب محور حقيقي مضاد له؛ يتمسك بالثوابت العربية، أو حتى الحفاظ على الحد الأدنى منها. فباقي الحكومات العربية، التي كانت من المفترض أن تشكل هذا المحور المضاد، مشغولة في صراع دائم مع شعوبها المطالبة بالحرية والديمقراطية، ولذلك لا تندهش كثيراً، عندما تقوم الجامعة العربية بقيادة المحور الإماراتي؛ بتمزيق المبادرة العربية وإعلان التطبيع العام مع المحتل الصهيوني!!..
لا نستبعد حدوث ذلك، فالمحور الغالب، محور الثورات المضادة، والذي يقود عربة الجامعة العربية، لم يعد يرى في الكيان الصهيوني عدواً، كما كان يراه "جمال عبد الناصر" في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، عندما كانت مصر تقود الجامعة العربية، وتصدر عنها اللاءات الثلاثة (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض)..
لقد استطاع المحور الإماراتي أن يغير البوصلة لدى الجامعة العربية، من العدو التاريخي للأمة، والذي أصبح صديقاً وحليفاً، إلى تركيا، فهي العدو الذي تجب محاربته في كل مكان.
ففي ذات الوقت الذي أسقطت فيه الجامعة العربية، المشروع الفلسطيني، قررت تشكيل لجنة فرعية دائمة لرصد العدوان التركي، وكلفتها بتقديم تقرير لها عن ذلك في كل واحد من اجتماعاته اللاحقة، وتبارى وزراء خارجية دول هذا المحور في الهجوم على تركيا، وتضخيم خطرها، على ما يسمى الأمن القومي العربي. ولقد بدأ الوصلة الأولى في مهرجان الفزاعة التركية، الوزير الإماراتي "أنور قرقاش"، فاتهم تركيا بتهديد أمن وسلامة المرور البحري في مياه المتوسط من خلال انتهاكها السافر للقوانين والمواثيق الدولة المعنية ولسيادة الدول، كما اتهمها بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية..
وأكمل الوصلة الوزير المصري "سامح شكرى" قائلاً: "إن التدخلات التركية في كثير من البلدان العربية، تمثل أهم تهديد للأمن القومي العربي، ومصر لن تقف مكتوفة الأيدي في وجه الأطماع التركية التي تتجلى بشكل خاص في شمال العراق وفي سوريا وليبيا"..
وهذا يؤكد ما قلناه في مقالات سابقة، بأن التطبيع الإماراتي الصهيوني ما هو إلا تحالف استراتيجي، ونواة لتحالف أكبر يضم العديد من الدول العربية، لتكوين حلف "ناتو عربي صهيوني" بغطاء أمريكي أوروبي، موجها ضد تركيا..
إذن، لقد أعلنوا الحرب على تركيا، التي وجدت نفسها بخصومة غير اختيارية مع كل هؤلاء، وكل ذنبها أنها دولة مستقلة، ذات سيادة وتملك قرارها، وليست كباقي الدولة العربية تدور في فلك الغرب وتُملى عليها قراراتها. ولديها (تركيا) جيش قوى يتمتع بالاكتفاء الذاتي في صنع سلاحه، واستطاعت أن تبني اقتصاداً قوياً، اعتمد على نفسه بالتقنيات الحديثة لاكتشاف الغاز في البحر الأسود، وليس كالدول العربية التي تعتمد على الشركات الأمريكية والبريطانية والكندية والإيطالية، ولا تحصل إلا على الفتات من عائدات حقول غاز بلادهم..
ولكن يبقى أكبر ذنب لتركيا وارتكبه "أردوغان" شخصياً، أن الشعوب العربية تتطلع إلى تركيا كأمل يعيد أمجاد الأمة الإسلامية، وكنموذج يحتذى به لنظام الحكم في بلادهم، ويحبون "أردوغان" حباً جماً بقدر كراهيتهم لحكامهم، وينظرون إليه كزعيم قوي، أعاد لهذه الأمة بعضاً من كرامتها المهدرة، وهذا ذنب لا يغتفر!! وعبّر عن ذلك سفير الإمارات في الولايات المتحدة، "يوسف العتيبة"، في مقالته الأخيرة بالعبرية في صحيفة "يديعوت أحرنوت"، بحديثه عن ضرورة الوقوف ضد ما سماه "التوسع الإسلامي"، وكأن الدول العربية في هذا المحور الخائن للأمة ليست دولاً إسلامية، وأن شعوبها لم تعتنق دين الإسلام منذ 1400 سنة، شكل خلالها مكونها الثقافي والحضاري، وكأن الكيان الصهيوني أصبح أقرب إليهم من الدول الإسلامية وعلى رأسها تركيا!!..
وللمقال تتمة، نستكملها بعون الله الأسبوع القادم.
twitter.com/amiraaboelfetou