هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أكثر من 400 مليون وثيقة و100 مليون ورقة إدارية، أرقام تخمينية لحجم أرشيف ضخم، وعمليات فرز وتصنيف فريدة لم تنته بعد، كانت ولا تزال شاهد عيان على عظم دولة عاشت ستة قرون متتابعة.
في زيارة "عربي21"، للأرشيف العثماني، محاولة لنقل بعض الانطباعات عن تاريخ إمبراطورية أو كما يحلو ويفضل أن يسميها العاملون في الأرشيف بـ"السلطنة" نسبة للسلاطين العثمانيين الذين أسسوا وتوسعوا وعمروا البلاد الشاسعة من العرب والأعاجم تحت مظلة "الخلافة العثمانية".
في تجوالك تبهرك العديد من الوثائق والأوراق المتعلقة بقصر الخلافة ومنشآته الإدارية "الباب العالي"، والتي لم تحفظ جميعها في الأرشيف، نظرا لتعرضها للضياع والإهمال في الأحداث المتسارعة التي أعقبت مرحلة الانتقال من عهد الخلاقة إلى كينونة الدولة، ما جعلها تتفرق بين 45 دولة في البقعة الجفرافية الكبيرة التي كانت تضم "بلدان الخلافة العثمانية".
في زيارتنا تعرفنا على رحلة تطور الأرشيف منذ أن كان نواة دائرة صغيرة داخل الخلافة العثمانية قبل إسقاطها، حيث بدأت الفكرة بإنشاء "دفتر الخانة أو مخزن الدفاتر"، كما اصطلح عليه حينها مع ولادة الدولة، ليكبر بعدها حتى أصبح مركزا ضخما سمي بالأرشيف، لحفظ الوثائق والأوراق المتعلقة بالدولة، على يد السلطان عبدالمجيد الأول في القرن الـ19 للميلاد.
توسع الدولة وتعدد الوزارات والمؤسسات ودوائر الخدمة والرعاية الرسمية ومتفرعاتها، كانت سببا رئيسا في تخصيص مبنى للأرشيف، وإنشاء دائرة منفصلة عن الدوائر الأخرى، إذ لم يعد مخزن الدفاتر الصغير ذاك يفي بالغرض.
في خضم جولتنا في جنبات الأرشيف الغارق بالتاريخ والتوثيق صادفنا "شيخ المرشدين" هناك، مصطفى دورموش.. رجل لطيف يستقبلك بترحاب كبير باللغة العربية التي يجيدها جيدا، يأخذك في جولة تعريفية دقيقة الوصف، كيف وهو الحافظ والعارف لكل جزئية وورقة داخل مبنى الأرشيف، كأنه "أرشيف يدب على الأرض".
يتكون مبنى الأرشيف من ثلاثة مبان متجاورة، وهي: مبنى المتحف، ومبنى صالات البحث ومخازن الأرشفة، ومبنى الإدارة وما يلحق بها.
تبهرك الوثائق وأهميتها وظروف توثيقها وقصتها، محفوظة بشكل جميل يحوي العديد من أشكال الخطوط والأختام التي تكشف حوادث ومناسبات بل وأسرارا وحكايات وقعت قبل قرون.
اقرأ أيضا: "عربي21" تتجول داخل أيا صوفيا بعد شهرين من إعادته مسجدا
من بين ما يلفتك بدهشة، وثيقة ممهورة لوجهاء الحجاز تحمل توقيعاتهم يعود تاريخها إلى عام 1883م، يعربون خلالها للباب العالي العثماني عن رضاهم وامتنانهم لإدارة الوالي صفوت باشا، ويطلبون من السلطان استمرار ولايته في الحجاز.
تجذبك وثيقة أخرى تبرز حجم العلاقات الدولية في أعالي البحار للدولة العثمانية ودورها، كانت عبارة عن رسالة من إمبراطور اليابان في نهاية القرن الـ19، يتقدم فيها بالشكر للسلطان عبدالحميد الثاني على ما قدمه من مساعدة لابن الإمبراطور أثناء وجوده في إسطنبول.
حضرتنا أثناء التجوال العديد من التساؤلات، كان أولها صحة معلومات وجود أوراق ووثائق تعود لعهد السلطنة خارج مبنى الأرشيف.. رد علينا "دورموش"، بتأكيد المعلومة، معتبرا أنه من الطبيعي احتفاظ مؤسسات ووزارات تركية معنية بها.
وعلمنا فيما بعد أن بقاء الوثائق والأوراق في تلك المؤسسات والوزارات يتعلق بطبيعة عملها، ولا نية للأرشيف لاستعادتها، طالما يجري الاحتفاظ بها وفقا للأصول.
ولفت إلى سعي إدارة الأرشيف لاستعادة عدد من الوثائق النفيسة من تلك الموجودة لدى العوائل والشخصيات المقربة من السلطان وعائلته وحاشيته والقصر.
ويلاحظ الزائر أن "فرمانات الخلافة"، كانت ملتزمة بطابع خاص في ذلك الزمان، متمثل بخط ممدود على طول الصحيفة التي كتب عليها الأمر، إضافة لرسم مميز مائل للنص يعتليها.
ويوثق "الفرمان" أو المراسلة، في خانة الدفاتر بالرقم والجهة والصفة الموجهة إليه، في نسخة تطابق الأصل، للتوثيق في الأرشيف، ومن ثم تذهب الوثيقة إلى الجهة التي أرسلت إليها، ولا يعمد إلى هذه الطريقة في جميع معاملات الدولة، لقلة الأوراق وعدم توافرها في تلك الحقبة.
توقفنا بدهشة لرؤية صناديق الحفظ والتخزين للوثائق والأوراق، شدتنا الأرقام الهندية عليها فتساءلنا عن السبب، فقيل لنا إن "تداخل الدولة العثمانية مع الكثير من الحضارات والدول أدى إلى دخول العديد من الكلمات والأحرف والأرقام على لغتها بعد تطويرها".
وخلال تفحصنا للرقع والصحائف فقد لفت انتباهنا أن اللغة العثمانية المستخدمة في الكتابة، اختلطت بالكثير من اللغات الأخرى نظرا لسعة جغرافيتها، لكن اللافت كان سطوة وحضور اللغة العربية التي كانت أكبرها.
بين أقسامه العديدة استوقفتنا صورة فوتوغرافية وحيدة فيه، فبحثنا عن حكايتها، فإذا هي الصورة الأولى للأرشيف التقطت في ذكرى خاصة به، وهي خروج الدولة العثمانية من بلغاريا، حينها جمع موظفوا الأرشيف وثائق الخلافة هناك.
وحول تقصينا عن تسليم تركيا لحزمة من الوثائق والأوراق المتعلقة بفلسطين والقدس للسلطة الفلسطينية، علق دورموش بأن ذلك تم بالفعل و"التسليم الكبير كان من مركز أنقرة في زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات، والتسليم الأخير يعد رمزيا، ويعبر عن رغبة تركية للوقوف بوجه الهجمة الإسرائيلية على ممتلكات الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية المحتلتين".
باحثون أتراك مقيمون في الأرشيف أوضحوا بدورهم أن الوثائق المعنية بفلسطين تكمن أهميتها في التحليل والاستفادة منها كتوثيق رسمي بوجه الادعاءات الإسرائيلية في المحاكم لإثبات حقوق الفلسطينيين في أن كثير مما سلب منهم لا يزال.
كان لافتا استغراب أولئك الباحثين خلال نقاشنا عن سبب الإهمال الفلسطيني الرسمي لتلك الوثائق، إذ أشاروا إلى أن الأرشيف أصدر كتابين كاملين يجمعان كل الوثائق والأوراق المتعلقة بفلسطين منذ مدة طويلة باللغة التركية للحفاظ على الإرث العثماني في الدفاع عن القضية، لكنها لم تلق اهتماما لتحريكها بعد.
من بين الوثائق التي تشدك في ملف أرشيف فلسطين، العرض الخاص لوثيقة رد السلطان عبدالحميد الثاني على رسالة ثيودور هرتزل، والتي تعد إحدى وثائق الأرشيف الرئيسية التي يتعين على الزائرين التوقف عندها، وكيف حوت رفض السلطان عبد الحميد منح أو بيع "اليهود" أي جزء من أرض فلسطين، رغم عظيم الإغراءات التي قدمت حينها.
ويعتقد القائمون على الأرشيف أن السجلات البريطانية تحتوي كذلك على الكثير من الوثائق الأكثر أهمية في الصراع القانوني بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بسبب الانتداب البريطاني.
في ختام جولتنا التي كانت لتحتاج لوقت أطول للوقوف على الكثير الكثير من الوثائق وموضوعاتها وحكايات الزمان والمكان فيها، كان لافتا حجم الاهتمام البالغ في كافة تفصيل المكان، ومن ضمنها نظام "عاقل" المسؤول عن ضبط الحرارة في الغرف والمستودعات التي تحفظ وتخزن فيها الوثائق والأوراق، منعا لأي تلف.
كانت مثيرة لنا معلومة أن مبنى الأرشيف مصمم لمقاومة عوامل الطبيعة كالزلازل وتقلبات الطقس، إلى جانب إجراءات الأمان من السرقة، حيث تعرض بعض الوثائق على شكل نسخ فقط، نظرا لصعوبة عرض الأصلية المحفوظة في مكان ما ضمن أسرار الدولة المخفية.
ولعل أكثر ما شدنا أيضا في كل قسم، تغير لون السجاد بينها، حيث علل لنا "شيخ المرشدين"، ذلك بأن كل لون يمثل وزارة أو هيئة أو حقبة زمنية معينة شهدها ذاك العصر.