هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لقد تحولت ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس نهاية العام 2010، إلى علامة فارقة في التاريخ السياسي العربي الحديث والمعاصر، ليس فقط لأنها نفضت الغبار عن قرون طويلة من الاستبداد السياسي والفكري لجهة إعادة ملف الحكم وأدواته إلى الواجهة، وإنما لأنها أحدثت تحولا جذريا مس مختلف جوانب حياة المجتمعات العربية بمستوياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولقد مثل صعود الإسلاميين إلى الحكم بعد عقود طويلة من العمل السري والمعارضة وما تقتضيه من مكابدة ومعاناة، واحدا من أهم علامات هذا التحول، وإن كان هذا الصعود قد صاحبه أيضا معارضة شديدة ما زالت فصولها جارية إلى اليوم في شكل صراعات دموية في أكثر من مكان..
وعلى خلاف ما اعتقده كثير من المتابعين لشؤون التحول السياسي في منطقتنا، من أن مرحلة الربيع السياسي ربما تكون مدخلا لإنهاء كثير من مظاهر العنف والإرهاب التي حصلت في عهود الاستبداد السياسي، فإن عمليات العنف استمرت سواء في شكل عنف تقوم به مؤسسات الدولة تجاه مواطنين عزل يتظاهرون فقط من أجل الحرية والكرامة، أو في شكل عمليات إرهابية بغايات سياسية.
"عربي21"، تنشر في هذا السياق مناظرة فكرية بين خبيرين مغاربيين بشؤون الحركات الإسلامية والتحولات الفكرية، في قراءة جذور الظاهرة الإرهابية وتحولاتها، بالإضافة إلى أهدافها وسبل مواجهتها. الأولى للكاتب والباحث التونسي توفيق المديني والثانية للكاتب والباحث المغربي بلال التليدي.
البيئة التكفيرية
من المعروف تاريخيًا، أنَّ القيم الاجتماعية السائدة في المدن التونسية تتسم بالتسامح، وعدم اللجوء إلى العنف، بينما أحزمة المدن التونسية التي تحتوي السكان الذين تم اقتلاعهم من بيئتهم الأصلية في الأرياف، وعجزوا عن الاندماج في العالم المديني، وفي تبني قيم الحداثة بكل منطوياتها، تهيمن فيها أيديولوجية العنف التكفيرية كنتيجة منطقية لتنامي الشعور بالغبن الاجتماعي، والحقد الطبقي، والتهميش الاجتماعي المستديم، من قبل سكان أحزمة الفقر والبؤس هذه، الذين انضووا خلف الأيديولوجيا التكفيرية، يدفعهم إليها غضبٌ عارمٌ من جرّاء حربهم على المجتمع التونسي نفسه، وغياب أدنى شعور بالانتماء إلى الدولة التونسية.
في هذا السياق من التشخيص للدوافع الحقيقية الكامنة وراء ظهور الأيديولوجيا التكفيرية، تقدم لنا الباحثة المغربية في معهد الدروس السياسية في باريس، سلمى بلعالا، تحليلاً مُعَمّقا حول ولادة العنف التكفيري المفرط في أحزمة المدن الفقيرة المغربية، الذي يشابه إلى حد كبير العنف الأصولي التونسي. فمن وجهة نظر الباحثة المغربية، العنف التكفيري ينبت من هذه القطيعة بين سكان مفككي الأوصال الاجتماعية في ضواحي المدن وباقي المجتمع.
تشكل الميليشيا التكفيرية عصبة مغلقة من شروط الالتزام السياسي للناشطين والأتباع فيها والقطيعة بلا رجعة مع العائلة والإدارة والمجتمع. فينتقل التكفيريون عندها إلى العنف من أجل "طرد الشرِّ" و"إعلاء الخير" داخل الغيتو.
وقد انقطع الرابط الاجتماعي بين المهمشين في النهاية بسبب غياب المرجعيات الاجتماعية والثقافية مع الوضع السري اللاشرعي لعدد كبير من ساكني أحياء الصفيح الأصولية. فالغضب الكبير من العالم وجد في التكفير إطاراً إيديولوجياً مناسباً له لينتظم فيه خلال أقل من عقد واحد من الزمن شباب هذه الأحياء فيخرجهم من عزلتهم ليحولهم صوب العنف السياسي الموجه ضد بلد بأكمله بمن فيه عائلاتهم نفسها... ويؤكد انتشار الأزياء السلفية الخاصة بالرجال والنساء أن السلفية التكفيرية في هذه الضواحي ليست حكراً على عددٍ ضئيلٍ من الناشطين بل لها بعد جماهيري. فنمط حياتهم وأماكن العبادة غير الرسمية التي يرتادونها تعكس حالة التفكك الثقافي لهذه الأحياء، وتوضح التناقض العميق بين أحياء الضواحي وهذه المؤسسات التقليدية كالمساجد والمدارس القرآنية والجمعيات التقليدية.
وتشكل الميليشيا التكفيرية عصبة مغلقة من شروط الالتزام السياسي للناشطين والأتباع فيها والقطيعة بلا رجعة مع العائلة والإدارة والمجتمع. فينتقل التكفيريون عندها إلى العنف من أجل "طرد الشرِّ" و"إعلاء الخير" داخل الغيتو. من خلال استبدالهم التبشير و"الكلمة الصالحة" بالتوجيه العنفي ـ "جدلية القبضا" كما كان يقول الفاشيون في ما مضى ـ فإنَّهم يُقدِمون على قطيعة عميقة مع المحاولات السياسية لاجتذاب المريدين بالنزوع إلى أعمال التطهيرلا سيما أنهم يعتبرون السكان ضائعين أبداً في "ظلمة هذا العالم".
تأهيل الفكر التكفيري وكذلك الإرهابيين
إنّ دعوة قوى الإسلام السياسي إلى سَنِّ قانون "التوبة" استئناسًا بالتجربة الجزائرية التي تبنت ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لإنهاء حقبة العشرية السوداء في عقد التسعينيات من القرن العشرين، والتي راح ضحيتها نحو 200 ألف شخص، تبدو مخطئة، لأنَّ المقارنة لا تَصُّحُ بين البلدين، كما أنَّ هذه المصالحة الجزائرية المعروفة بـ "قانون الوئام المدني" لم تمنع البعض منهم اليوم للعودة للجبال والتعرض للقوات الجزائرية من أجل إقامة "ولاية الجزائر" الداعشية .
ويرى الملمون بطبيعة حركات الإسلام السياسي في تونس، الداعية والمدافعة عن هذه "التوبة"، بوصفها الحل الأمثل لاستيعاب معضلة هؤلاء الإرهابيين التكفيريين الذين عادوا من بؤر التوتر مثل سوريا وليبيا، أنَّها سشكل ظهيرًا خفيًّا من أخطر ما يكون داخل البلاد، لا سيما تأثيرها الملحمي غير المباشر على أولئك "الإرهابيين النائمين" بين ظهراني الشعب، والذين هم يمارسون التقية في انتظار دق ساعة الصفر...إنَّ"التوبة في هذه الحالة ليست إلا طقسًا للعبور.. عبور الذئب والراعي في سُبات إلى كنف الزّريبة، ودونك فإنَّ " التوبة " هي رمي الإرهاب.
يختلف الفكر التكفيري السائد في أوساط العائدين كثيراً عن الفكر الجهادي التقليدي، الذي اعتنقه العائدون في الماضي، والذي كان يتمتع ببعض المساحات الفكرية التي تسمح بالحوار، مثل وجود العذر بالجهل، ولو بصورة نسبية، وعدم تكفير العوام على الإطلاق، فضلاً عن عدم إباحة دماء المخالفين بصورة مطلقة. أما الفكر الحالي، الذي يعتنقه معظم العائدين، فيبلغ من التشدد والجمود ما يقلل كثيراً من فرص ترشيده، أو ترويضه. ومن أهم سمات هذا الفكر التكفيري ما يأتي:
التحجر الفكري
وهو يختلف عن التشدد الفكري الذي يعني وجود احتمالية للمرونة، ولو بقدر ضئيل، مما قد يمثل قاعدة أو أرضية للالتقاء أو الحوار. بينما يرى الفكر التكفيري المتحجر أنه الوحيد الذي يمثل الإسلام، وأن معتنقيه فقط هم المسلمون، ومن سواهم كفار. ويفسر هذا تكفير تنظيم الدولة للجميع، حتى التيارات الإسلامية الجهادية. وهو ما جعل هذا الفكر محل انتقاد حتى من أصحاب الفكر القاعدي المتطرف، فوصفوه بالتشدد والغلو. فمثلاً، وصف أبو قتادة أتباع هذا الفكر بأنهم "كلاب أهل النار"، الذين يعدون كل من لا ينتمي إليهم أعداء للإسلام والمسلمين، سواء كانوا حكاماً أو محكومين. وبالتالي، فأي محاولة للحوار، أو المراجعة، أو تصحيح الأفكار من قبل الحكومات، أو أي جهة من خارج تلك التنظيمات نفسها، سينظر لها على أنها محاولة من الكفار لإثنائهم عن عقيدتهم.
التقية العقائدية
يؤمن أتباع الفكر التكفيري بأن كل من حولهم كفار، لكن يجوز التعامل معهم بالتقية، إذا كانوا أقوى منهم، مثل التعامل مع الحكومات والمؤسسات الأمنية، بإظهار التخلي عن المعتقد، أو كما يطلقون عليه "كتم الإيمان"، والتظاهر بقبول أي مراجعات فكرية، أو برامج تأهيلية، وذلك من أجل الحفاظ على النفس من السجن، أو الهلاك، وذلك من باب الضرورة، ثم العودة إلى الفكر التكفيري، والإفصاح عنه بمجرد زوال تلك الضرورة. وهذا ما يفسر فشل العديد من محاولات الترشيد الفكري التي ثبت أنها، في الأغلب، لا تكون مجدية، في ظل تلك التقية العقائدية.
حتمية المواجهة
وهي من الاعتقادات الراسخة لدى أصحاب الفكر التكفيري، وتنطلق من وجوب وضرورة حدوث مواجهة مع الطرف الآخر الكافر، سواء الأنظمة الحاكمة في بلدانها، أو المواجهة مع العالم الغربي، أو المجتمعات الكافرة، نظراً لأنهم يعتقدون بأنهم أصحاب قضية عادلة. وعدالة القضية تقتضي المواجهة مع الآخر، لأنه ليس هناك أي بديل شرعي آخر يحقق الأهداف، مثل جهاد الدفع وجهاد الطلب، سوى تلك المواجهة. ومن هنا جاءت فكرة "حتمية المواجهة" التي لا يمكن أن تسقط شرعاً، ولا بد أن تتحقق واقعاً، ولا اختيار فيها، ولا بديل عنها، ولا بد أن تقع بعينها، وأنها لازمة في كل واقع، ولا تخضع للسياسة الشرعية. وهذا ما يجعل أصحاب هذا الفكر يرون أنه لا يمكنهم التعايش مع الآخر، أو التصالح معه.
غاية القتل
أصبح القتل عند أصحاب الفكر التكفيري، غاية وليس وسيلة، حتى إن إقامة الدول عندهم لا تتحقق إلا بالقتل. فداعش أعلن صراحة أن دولته باقية، لأنها بنيت بالدماء والأشلاء. لذا فقتال الكفار (الآخرين) هو أيضاً غاية يجب إدراكها طوال الوقت، لأنها قربى إلى الله، حتى إذا جلب هذا القتل أعظم المفاسد، وسبب أكبر الأضرار، لأنه صار فرضاً عليهم، من باب أن القتال الدائم هو تحقيق لفريضة الجهاد. لذلك، يسرف معتنقو هذه الأفكار في قتل مخالفيهم، واستخدام الوسائل البشعة، مثل الذبح، وفصل الرقاب، والحرق. ولا يقتصر هذا على فئات بعينها، أو من يقاتلونهم فقط، بل يسري على الجميع، حتى المدنيين، وكل من كان في استهدافه مصلحة للإسلام.
الاستحلال
يعد من أسوأ النتائج التي ترتبت على الفكر التكفيري، إذ يصبح "الكافر" مستباح الدم، والمال، والعرض. و الأخطر أن الاستحلال يصل عند أصحاب هذا الفكر إلى مرحلة الوجوب، لأنه يؤدي إلى إضعاف الكفار. فأخذ الأموال يضعف قدرتهم على القتال، والإسراف في القتل يضعف قوتهم، والاعتداء على النساء يدمر معنوياتهم، استناداً في ذلك إلى حديث "وجعل رزقي تحت ظل رمحي"، حيث يجب قتل من يمتنعون عن قبول الدعوة، واستباحة أموالهم، ودمائهم، ونسائهم، وذراريهم، فيكون ذلك هو الرزق الذي أفاءه الله على المؤمنين من أعدائهم.
أخيرًا، يجب اعتبار هؤلاء الإرهابيين العائدين إلى تونس، أنهم مجرمون ارتكبوا جرائم ضد شعوب عربية شقيقة، وهو ما يتطلب أولاً وأساسًا تنظيم محاكمتهم كمجرمي حرب، وتطبيق قانون مكافحة الإرهاب ضدهم.
وكما يقول الأستاذ الجامعي علية علاني الباحث المتخصص في الحركات الجهادية ،بعد المحاكمة تبدأ عملية التأهيل وتتضمن بعض المراحل:
فأولاً ـ من الأفضل وضع هؤلاء العائدين المحكوم عليهم في مركز اعتقال خاص وليس في السجون العادية.
وثانيًا ـ يجب تصنيف هؤلاء المحكوم عليهم إلى ثلاثة أصناف صنف خطير جدًا وصنف متوسط الخطورة وصنف محدود الخطورة ويخضع كل صنف إلى برنامج تأهيل خاص.
ثالثًا ـ "بداية عملية التأهيل" ونقصد بذلك المراجعة الفكرية للأفكار والمبادئ التي يحملها هؤلاء الإرهابيون والتي بسببها تمت محاكمتهم والتي بسببها أيضا أصبحت عقولهم تخضع لغسيل دماغ يمكن أن يشكل خطورة في المستقبل إذا لم تتم معالجته من جذوره.
وتتضمن هذه المبادئ التي يؤمن بها الإرهابيون مسائل مثل مفهومهم الخاطئ للجهاد والتكفير والخلافة والولاء والبراء وأخيرا طبيعة علاقة الدين بالسياسة. ويمكن أن تستمر المراجعات أشهرا أو سنوات. ويقوم بهذه المراجعات مختصون في العلوم الدينية من اصحاب الكفاءة الحقيقية أي أنهم ليسوا من التيارات الدينية "المؤدلجة" مثل الاسلام السياسي والاسلام السلفي. كما يشارك في هذه المراجعات مختصون في العلوم الاجتماعية والانسانية ومختصون في علوم الإجرام.
رابعًا ـ بعد انتهاء عملية المراجعة فإن القاضي هو الكفيل وحده باتخاذ قرار الإفراج أوعدم الإفراج عن الأشخاص الذين تم تشريكهم في برنامج التأهيل.
خامسا ـ بإمكان الدولة عبر بعض الأجهزة المستحدثة وبإمكان المجتمع المدني عبر جمعياته المختصة في مثل هذه المسائل أن يساهموا في إقحام هؤلاء المؤهلين الذين قضوا مرحلة من السجن ومن المراجعة أن يتم إدماجهم بعد النجاح في التأهيل حيث تقع مساعدتهم على الاندماج في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بإعانتهم على إقامة مشاريع تمكنهم من كسب قوتهم ومن الابتعاد عن الخلايا التي لا تزال تستقطب للإرهاب الكثير من الشباب التونسي.
إقرأ أيضا: هل يفسر الفقر وتراجع مستوى التعليم استمرار الإرهاب؟ (1/ 2)