هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتراءى للقارئ أن الروائي أيمن العتوم يقدم في روايته الجديدة مرافعة "عُمَرِية" ضد نظام العبودية في أوروبا وأمريكا في القرنين الثامن والتاسع عشر، لكنّ الرواية تتكشف عن موقف رجعي في حيثيات المرافعة، لا يدعو إلى إدانة العبودية من حيث المبدأ، وإنما يدعو إلى تجميلها فحسب.
يبني العتوم روايته الصادرة في الكويت عن دار (الإبداع الفكري للنشر والتوزيع)، على مخطوطة تحكي السيرة الذاتية للسنغالي "عمر بن سيّد"، الذي أسره تجار العبيد الفرنسيون والإنجليز، ونقلوه على ظهر سفينة إلى أمريكا، ليمضي الشطر الأطول من حياته مستعبداً في مزارع القطن والقصب والتبغ في ولايتيْ "كارولاينا الجنوبية" و"كارولاينا الشمالية" الأمريكيتين.
تتتبّع الرواية، في خط زمني مستقيم، حياة بطلها، من الولادة حتى الوفاة (1770- 1863). وعلى الرغم من أن قصة "عمر بن سيّد" مرت بأربع محطات رئيسة، إلا أن الرواية لم تستجب من الناحية البنائية لهذا التقسيم الذي تمليه الضرورة الفنية، خصوصاً في رواية يزيد عدد صفحاتها على الخمسمئة.
اعتمدت الرواية أسلوب التبويب على غرار الكتب التراثية، فانقسمت إلى عنوانات فرعية، عددها سبعين، بعضها اقتباس من القرآن الكريم مثل، (عم يتساءلون، الملك لله، فإذا فرغت فانصب، ألقها في البحر، وبشر الصابرين).
وبعضها أحاديث نبوية أو حكم سائرة مثل، (النظافة من الإيمان، الشجرة التي لا تثمر فالفأس أولى بها، كل منتظَر آت، تفاءلوا بالخير تجدوه).
وبعضها عبارات مفتاحية ترتبط بأحداث الرواية مثل (أجدادك كانوا يلبسون مثلهما، لأجل عينيك الجميلتين سامحتك، نحن مشاؤون يا أخي). والنوع الأخير من العنوانات يصلح لأن يكون عنوانات رئيسة تنقسم الرواية على أساسها إلى محطات كبرى استجابة للتحولات الدرامية في سيرة بطلها.
هذا التكثير في العنوانات الصغيرة، وأغلبها مقتبس، ضيّع القيمة الفنية للعنونة، وجعل الرواية أشبه ما تكون بقطار يمضي في خط مستقيم، في رحلة طولها تسعين سنة، من دون كوابح، وبلا خريطة واضحة المعالم.
وإنْ كانت المخطوطة التي انبنت الرواية عليها تخلو من هذا التقسيم الأساسي، فإنّ الحس الفني يُملي على الروائي أن يجترحه.
تنقسم الرواية إلى أربعة أقسام، يصور الأول طفولة "عمر بن سيد" في القرية، ويصور الثاني شبابه في المدرسة الدينية، ويصور الثالث مرحلة الأسر ورحلة السفينة، ويصور الرابع مرحلة العبودية في أمريكا.
تبرز في القسم الأول علاقة "عمر" بأبيه وأمه وأخته الكبرى، في عائلة غنية من طبقة أشراف السنغال، وتبرز أيضاً مؤثرات البيئة الطبيعية والاجتماعية والدينية والعلمية، في تكوينه النفسي والفكري.
وإذا كان الأبوان يؤديان الدور المنوط بهما في الرعاية والتوجيه والتعليم، فإن الرواية في قسمها الأول تتفرّد في إنشاء علاقة خاصة، شديدة الحساسية والتميز، بين عمر وأخته آمنة.
فالأخت الكبرى تزرع في نفسه حب المغامرة، بتعليمه مسابقة الريح على ظهور الخيل، والسباحة المحفوفة بالخطر في نهر القرية. وفي المقابل ينقل إليها ما تعلمه من أبيه من مهارات القراءة والكتابة بالعربية.
وتبرع الرواية في رسم شخصية الأخت الكبرى، فتاة ذكية، فائقة الجمال، شجاعة، ملهمة لأخيها الأصغر، فتربطه بها علاقة روحية وتكاملية عميقة.
ويفعل هذا الاعتناء الاستثنائي من الرواية بشخصية آمنة فعله في القارئ، حين تلقى مصرعها في النهر، بين فكّي تمساح، وعلى مرأى أخيها.
لتغدو آمنة نموذجاً مشرقاً للمرأة الأفريقية، وتظل جرحاً نازفاً في نفس أخيها لا يفارقه، ولا تمحوه الجراح التي ستصيبه في مراحل حياته اللاحقة.
القسم الثاني من الرواية هو قسم التعليم الديني في مدينة "توبا"، ويمضي فيها عشرين سنة في التلمذة على الطريقة الصوفية التقليدية، فيتعلم الزهد وقمع الرغبات، وينافس زملاءه في العبادات والجوع والأعمال الشاقة في الخدمة والزراعة والبناء.
ويتدرج "عمر" في المراتب حتى يصبح معلّماً في المدينة، التي تعد عاصمة دينية للبلاد "المدينة التائبة، الخارجة من سلطان البشر، المخلصة لله". وهي رديفة للعاصمة السياسية "فوتا تور" التي يحكمها "الأئمّة" في حقبة الاستعمار الأوروبي.
يسهب القسم الثاني في وصف المرحلة الصوفية من حياة "عمر"، ويكرر تفاصيل الحياة اليومية في المدرسة الدينية، ويؤكد أهمية نشر التعليم الديني في حفظ البلاد من خطر المستعمر، وعلى الرغم من أن هذا القسم خلا خلواً تاماً من أي ذكر للتدريب العسكري، إلا أن الرواية تذكر في غير موضع أن المدرسة لعبت دوراً في المقاومة العسكرية للمستعمر "كان الشيخ يبعث على رأس كل سنة مئة من المجاهدين، يناضلون ضد الاستعمار الفرنسي، وضنّ الشيخ بي، وقال وهو يشير إلى صدري: العلم الذي في صدرك أمضى من السلاح الذي في أيديهم".
وتجتهد الرواية في قسميها الثالث والرابع في إثبات مقولة الشيخ حول أفضلية العلم على السلاح في انتزاع الحقوق، وفي مقاومة أشكال الظلم من استعمار واستعباد.
ويتضح للقارئ أن هذه المقولة هي المحور الذي تدور حوله الرواية كلها، بل إن مقولة "الجهاد بالعلم لا بالسيف" ستكون الرسالة الوحيدة المستخلصة من العمل الروائي بكل أحداثه.
وستتحول الرواية في قسميها الأخيرين إلى مرافعة سياسية أخلاقية دينية ضد نظام العبودية الأمريكي، وضد أمريكا نفسها، تأسيساً على هذه المقولة.
وسيتضح للقارئ أن "رسالة العلم" التي يحملها "عمر" إلى العالم الجديد، محددة في إطار العلم الشرعي الإسلامي بوصفه القاعدة الأساس للحياة الفردية والاجتماعية والسياسية السليمة.
ومنها سينطلق "عمر" إلى نقد الأسس الأخلاقية والدينية والقانونية التي بنيت دولة أمريكا على أساسها.
وستتخذ الرواية من نظام العبودية الذي كان سائداً في أمريكا القرنين الثامن والتاسع عشر، مدخلاً لإبراز الوجه التاريخي القبيح لأمريكا، وهو الوجه الذي أقرت أمريكا بقبحه، واعتذرت عنه، وتجاوزته في قوانيها وجرّمته.
اقرأ أيضا : نزار قباني و"عقدة" نجيب محفوظ
إلا أن الرواية تتمسك بهذا الوجه القبيح، لا بوصفه صورة من الماضي ومرحلة في سيرورة تاريخ الشعوب عامة، بل بوصفه هوية أمريكا الحديثة الشيطانية الموصومة بعار العبودية "القوانين التي شارك الشيطان في إيحائها إلى أوليائه من البشر تكبّل أمريكا كلها، إن دولة قامت على الظلم لن تدوم، إن دولة قامت على استعباد البشر هي بناء هش، أساسه الطين، إذا جاءه الماء انهار، إن دولة تلعب بمقدرات الشعوب ومصائرهم وتصنف الناس إلى بشر أو حيوانات بناء على اللون هي دولة فاسدة وأمة موبوءة ولن تعمّر طويلاً"
تتجاهل الرواية حقيقة أن العبودية نظام قديم قدم الحضارات الإنسانية، وساد في الحضارات كلها لأسباب اقتصادية واجتماعية بغض النظر عن عقائدها، وأنه ما زال ممارساً في المجتمعات المغلقة والتقليدية والقبلية، وأن نجاح البشرية في إلغائه في القرن العشرين لم يرتبط بعقائد الأمم، وإنما بتطور التشريعات المتعلقة بحقوق الإنسان.
تضع الرواية الإسلام في مواجهة المسيحية من خلال شخصية "عمر"، وتحوله إلى داعية للإسلام في قلب أمريكا، وتعزو إليه معارف موسوعية تتجاوز إمكانيات الشخصية التي رسمت الرواية حدودها في القسمين الأولين.
وتتكشف شخصيته عن علم غزير، لا في العلوم الشريعة كما تلقاها في المدرسة الدينية فحسب، بل في اللاهوت، والأديان المقارنة، والفنون الرومانية والمسيحية الأوروبية، والآداب الغربية، والتاريخ، والسياسة.
ويمارس "عمر" تأثيره على طبقة العبيد، وطبقة الأسياد، والجهاز القضائي، ورجال الكنيسة. ومن خلاله تعمل الرواية على أسلمة قضية العبودية الأمريكية، وتقدم الإسلام حلاً مثالياً لإنقاذ أمريكا، عبيداً وأسياداً، مجتمعاً ومؤسسات، من عار العبودية.
وتخرج الرواية في أجزاء كثيرة من السردية التاريخية إلى السردية السياسية المعاصرة، من دون أن تقيم اعتباراً لحساسية الأدب في تعاطيه مع التاريخ، وتبعث رسائل مباشرة إلى أمريكا المعاصرة، فحواها أن الإسلام ليس دين الإرهاب، وأن المسلمين والعرب أمة أخلاقية صادقة أمينة، ديدنها العلم والخلق والكلمة الطيبة والعمل الصالح.
ولإثبات ذلك تدين الرواية من خلال شخصية "عمر" ثورات العبيد في أمريكا، بوصفها عنفاً لا يخدم القضية، ولا يحقق الحرية للعبيد.
ويقدم بديلاً هو تحرير العبيد من خلال نشر العلم بينهم "عليك أن تحرر عقل العبد قبل أن تحرر يده"، وإقناع سادتهم بتحريرهم بالموعظة الحسنة والإخلاص في العمل "ولو كان السيد جونسون يعاملنا معاملة حسنة لوجد منا الطاعة، ولعرف أثر هذه المعاملة على الانتاج، ولو وجد العبد من سيده ما يجعله مطمئناً، لعمل العبد بدافع الواجب، ولأنتج ما تَقَرّ به عين سيده"
ميزت الرواية من خلال شخصية "عمر" بين السيد السيّئ والسيد الجيد، والأول هو "جونسون" الذي كان يسوم العبيد سوء العذاب.
أما الثاني فهو السيد "جيم" الذي لا يعذب عبيده ولا يغتصب نساءهم، ويسمح "لعمر" بقراءة الكتب وكتابة المذكرات، وعنه يقول: "رأيت كثيراً من العبيد يبكون رحيله وأنا واحد منهم... فقدت بموته آخر صديق لي، وآخر ركن أسند إليه ظهري، وحزنت عليه كأنه أخي...ودعوت الله أن يتولاه برحمته، وأن يجزيه على إحسانه إليّ وإلى الآخرين"
يمكن لقارئ الرواية أن يغض النظر عن فائض الحشو فيها، وعن غلبة الطرح المباشر عليها، والتكرار في التداعيات الذاتية والتفاصيل، وافتراض سذاجة القارئ في تصديق الكثير من الأحداث. لكن استمراء العبودية رسالة خطيرة لا يمكن غض النظر عنها.
تشريع العبودية وتقنينها هو رسالة الرواية، وليس إلغاؤها. المعاملة الحسنة من السيد مقابل الطاعة من العبد. والانتاج بدافع الواجب، لا بدافع الخوف من قِبَل العبد، مقابل الطمأنة من قبل السيد.
العبودية مقبولة، شريطة أن لا يقتل السيد عبده، ولا يعذبه، ولا يرهقه في العمل، ولا يجوعه، ولا يغتصب نساءه، ولا ينكر نسب من يلدنه له من أبناء.
اطمئنان السيد، وقرور عينه، وإتخام بطنه، ومَلء جيبه، هو واجب العبد مقابل المعاملة الحسنة. هل هذه رسالة أفريقيا للمستعمر صفحاً عن استعباد طويل، أم رسالة الإسلام لأمريكا دعوة للتقبّل، أم رسالة الإسلام للمسلمين طلباً للقبول بتسيّد الغرب؟