تصريحات
ماكرون الأخيرة، عن "الإسلام الذي يعيش أزمة في العالم كلّه"، و"الانعزالية الإسلامية"، لها سياقاتها الفرنسية الخاصّة، التاريخية والراهنة، من نظرة الجمهورية الفرنسية لنفسها، على نحو يجعل من "الثقافة الفرنسية" وعلمانيتها دينا صلبا، لا يقبل التعددية في إطاره، إلى الأزمات الفرنسية الراهنة، الاقتصادية، وتراجع مكانة
فرنسا دوليّا، وتصدّر ألمانيا أوروبيّا، وأخيرا الانتخابات، والتنافس على أصوات
اليمين الفرنسي.
ثمّة هروب إلى الأمام، بتحميل مجتمعات المسلمين والمهاجرين في فرنسا، المسؤولية عن
أزمات فرنسا، وتراجع مكانتها بما يجرح العقل الفرنسي المترع بالتعالي، والمسكون بالتفوق الاستعماري ويمكن، والحال هذه، ربط هذا الخطاب بشكل ما، بتصادم فرنسا مع دولة مسلمة، تمعن في إهانة هذا التعالي، وهي تركيا.
قد لا يكون الاتهام لمجتمعات المسلمين الفرنسيين مباشرا، ولكنّ استدعاء مفهوم الانفصالية والانعزالية، بما يستلزمه من تحريض عنصري، وتقصّد المسلمين الفرنسيين بقانون خاصّ يهدف إلى الحدّ من تمايزهم الثقافي عن "ثقافة = دين" الجمهورية، وفي سياق انتخابي، وجوّ مشحون بالإحساس المتوتّر بالتراجع والأزمات.. هو هروب فعليّ إلى الأمام.
لكنّ القضية في الوقت نفسه، هي قضية حقيقيّة، لا من جهة عجز الدولة الفرنسية عن دمج المهاجرين، ومواطنيها المنحدرين من ثقافات وقوميّات أخرى، فحسب، ولكن أيضا من جهة مفهوم المواطنة الفرنسية الذي يجعل من القومية الفرنسية، وما ينبثق عنها من ثقافة، هو معيار المواطنة والانتماء للجمهورية، بما يستدعي لا دمج المواطنين، بل صهرهم في الثقافة الفرنسية، بما يلغي تمايزهم الثقافي، ولا يتسامح حتّى مع معتقداتهم الدينية التي تسمهم بشيء من الاختلاف، كالحجاب والأكل الحلال.
يتشكل هذا التصوّر من مركّب، يميني مفرط في يمينيته، من جهة مركزية الدولة في صياغة عقائد الناس، والتدخل في خصوصياتهم، وللمفارقة باسم التنوير، وفي جعل القومية المعيار الوحيد للانتماء والهوية الشخصية والجماعية، وفي تفريع مفهوم
العلمانية عن ثقافة هذه الدولة، وطرده إلى أقصاه غلوّا.
وإذا كانت هذه هي السياقات الفرنسية الخاصّة، تاريخية وسياسية، فإنّ الاستغراب يصير وجيها، من خطاب عربيّ وطنيّ شعبويّ، مغرق بدوره في وطنيّة ساذجة، وشعبوية رخيصة، يتحمّس للدفاع عن
تصريحات ماكرون المسيئة للإسلام، إمّا باعتذاريّة تعيد تأويل خطابه، بقصر مقاصده على "الإسلام السياسي"؛ الذي يحول بنزوعه الهوياتي دون اندماج المسلمين المهاجرين في مجتمعاتهم الغربية، أو بإظهار الاعتقاد بأنّ المشكلة في الإسلام نفسه، من حيث استعصائه على الانصهار في الحداثة الراهنة، والتي هي حداثة غربيّة.
مؤكّد أنّ ثمّة مشكلة لدى التيار اليميني الفرنسي مع الإسلام، ولدى اللائكية الفرنسية، فالنمط الثقافي المعياري يتحوّل في النهاية إلى دين، يتضادّ سلطويّا مع دين آخر. والإسلام وحده الذي يملك اليوم منظومة ثقافية لها مقولة قائمة بذاتها، تجعل منه الأكثر ممانعة، سواء لبعض المعطيات الثقافية للحداثة الغربية عموما، أو لمفهوم المواطنة الفرنسي الذي يجعل من الثقافة الفرنسية معيارا لها. بيد أنّ سطحية بعض العلمانيين الشعبويين العرب، وكذا وطنييهم اليمينيين، لا تتجاوز الكلاشيهات عن التنوير، فيعجزوا عن فهم حقيقة الـ "تنوير فرنسي" الذي لا يقبل التعددية، فيحيلون، في ترجمتهم القاصرة، عدوانية ماكرون إلى "الإسلام السياسي"، لا إلى الإسلام من حيث هو ديانة.
بعضهم، لا سيما الجدد منهم، مع ظاهرة تردّي السياسات العربيّة الراهنة المرتكزة إلى الغرام بـ"إسرائيل"، وكراهية الذات العربية والإسلامية، وخلق وطنية جديدة تتمحور حول الحاكم الرديء، يمسكون بخيط الاستبداد الثقافي الفرنسي، وتوحيده القهري للمجتمع على صورة القومية الفرنسية، لخدمة خطّهم بخلق هوية وطنية، لا تقبل التعددية في داخلها. إذ معيار الانتماء، لا الثقافة الإسلامية، ولا العربية، وإنما الخضوع المطلق والكامل للحاكم، الذي بات يسعى بدوره، لفرض إسلامه على المجتمع، كما بدا ذلك في تصريحات للسيسي، وتدخلاته الخرقاء في مسائل فقهيّة، وسياسات إماراتية بدعم اتجاهات دينية حداثية وتمويلها، وسياسات سعودية مستجدة تستند إلى الحطّ من إرث "الصحوة"، قنطرة ذرائعية لأجل الوصول إلى بناء تصوّر جديد عن الإسلام.
يجد هؤلاء سببا للحماسة للدفاع عن ماكرون، وتبني خطابه في أقصاه هجوما على الإسلام، واتهاما له، أو في حده الأدنى بقصره على "الإسلام السياسي"، بعيدا عن أي مناقشة جادّة، للفشل الفرنسي في دمج المهاجرين، سواء لغلوّ "التنوير" الفرنسي، في رفضه التعددية، وحصر المواطنة في حدود التماثل الثقافي، لا في إطار المشاركة السياسية، والمساهمة الاقتصادية والاجتماعية، أو لسياسات اقتصادية وثقافية أخرى، أو لسوى ذلك. والحاصل أن الشعبوية الرخيصة، التي تستفحل في العالم، لا تقدر على المناقشة الجادّة، ولا تقبلها، لأنّ الأسس التي تقوم عليها، والأهداف التي تخدمها، عريّة من المصداقية والكثير من المبادئ الأخلاقية.
ثمة مشتركات إذن، من حيثيات معينة، بين اليمين الفرنسي واليمين العربي الرخيص، من أبرزها الغرام بـ"إسرائيل"، فانتقاد "إسرائيل" سياسيّا، بات الآن، معاداة للسامية في فرنسا، بينما انتقاد الإسلام دينا مشروع دولة، وهو أمر يكاد يستقرّ في خطاب اليمين العربي المتمحور حول الحاكم الرخيص، والكاره للذات العربيّة والإسلاميّة.
twitter.com/sariorabi