هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لقد تحولت ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس نهاية العام 2010، إلى علامة فارقة في التاريخ السياسي العربي الحديث والمعاصر، ليس فقط لأنها نفضت الغبار عن قرون طويلة من الاستبداد السياسي والفكري لجهة إعادة ملف الحكم وأدواته إلى الواجهة، وإنما لأنها أحدثت تحولا جذريا مس مختلف جوانب حياة المجتمعات العربية بمستوياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولقد مثل صعود الإسلاميين إلى الحكم بعد عقود طويلة من العمل السري والمعارضة وما تقتضيه من مكابدة ومعاناة، واحدا من أهم علامات هذا التحول، وإن كان هذا الصعود قد صاحبه أيضا معارضة شديدة ما زالت فصولها جارية إلى اليوم في شكل صراعات دموية في أكثر من مكان..
وعلى خلاف ما اعتقده كثير من المتابعين لشؤون التحول السياسي في منطقتنا، من أن مرحلة الربيع السياسي ربما تكون مدخلا لإنهاء كثير من مظاهر العنف والإرهاب التي حصلت في عهود الاستبداد السياسي، فإن عمليات العنف استمرت سواء في شكل عنف تقوم به مؤسسات الدولة تجاه مواطنين عزل يتظاهرون فقط من أجل الحرية والكرامة، أو في شكل عمليات إرهابية بغايات سياسية.
"عربي21"، تنشر في هذا السياق مناظرة فكرية بين خبيرين مغاربيين بشؤون الحركات الإسلامية والتحولات الفكرية، في قراءة جذور الظاهرة الإرهابية وتحولاتها، بالإضافة إلى أهدافها وسبل مواجهتها. الأولى كانت للكاتب والباحث التونسي توفيق المديني والثانية، والتي ننشرها في حلقتين، للكاتب والباحث المغربي بلال التليدي.
الضابط الثاني: الظاهرة الإرهابية غير ذات علاقة بالنموذج الثقافي الإسلامي.
مع الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، تبلورت حجة جديدة في دراسة الإرهاب، تنسب الإرهاب ليس بالضرورة للنص الديني، ولكن، تربطه بالسياق العربي الإسلامي، وبالنموذج التربوي والثقافي المعتمد، وقد كانت خلفية هذه الحجة إثبات فكرة أن "الإرهاب صناعة إسلامية خالصة"، أو فكرة أن الإرهاب "بضاعة مصدرة من العالم العربي والإسلامي لدول الغرب".
لا ينفع في مواجهة هذه الحجة، الانخراط في سيل من التبريرات التي تحاول أن تنفي التهمة عن النموذج التربوي والثقافي والديني الإسلامي، فالسعي في هذا المسار هو الذي شجع الولايات المتحدة ألأمريكية وأوروبا لممارسة غير قليل من الضغوط على العالم العربي والإسلامي من أجل تعديل مناهجه في التربية والتعليم فضلا عن إصلاح وتجديد الحقل الديني، ووضعه تحت سيطرة السلطة، ومع ذلك لم تنجح هذه التعديلات التي تمت بتوجيه من قبل مستودعات تفكير أمريكية وأوروبية، فضلا عن توصيات تقارير استخباراتية، في إيقاف الظاهرة الإرهابية.
الحجة التي يمكن الدفع بها هنا، مرتبطة، بالمعطيات السوسيولوجية التي المتوفرة عنما يسمى بالإرهاب الأوروبي، أي الإرهاب الذي نفذه جيل جديد من المواطنين الأوربيين الذين ولدوا ونشأوا في أوربا، ولم يسبق لهم أن تلقوا تعليمهم وثقافتهم في بلدانهم الأصل، بل خضعوا في تعلميهم للنموذج التربوي الأوربي بقيمه وتقاليده. فمعظم منفذي الهجمات التي تعرضت لها أوربا ما بين 2016 و2017، من مواليد دول أوربية، وتلقوا تعليمهم فيها بسياسات تربوية وثقافية أوربية، ولم يعانوا كما عانى الجيل الأول من المهاجرين من إشكالية الهوية والاندماج الثقافي.
الضابط الثالث: سوسيولوجيا الظاهرة الإرهابية ترفض تحكيم البعد السوسيواقتصادي.
ما من شك أن ثمة مقاربات تحاول أن تسلط الضوء على فاعلية العامل الاقتصادي والاجتماعي في تفسير الظاهرة الإرهابية، منطلقة في ذلك من كون تدني الدخل، أو توسع البطالة، أو ارتفاع نسب الفقر وتهاوي عتبته، عند بعض الفئات يدفعها نحو اليأس والإحباط، وأن ذلك يحفز على الوقع في يد شبكات التجنيد للفعل الإرهابي.
لكن هذه المقاربات، التي انتقدت بشدة في تفسير ظاهرة الجريمة، لم تقدم المعطيات السوسيولوجية ما يثبتها أو ما يرشحها لتكون عاملا حاسما في تفسير الظاهرة الإرهابية، إذ قصارى ما انتهت إليه كثير من الدراسات، أن الحالة السوسيواقتصادية قد تكون مغذية للتطرف، دون أن تكون مفسرة له، أي أن المحددات الأساسية التي تفسر الفعل الإرهابي توجد خارج الحالة السوسيواقتصادية، وأنها إذا ما صادفت نسب متدنية من مؤشرات التنمية، فإن البعد السوسيوقتصادي في أفضل الأحوال يكون عاملا مساعدا لا عاملا مفسرا.
تستند الأطروحات التي تضخم من البعد السوسيواقتصادي إلى جغرافية المقاتلين الملتحقين بتنظيم الدولة في العراق والشام، إذ يقدم المؤشر العالمي للإرهاب (2014) بهذا الصدد معطيات مهمة عن خارطة الذين تم تجنيدهم لصالح تنظيم داعش، فتحتل تونس المرتبة الأولى، تتلوها السعودية، ثم الأردن والمغرب، وتتبوأ منطقة شمال إفريقيا للصدارة من حيث عدد الملتحقين بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
وتقدم المقاربات التي تضخم من فعالية البعد السوسيواقتصادي تفسيرات لتصدر منطقة شمال إفريقيا من حيث عدد الملتحقين بتنظيم داعش، وتعزو ذلك إلى مؤشرات ارتفاع البطالة، وتدني الدخل، وتوسع أحزمة الفقر فضلا عن تدني الخدمات الاجتماعية، وما ينتج عن ذلك من خلق بيئة من الإحباط واليأس، تسهل عملية التجنيد من قبل التنظيمات الإرهابية، لاسيما في صفوف الشباب. لكن التأمل في خارطة الدول التي يكثر منها التجنيد لفائدة تنظيم داعش، حسب نفس التقرير، يقدم حجة مختلفة، فالسعودية التي تصنفت في المرتبة الثانية بعد تونس، لا يمكن أن تقارن بدول أخرى تنخفض بها مؤشرات التنمية، مثل مصر التي تبوأت المرتبة السابعة، ولا اليمن التي تبوأت المرتبة 18، أو الصومال التي احتلت المرتبة 23، فالمفترض أن السعودية تقترب مؤشرات التنمية فيها من قطر والإمارات، لكن وضعها من حيث تجنيد داعش للمقالتين من أوساط شبابها هو في الصدارة، لكن قطر والإمارات تصنف من أقل الدول من حيث قابلية شبابها للتجنيد لتنظيم داعش، مما يفيد بأن البعد السوسيوقتصادي ليس عاملا مفسرا، وأنه في أقصى حالاته، يلعب دور التغذية، بعد أن تكون عوامل أخرى محددة هي التي وفرت شروط التجنيد للفعل الإرهابي.
ومما يدعم هذه الحجة، أن الدول الأوروبية التي لا يمكن ان تقارن من حيث مؤشرات التنمية مع دول شمال إفريقيا أو دول الشرق الأوسط، تعرف هي الأخرى ظاهرة تجنيد شبابها من قبل تنظيم القاعدة، فتحتل روسيا حسب بيانات 2014 المرتبة الأولى من حيث عدد المجندين لتنظيم داعش، وتحتل فرنسا وألمانيا وبريطانيا الرتبة الثانية والثالثة والرابعة على التوالي، ويلاحظ أن إسبانيا وإيطاليا التي تضم العمالة المغاربية الأقل حظا من حيث الدخل، المرتبة 19 و20 على التوالي.
وتنضاف حجة أخرى، أكثر نسفا للمقترب السوسيوقتصادي في تفسير الظاهرة الإرهابية، وهي مات يرتبط بالتوتر الاجتماعي الذي أبانت عنه الموجة الإرهابية ألخيرة التي ضربت أوربا، والتي تفيد بأن أغلب منفذي هذه العمليات ينتمون إلى الطبقات الوسطى، من أطر تحظى بمنسوب تعليمي مهم، ووضعية دخل ميسورة، مما يدحض فكرة فاعلية التهميش والحرمان في تفسير الظاهرة الإرهابية.
الضابط الرابع: محددات الظاهرة الإرهابية في التراكم البحثي
تقدم المراكز البحثية المختلفة المعنية بدراسة الإرهاب محددات عدة، لتفسير الظاهرة الإرهابية، لا يوجد ضمنها البعد السوسيوقتصادي كمحدد مفصلي، توفر هذه البيانات الرصدية أيضا معطيات جد مهمة حول محددات العنف والإرهاب الذي تعرضت له الدول الغربية، إذ توقفت عند إحدى عشر عاملا، فسر كل عامل منها ببعض الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها بعض الدول والتي نفذها افراد لم يثبت انتماؤهم لأي جهة، ويتصدر هذه العوامل العامل السياسي، بحوالي 67 في المائة متبوعا بالتطرف الإسلامي، بحوالي 20 في المائة، وعامل العنصرية والكراهية الدينية بحوالي 11 في المائة، وقضايا شخصية بحوالي 2 في المائة، وذلك حسب ما يوضح الجدول الآتي:
ويوضح الجدول الآتي بالنسب، تصدر العامل السياسي صدارة الحوافز الدافعة للفعل الإرهابي، يتلوه التطرف الإسلامي ثم العداء للإسلام والسامية ثم الهجمات التي ترتكب بدافع شخصي.
ويقدم استطلاع الرأي الذي أنجزته مؤسسة زوغبي سنة 2015 معطيات جد متفاوتة حول تفسير الظاهرة الإرهابية، وأهم العوامل التي تدفع بالشباب إلى الالتحاق بالجماعات المتطرفة، إذ يأتي الفساد وغياب حكومة ديمقراطية ممثلة للشعب على رأس العوامل ويأتي الاحتلال الأجنبي للأراضي العربية في المرتبة الثانية، وتتفاوت إجابات المستطلعين في الدول الثمان حول ثلاثة خيارات أخرى تفسيرية (الخطاب الديني المتطرف، القناعة بأن هذه الجماعات تمثل الحقيقة، وضعف المستوى التعليمي) حسب ما يبين الجدول الآتي:
ويكشف استطلاع المؤشر العربي أسباب التحاق الشباب بالجماعات الإسلامية المسلحة في العراق والشام، ويجعل في المرتبة قضية غياب التحول الديمقراطي، ويجعل في القضية الثانية غياب حل للقضية الفلسطينية، ثم وقف التدخل الأجنبي في المنطقة حسب ما هو مبين في الجدول.
وتتميز الظاهرة الإرهابية في أوروبا عن الإرهاب الذي ضرب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بخصوصية مثيرة، إذ تكشف المعطيات السوسيولوجية حول مرتكبي الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها أوربا منذ تفجيرات مدريد ثم لندن، إلى تفجيرات باريس وبروكسيل ثم الهجوم الإرهابي على مدينة نيس الفرنسية عن خصائص جد متوترة لشخصية الإرهابي المجند في هذه العمليات تأخذ عدة أبعاد:
ـ توتر بين التدين والجريمة: ويظهر هذا التوتر بشكل كبير عند منفذي هجمات مدريد (الانتماء للجماعة المغربية المقاتلة / المخدرات) وهجمات باريس، إذ تشير التحريات إلى أن صلاح عبد السلام، الرأس المدبر لهجات باريس وبروكسيل، له سوابق إجرامية (بيع الأقراص المهلوسة في البار الذي كان يسيره)، كما كشفت التقارير الإعلامية أن منفذ هجوم نيس لم يكن متدينا وكان يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير وله سوابق في العنف الزوجي.
ـ توتر هوياتي (من أصول شمال إفريقية وجنسية أوربية): ويظهر ذلك من خلال جنسيات منفذي هجمات مدريد الأوربية وشمال إفريقية (تونس والمغرب) وكذلك منفذي هجمات شارل إيبدو (فرنسيين من أصول جزائرية) ومنفذي هجمات بروكسيل (جنسية المنفذين بلجيكية من أصول مغربية).
ـ توتر ثقافي (خريجو المدرسة والتعليم الأوربي/ أتباع داعش في سوريا) فمعظم منفذي الهجمات التي تعرضت لها أوربا من مواليد دول أوربية، وتلقوا تعليمهم فيها بسياسات تربوية وثقافية أوربية، أي أنهم لم يعانوا كما عانى الجيل الأول من المهاجرين من إشكالية الهوية والاندماج الثقافي، لكن مع ذلك، سقطوا في فخ التجنيد الداعشي.
ـ توتر اجتماعي (الانتماء للطبقات الوسطى/ التمرد على البيئة الأوربية)، ففي العادة أن الانتماء إلى الطبقة الوسطى يحصن من التهميش والشعور باليأس والإحباط ويساعد في بناء منسوب رضا على الوضع الاجتماعي والسياسي، غير أن حالة منفذي الهجمات التي تعرضت لها أوربا كانت معاكسة مما يعني وجود عوامل أخرى ساعدت على التمرد على البيئة الأوربية وخلق الشعور بالرغبة في الانتقام منها.
هذه المعطيات التي تكشف أبعاد هذا التوتر، تبين أن الدين والتدين، فضلا عن الوضعية الاجتماعية، لم يعد الرصيد والرأسمال الأولي المطلوب كشرط في الاستقطاب والتجنيد بالنسبة إلى تنظيم الدولة أو الجماعات الإسلامية المسلحة التي لا تزال ترتبط بتنظيم القاعدة، كما أن الرصيد التربوي والتعليمي الذي تلقاه منفذو هذه الهجمات، الأوربيو الجنسية، لا يمثل حصانة بالنسبة إليهم ضد السقوط في أحضان الإرهاب، وأن تنظيم الدولة الإسلامية غير البروفايلات المطلوبة في عملية التجنيد، فصار يبحث عن أصحاب السوابق الإجرامية، ممن يطمع في تحقيق اعتراف واعتبار رمزي (قيادة تنظيمية) وإشباع هوياتي (مجرد الانتماء إلى الإسلام من غير التزام تطبيقي) والتطلع لإغراءات مالية (العائدات النفطية لتنظيم الدولة الإسلامية) والتمرد على البيئة الأوربية والانتقام لواقع التهميش والعنصرية.
الضابط السادس: في تطور أجيال التطرف الإسلامي.
من المفيد جدا، أن نميز داخل التطرف الإسلامي، بين الأجيال الثلاثة الأساسية، أجيال الجماعات الإسلامية، التي كانت تناهض النظام القائم، مثل جماعة الجهاد والجماعية الإسلامية قبل أن يتم إقرار مبادرة وقف العنف، وتدشن جماعة الجهاد هي الأخرى مراجعاتها الخاصة، وبين جيل تنظيم القاعدة، الذي حاول توظيف واستيعاب جهاد الجماعات الجهادية المحلية وتغيير البوصلة في اتجاه المعسكر الأمريكي الصليبي، وتحريك حجة تحرير البلاد العربية من الكفار، وبين الجيل الثالث، المرتبط بتنظيم داعش في الشام والعراق.
ففي الجيلين الأولين، كان المحدد الأول في التجنيد هو التدين، وكانت الثقافة السلفية الجهادية هي الرأسمال الثقافي المطلوب في الفعل التجنيدي وكان المستهدف هم الشباب في كل المستويات التعليمية، ومن كل الطبقات الاجتماعية، أما في الجيل الثالث، فتفيد المعطيات السوسيولوجية المرتبطة بمنفذي الهجمات، أن الرأسمال الأول المحدد لبروفايل المجند لتنظيم داعش هو الجريمة والسوابق العدلية، ومنسوب التوتر في عملية الاندماج الثقافي والاجتماعي والهوياتي.