هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بدافع الفضول واكتشاف الثقافات الأخرى، قرر الأنثروبولوجيان ميشيل وزوجها "ريناتو روزالدو" ترك القارة الأمريكية والسفر للعيش بين أفراد قبيلة إلونغوت القاطنة شمال شرق مانيلا، عاصمة الفلبين.
تشارك الزوجان لمدة تزيد على السنتين ونصف الملاحظات والتحليلات الأنثروبولوجية سعياً إلى فهم تلك المجموعة الإثنية غريبة الأطوار.
وكأي يوم استكشافي لإثنوغرافية تبحث عن مغامرة، بدأت ميشيل جولتها الميدانية بين أشجار الغابات الكثيفة، تلاحظ وتدون، ولكنها تفاجأت بانتهاء رحلتها عندما فقدت توازنها وسقطت من على تلة مرتفعة، ليبتلعها النهر دون عودة. شكلت هذه الحادثة صدمة كبيرة لريناتو عبر عنها في مذكراته قائلا:
"شعرت وكأنني في كابوس والعالم كله من حولي يتمدد ويتقلص… فور العثور على جثتها بدأ الغضب يحتلني. كيف أمكنها أن تهجرني؟ كيف بإمكانها أن تكون بهذا الغباء لتترك نفسها تسقط؟ حاولت البكاء، خنقتني العبرة ولكن الغضب حبس دموعي!".
توقف روزالدو عن الكتابة وتدوين ملاحظاته لأكثر من عام بعد تلك الحادثة، كان يملؤه الحزن، ويتملكه الغضب، خصوصا من شركة التأمين على الحياة، التي لم تعترف بمسؤوليتها تجاه وفاة زوجته.
وجد روزالدو في هذا الغضب الخانق رابطاً مشتركاً بينه وبينه أفراد القبيلة التي يدفعها الغضب نحو قطع الرؤوس!
كان صيد الرؤوس معروفاً في ثقافات لبلدان كثيرة في العالم من بينها قبيلة إلونغوت، قبل أن تنتهي مع منتصف القرن الماضي.
حاول روزالدو تفسير هذا الطقس الذي يجتمع فيه أفراد القبيلة ليرقصوا ويغنوا بعد قطع رأس أحدهم، ليلاحظ أنه يحرر أفراد القبيلة من مشاعر الغضب والسخط والقلق المتولدة عن تجربة فقدان مريرة.
المثير أن روزالدو شعر بتقاطع تجربته الأليمة مع صيادي الرؤوس واستطاع التعاطف معهم وتفسير دوافعهم وربطها بالحالة النفسية المرافقة لأي شخص وقع في تجربة الفقدان.
التخلص من الماضي
عُرف الأنثروبولوجيين بقدرتهم العالية على التعاطف مع الآخرين، ولعب دور الملاحظ المحايد، الذي يحاول فهم الآخر دون الحكم عليه، واشتُهر عنهم مقولات تدّعي عدم التّدخل في ثقافة الآخر وتقبلها كيفما كانت.
لم تبرز هذه الادعاءات إلا حديثاً بعد الانقلاب على الإرث الاستعماري الذي شكل انطلاقاً تأسيسياً لحقل الأنثروبولوجيا. ارتبطت هذه الحركة مع تطوير أدوات فهم الثقافات الأخرى من خلال المناهج الإثنوغرافية والتي تدعو الباحث للتعايش مع المجموعات الثقافية وملاحظتها عن قرب وفهمها بشكل أقرب لتكوينها الداخلي.
كان الأنثروبولوجي برونسيلاف مالينوفسكي من أوائل من طوّر هذه الأدوات بعد قضائه سنوات من عمره بين قبائل السكان الاصليين في جزر شمال استراليا.
اقرأ أيضا: كواليس الطقس السحري
مع بداية القرن الماضي وتطور أدوات الأنثروبولوجيا في تعاملها مع الإثنيات الأصلية والمجتمعات التي لا تنتمي للثقافة الغربية، معترفة بتعدد الثقافات وتنوعها، برز ما يُعرف بالنسبية الثقافية.
كان من أوائل من أسس للنسبية الثقافية رائد الأنثروبولوجيا الأمريكية فرانز بواس الذي أكد على تمييز الثقافات، رافضاً الحكم على أي منها بالفوقية أو الدونية.
بالإضافة إلى شخصيته الكاريزماتية، كانت أفكار بواس مؤثرة على نطاق واسع في الوسط الأكاديمي في جامعة كولومبيا، ما كان له أثر على تلميذته مارغريت ميد، أهم من طوّر في منهجيات الإثنوغرافيا المعززة للنسبية الثقافية.
اشتهرت ميد بدراستها لمجتمع الساموا، والتي ركزت فيها على الجانب النفسي لدى المراهقين وتحولاتهم وعلاقتها مع ثقافة مجتمعهم، لتخرج بنتائج صنعت جدلا في الوسط الغربي.
كان من أهم تلك النتائج التي خرجت بها بعد معايشة طويلة لمجتمع الساموا، أن المراهقات ينتقلن إلى البلوغ دون اضطرابات نفسية، وأن ثقافة الساموا أكثر صحية للثقافة الجنسية والانفتاح الجنسي.
"لم تمثل المراهقة فترة أزمة أو توتر، ولكنها كانت بدلاً من ذلك عبارة عن تطور منظم لمجموعة من الاهتمامات والأنشطة التي تنضج ببطء.
لم يكن هناك أي صراعات تجعل الفتيات مضطربات، لا تساؤلات فلسفية تضايقهم، ليس هناك طموحات بعيدة تزعجهم.
أن تعيش كفتاة مع العديد من العشاق لأطول فترة ممكنة ثم تتزوج في قريتها، بالقرب من أقاربها، وأن تنجب العديد من الأطفال، كانت هذه طموحات موحدة ومرضية. (مرحلة المراهقة في ساموا- ١٩٢٨).
كان لأفكار ميد أثر واسع خارج الأكاديمية، حيث ظهرت بشكل متكرر على وسائل الإعلام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لتتحول النسبية الثقافية إلى ثقافة عامة.
مهد هذا التغيير لثورة معرفية، كما يصفها كثير من الباحثين، ولكنها في نفس الوقت فتحت بابا من الأسئلة في الحقل الأكاديمي عن حقيقة النسبية الثقافية، وإمكانية رؤية الآخر بموضوعية.
ارتداد نحو الذات
في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كان المجتمع الأكاديمي على موعد مع صدمة استثنائية عندما تم اكتشاف مذكرات خاصة للأنثروبولوجي مالينوفسكي بعد ٢٥ عاما من موته، نشرتها أرملته تحت عنوان "يوميات بالمعنى الدقيق للكلمة"، عام ١٩٦٧.
استدعت هذه الحادثة الذاكرة الاستعمارية للأنثروبولوجيين وشككت في القدرة العلمية والموضوعية التي تدعيها الأنثروبولوجيا في دراسة ثقافة الآخر والتي طورت من خلالها ما يعرف بالنسبيّة الثقافية.
كشفت المذكرات عن وجه آخر للعمل الميداني حيث بدا كمأساة تراجيدية يعيشها مالينوفسكي المغترب عن مجتمعه والعاجز عن التفاعل في بيئة لا تشبهه.. "شعرت أنني أترك الحضارة خلفي. كنت مكتئبا إلى حد ما..".
بالإضافة إلى نرجسية وصفت بالمرض الوهمي، كشفت تلك المذكرات عن شيء ما كامن في شخصية رجل أبيض لا يرى الحضارة إلا غربا ولا يرى الآخر سوى مستودعاً للمعلومات.
وبالرغم من كره مالينوفسكي للحركات التبشيرية التي كانت منتشرة بين السكان الأصليين وتدعي الفوقية، إلا أن مذكراته امتلأت بأوصاف عنصرية للسكان الأصليين مثل "الزنوج" أو "أصحاب الشعر المجعد" وكان من الواضح أن هناك مفارقة بين ما يعيشه الأنثروبولوجي وما يدعيه عن نفسه.
"في خصوص علم الأعراق: أرى حياة السكان الأصليين خالية تماماً من الاهتمام أو الأهمية، شيء بعيد عني كمثل حياة الكلب..".
لم تتوقف الدراسات النقدية عند مالينوفسكي، ولكن كان قد بدأ الأنثروبولوجيون مع نهاية القرن الماضي بإعادة تقييم الحركة التحررية -ما بعد الاستعمارية- ليظهر أن ما كانوا يظنونه تحرراً ما هو إلا وجه آخر من المركزية الغربية التي لا تعبر ربما سوى عن حلم ساذج بالتخلص من الماضي. وكما تؤكد المختصة بدراسات الأنثروبولوجيا والدراسات النسوية ليلى أبو لغد:
"من المؤكد أن النسبية الثقافية تمثل قفزة قياساً بالمركزية العرقية والعنصرية والإمبريالية الثقافية، وما يتخّفى وراءها من نزعة جبرية، لكن المشكل هو فوات أوان منع التدخل، وأن جل أشكال العيش التي تعج بها المعمورة هي منتجات لتواريخ طويلة من التّفاعل".
وُصفت بعض تلك التفاعلات بـ"البريئة" كما يذكر الأنثروبولوجي روزالدو وهو يعد دوره الأنثروبولوجي الأهم الذي يكمن في مواجهة اعتداءات الإمبريالية والرأسمالية.
وبالرغم من موقفه، تؤكد قصة روزالدو مع صيادي الرؤوس أنه لم يستطع تصديق السكان الأصليين في حديثهم عن الغضب قبل أن يعيش هو تجربة شبيهة. يبدو أن إرث الغربي لا يزال يلاحقه وأنه غير قادر على التعاطف مع الثقافات الأخرى دون محاكمتها لقصته وثقافته هو.
لم تسلم مارغريت ميد أيضاً من النقد حيث أكد الأنثروبولوجي ديريك فريمان على فشل محاولتها في دراسة مجتمع الساموا الذي وقع تحت مقارنات مستمرة مع الحضارة الغربية وقامت بإضفاء طابع رومنسي عليه. ففي الوقت الذي تعاطفت فيه ميد مع ممارسات عنف شديدة في ذلك المجتمع، أصرت على تقديمه بالمقابل كجنة الحياة الجنسية والسلام.
ولكن بالرغم من النماذج السلبية والمشككة بالقدرة الموضوعية لتناول الثقافات الأخرى، يتصالح الأنثروبولوجيون مع قصور العمل الإثنوغرافي مؤكدين على أهمية اعتراف الباحث بتحيزاته التي لا مفر منها.
ويعترف الأنثروبولوجي أيضاً بمحدوديته في تجاوز ذاته، بل يبدو أن الارتداد نحو الذات يعد شرطاً لفهم الآخر، حيث لا يمكن للإثنوغرافي تقديم سردية عن الآخر دون امتلاكه سردية عن نفسه. يقودنا هذا إلى التفكير في سرديتنا نحن وعما يحدث لنا عندما نتعرف على الثقافات الأخرى؟
هجرتنا نحو الآخر
ربما لم يسمع الكثيرون عن النسبية الثقافية بمفهومها وتاريخها الأكاديمي ولكنها بلا شك باتت من الأفكار التي تعرّفت عليها مجتمعاتنا العربية مع الانفتاح الكبير على ثقافات العالم والثقافة الغربية التي تسوّق لنموذجها التعددي.
ساعد على هذا الانفتاح حركات الهجرة الكبيرة من الدول العربية والدراسة والعمل في الخارج بالإضافة إلى أهمية الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
وأصبح الباحثون اليوم يقيسون مدى تطور المجتمعات وتقدمها بقدر انفتاحها على الثقافات الأخرى وتعاطيها معها، كما أننا نجد كثيرا من المتحمسين للنقلة النوعية التي يعيشها الشباب العربي اليوم وانفتاحه وبروز الهويات العالمية أو الكوزموبوليتانية.
يغفل كثير من هؤلاء الذين يعدون الانفتاح والاندماج مع الثقافة الغربية مؤشراً هاماً للتقدم نحو الديمقراطية الليبرالية، حقيقة مهمة وهي أن ما يحدث في الوطن العربي يعبّر عن حاجة اضطرارية نشأت نتيجة اضطهاد عايشه العربي على جميع الأصعدة.
لا يكون "التبادل" الثقافي حركة تطورية دون اقترانه بحالة اجتماعية وسياسية متوازنة تسمح لثقافة العربي أيضا بتقديم نفسها والتعبير عنها بكل حرية.
ولكننا نجد أن حركة التفاعل الثقافي ما زالت في هجرة مستمرة نحو الغرب في محاولة لتحقيق ادعاء لم تقدر عليه الثقافة الغربية نفسها ولكنها استطاعت تمريره كأيدولوجية تحاكم فيها شعوب العالم، أو تجعل شعوب العالم تحاكم نفسها على أثرها.
في هذه المعادلة يفقد كثير من العرب سرديتهم عن أنفسهم وثقتهم بها ولا يبقى أمامهم سوى التعايش والاندماج وتقبل الآخر وادعاءات أخرى تنتمي إلى "العالم المتحضر"!