كتاب عربي 21

الصراع حول الحرية متواصل في تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

يعرض على البرلمان التونسي مشروع قانون مقترح من قبل كتلة ائتلاف الكرامة، يتعلق بتعديل المنشور المنظم للإعلام عامة وللقطاع السمعي البصري خاصة. ويتضمن نقطة مهمة تثير جدلا كبيرا، وتعيد الصراع السياسي إلى نقطة بداية بين حماة الحرية وحماة الاستبداد (النقاش مستمر بين يومي 20 و21 تشرين الأول/ أكتوبر). وقد انكشفت المواقف والحجج وظهر اليسار الوظيفي ومن يزعم التقدمية في مقدمة رافضي التعديل، بما وضعهم جميعهم في صف الفاشية التجمعية. لقد فتحت معركة من معارك الحرية، فتواصل الفرز على قاعدة الاستثمار في الحرية في مقابل تكريس الاستبداد.

المنشور 116 شقيق القانون الانتخابي

الجهة التي وضعت القانون الانتخابي القائم على منع الجميع من الحكم (لجنة ابن عاشور) هي نفس الجهة التي وضعت المنشور 116 المنظم لقطاع السمعي البصري، فحدّت من حرية إنشاء المؤسسات الإعلامية، وجعلته تحت هيئة رقابية ذات صلاحيات واسعة، بحيث يمكنها إغلاق المنافذ إلى الحرية إذا رغبت. وقد فعلت بلا تردد، فمنعت إنشاء مؤسسات كثيرة عجز أصحابها عن الحصول على وضع قانوني يسمح لهم بالعمل.

لقد تم تكليف أعضاء الهيئة رسميا من قبل الرئيس المرزوقي وفريقه الرئاسي دون انتخاب؛ لأن الظروف حينها لم تكن تسمح بالانتخاب. وككل الهيئات الرقابية في بداية الثورة، لم يكن ممكنا لأنصار الثورة التفطن لنوعية المكلفين بحكم جهلهم بالأشخاص وبماضيهم السياسي زمن ابن علي (وهو أحد نقاط ضعف الثورة وأنصارها منذ البداية)، فظهرت هيئة تمارس الرقابة السياسية قبل الإعلامية وتسلطت على القطاع بخلفيات أيديولوجية استئصالية.

 

كان الفصل المتعلق بالترخيص المسبق لإنشاء وسيلة إعلامية ناطقة ومرئية سيفا مسلطا على كل جهة مناصرة للثورة لتمارس العمل الإعلامي، لكننا شهدنا حصول قنوات على تراخيص حتى قبل أن تستأجر محلا للعمل، مثل قناة التاسعة والجنوبية، ولكن لم تحصل قناة الزيتونة على ترخيص بعد وظل وضعها غير قانوني

كان الفصل المتعلق بالترخيص المسبق لإنشاء وسيلة إعلامية ناطقة ومرئية سيفا مسلطا على كل جهة مناصرة للثورة لتمارس العمل الإعلامي، لكننا شهدنا حصول قنوات على تراخيص حتى قبل أن تستأجر محلا للعمل، مثل قناة التاسعة والجنوبية، ولكن لم تحصل قناة الزيتونة على ترخيص بعد وظل وضعها غير قانوني ويتكبد الخطايا في كل خطوة. كانت كل مؤسسة يشتم منها القرب أو التعاطف مع الإسلاميين أو تظهر الانتماء إلى الثورة والتغيير تتعرض للمنع، بينما يمد لكل وسيلة معادية للثورة والتغيير.

فوق ذلك، تجاوزت الهيئة المكلفة أجلها القانوني بسنوات، وظلت تتمتع بالامتيازات وتمارس دورها الرقابي/ السياسي خارج القانون، ولم تتعرض لأية مساءلة قضائية، وهو تقصير كبير يكشف غفلة وهوانا من أنصار التغيير. ولكن مشروع التعديل المقترح جاء ليضع حدا لذلك.

مشروع لتحرير الإعلام من الرقابة المسبقة

خطاب الاعتراض على تعديل القانون ارتكز على محورين هامين؛ أولهما شيطنة الجهة التي اقترحته (ائتلاف الكرامة) ووصفها بالدواعش، وثانيها الزعم بأن فتح سوق السمع البصري سيفتح بابا للفساد ليدخل حقل الإعلام ويفسد عقول التونسيين. وفي كلا الحجتين ضعف وسوء نية، ولذلك لم تقم الحجتان ولم تقنعا إلا الرافضين مسبقا للحرية والمستفيدين من الاستبداد؛ الذين تظاهروا أمام المجلس النيابي يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر. وللغرابة، وجدنا فيهم كل وجوه اليسار الاستئصالي وكل مكونات الحزب الفاشي كتفا لكتف.

وهن حجة الدعوشة يسقط عندما نذكر بأن كل مكونات التطرف الإسلامي الذي يرمى به ائتلاف الكرامة لم تكن يوما من أنصار الحرية أو الراغبين في تحرير عقول الناس، وقد عاينا عملهم وقرأنا أفكارهم وهم ألد أعداء الحرية، بينما يقوم مشروع التعديل أولا على تحرير قطاع حساس والسماح للناس بالعمل فيه بلا رقابة مسبقة على الإنشاء (المقترح لا يسقط الرقابة البعدية على المضامين، ويتركها بيد هيئة منتخبة). ونذهب إلى حد القول بأن الجهة المقترِحة (الائتلاف) يسقط عنها بهذا المقترح كل اتهام لها بالدعوشة، بل تتحول به إلى قيادة فريق الحرية والتغيير، وهو أمر لم يتجرأ عليه حتى حزب النهضة بخطابه المعتدل (أو الخائف).

 

حجة فتح الباب للفساد للاستثمار في الإعلام تسقط وحدها، فالقطاع الآن وتحت رقابة الهيئة الفاقدة للصلاحية؛ يحتله الفاسدون ويبثون به مادة مفسدة للعقول

أما حجة فتح الباب للفساد للاستثمار في الإعلام فتسقط وحدها، فالقطاع الآن وتحت رقابة الهيئة الفاقدة للصلاحية؛ يحتله الفاسدون ويبثون به مادة مفسدة للعقول، وأبرز مثال على ذلك قناة الجنوبية التي لا يعرف أحد مصدر أموال مؤسسها (المسمى العجرودي)، وهي قناة تتمول من خلال ما تبثه من محور حفتر الإمارات، وتروج لكل خطاب معاد للثورة، وهي تبكي هذه الأيام على الحرية المهدرة. أما قناة الحوار فمالكها سجين بتهم فساد مثبتة في محكمة. لذلك صار الحديث عن الخوف على الإعلام من تسرب الفساد نكتة لا يصدقها السامع، بل تثير ضحكا وسخرية سوداء.

ما وراء الأكمة

وراء الأكمة توجد قناة نسمة المملوكة لنبيل القروي وأسرته، والتي كانت في وضع غير قانوني قد يساعدها التعديل على تقنين وضعها. هذه القناة صنعها ابن علي خارج القانون واستمرت تحارب الثورة بعده، وهي القناة التي صنعت حزب النداء ووضعت الباجي قائد السبسي في مقدمة المشهد السياسي منذ 2011، حتى صار رئيسا بفضل عمل دعائي متقن.

وقد شاهد التونسيون كل نخبة اليسار تمر من القناة وتمارس الاستئصال السياسي، ولم يُثخن أحد في الثورة وأنصارها مثلما أثخنت فيهم قناة نسمة ونبيل القروي بفمه ويديه. وكل الذين تظاهروا يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر كانوا نجوم القناة في كل ليلة، إلى أن تغير ولاء صاحبها السياسي وألّف مع النهضة ائتلافا برلمانيا في صيف 2020.

هذا الائتلاف الذي يبدو غريبا هو الذي أعاد توجيه الفعل السياسي لما بعد حكومة الفخفاخ، فساند حكومة المشيشي وسمح لها بالعمل في ظروف كورونا التي تغطي سماء تونس بالحزن.

 

هذا الائتلاف الذي يبدو غريبا هو الذي أعاد توجيه الفعل السياسي لما بعد حكومة الفخفاخ، فساند حكومة المشيشي وسمح لها بالعمل في ظروف كورونا التي تغطي سماء تونس بالحزن

في لحظة تحول صاحب القناة السياسي، انقلب عليه كل من كان يعيش ويستثمر في قناته، فصارت القناة مسكن الشيطان وصار صاحبها عدوا، والخطاب عن الفساد في الإعلام يبدأ من عنده (هكذا فجأة تذكر الجميع فساده). وهذا التحول في الموقف منه كشف عدم جدية الغيرة الكاذبة على الإعلام.

ائتلاف النهضة وقلب تونس زائد ائتلاف الكرامة وبعض النواب المستقلين؛ قلب المشهد السياسي، وهو يقود البلد الآن بإسناد حكومة المشيشي رغم أنها ليست منه، ولكنه رغم ذلك يشكل خريطة ما يجري وما قد يحصل في السنوات القادمة. ويعتبر تمرير تعديل المنشور 116 محطة مهمة في تاريخ العمل المشترك، رغم الاختلافات الداخلية بين مكوناته. والذين يعترضون الآن يرون مصيرهم البائس إذا استمر الائتلاف في العمل؛ لأن نجاحه في هذا المسألة سيمهد بسرعة وربما قبل نهاية السنة لتمرير تعديل مهم في القانون الانتخابي يفرض عتبة انتخابية. والعتبة هي آخر مسمار سيدق في نعش الحزيبات التي كانت تعيش من نظام أكبر البقايا الانتخابية.

نجاح التعديل اليوم (21 تشرين الأول/ أكتوبر) وهو احتمال كبير لكنه غير يقيني بعد؛ سيكون نصرا للحرية بقطع النظر عن الذين يدفعون في هذا الاتجاه وعن ماضيهم السياسي. ستكون ساحة الإعلام التونسي، السمعي البصري منه خاصة، حرة وبلا قيود مسبقة، وسيغنم من ذلك فاسدون كما في كل القطاعات ذات المردود الاقتصادي، ولكن ستكون غنيمة الحرية أكبر. إنها معركة فرز وقد تجلى المعسكران.

سخرية الأقدار التونسية جعلت نبيل القروي الفاسد دوما يشارك في معركة تحرير الإعلام، وهو الذي ظهر كصنيعة فاسدة ومفسدة لنظام ابن علي، وحارب الثورة وأبكى أنصارها قهرا، بينما يقف في الصف المعادي له كل الذين قمعهم ابن علي وحرمهم من حرية الكلام طيلة ربع قرن. وإنها لمن العجائب التونسية التي تشيب لها الولدان.

التعليقات (2)
الحاج موسى
الأربعاء، 21-10-2020 04:36 م
قلت في نفسي لعل الديمقراطية الفتية في تونس ترد على عنصرية فرنسا و حكامها و تذكرهم بدولة القانون و حقوق المواطن لكن هيهات هيهات "المغرب الغربي " كلهم في الهوى سوى لا فرق بين اليوم و الأمس
عماد
الأربعاء، 21-10-2020 03:55 م
في بعض الأحيان تخيب ظني، تصحيح المسار لا يكون إلا بثورة ثقافية لا وجود لها الى الآن ! نتكلم عن حرية لا قواعد لها . و إني مستاء جدا خاصة من الاحزاب التي تدعي وصلا بضمير الأمة !