من الأحاديث التنظيمية التي يتم تداولها هذه الأيام قضية "التداول السلمي" للسلطة في الدول، ويقابله الحديث عن التجديد القيادي أو البقاء في السلطة في التنظيمات والأحزاب. ويبرز في هذا الصدد رأيان:
يرى أحدهم أن القيادة الكاريزمية للأحزاب والحركات النضالية لا يجب أن تخضع لقانون تحديد دورات القيادة الرئاسية، بينما يرى الفريق الآخر أن القيادة لا بد أن تحدد بفترتين رئاسيتين كحال الرؤساء في الدول
الديمقراطية.
والحقيقة أن هناك فرقا نسبيا بين حالة الدولة وحالة
حركات التحرر والمقاومة أو الأحزاب السياسية، وإن لزم هذه القضية المزيد من البحث العلمي لإثبات ذلك، خاصة في ما يتعلق بتأثير الاختلاف في الشكل والبنية على دور القيادة وأهليتها للبقاء أو التجديد التلقائي.
وفي واقع التجارب الراهنة في العديد من حركات التحرر النضالية، يوجد نوعان من القيادة قد ينطبق عليهما معايير مختلفة فيما يخص التجديد التلقائي للقائد. أولها، فئة المؤسس، والتي قد لا يكون من الإنصاف أن يتم التعاطي معها على أنه شخص جاء عن طريق الأداة الديمقراطية أو العملية الانتخابية فيخضع لها تماماً. والفئة الثانية هي القيادات التي وصلت عبر عملية انتخابية، ولكنها في نفس الوقت حققت استثناءً وتميزاً في الأداء.
فالزعيم نلسون مانديلا الذي يعد رائد مشروع النضال ضد نظام العنصرية ومؤسس لحزبه الرئيس، وفي نفس الوقت حقق استثناء قل أن تجد مثيلا له، بقي يقود النضال في بلده وحقق غايته، وتسلم السلطة في نظام ما بعد نظام الفصل العنصري. لكنه سرعان ما سلم هذه السلطة طواعية، على قاعدة أن دوره كان إيصال الناس إلى بر الأمان. واعتبر أنه من الأسلم والأطهر والأنقى له ألا يدخل في ما يمكن توقعه من تنازع على السلطة مع من سعى لحريتهم وهيأ لهم سبل قيادة أنفسهم.
وهذه حالة استثنائية بكل معنى الكلمة، وفي هذه الحالة قد يصح القول أنه من الظلم أن تسعى الحركات النضالية التي أنتجت مثل هذا النوع من الرموز والقادة لإخضاعها لمنظومة مصمتة تسمى بنظام الدورتين.
إلا أن نموذجاً آخر من القادة والرواد المؤسسين قد أدى استخدام منطق التجديد التلقائي لهم إلى نتائج مغايرة. ففي التجربة الفلسطينية، يظهر نموذج الراحل ياسر عرفات الذي مكث في القيادة مدة طويلة (١٩٦٩- ٢٠٠٤) دون الخضوع إلى أي من أدوات الديمقراطية، لكن هذا المكث في السلطة كان أحد أهم أسباب فساد الرأي والتخبط السياسي الذي أوصل النضال الفلسطيني إلى اتفاق أوسلو الذي يعتبره الكثيرون من رفاق ياسر عرفات وغيرهم عنوانا لفشل وتراجع القضية الفلسطينية.
وهذان النموذجان يوصلان إلا استنتاج أن منطق التجديد التلقائي للقادة المؤسسين لا بد أن يخضع لمعايير حتى تضمن نجاح المشروع، فهو الأساس وليس الأشخاص، وفي ذلك السياق قد يكون من المناسب استحضار ما يلي:
1- يرى ابن خلدون أن الدول والأشخاص يشيخون، وهنا ليس القصد بعدد سني العمر، وإنما ما قصده هو القدرة على العطاء وتحقيق الغايات، حيث يرى ابن خلدون أن المؤسس وفريقه بعد سني العطاء والبناء، يتحولون بعد الاستقرار والمكث الطويل في الحكم، إلى ""نخبة" تدوس الجميع من أجل مصالحها الخاصة وترفها الزائد ورفاهيتها وحدها دون غيرها". كما يرى أن هذا يورث استبدادا في نفس هذه النخبة، وأن هذا "الاستبداد والانفراد بالمجد هو السبب الثاني الذي يؤدي إلى السقوط".
ويضيف: "فذلك المستبد سرعان ما يبدأ في جدع أنوف عشيرته وذوي قُرباه المقاسِمين له في اسم الملك، فيستبد في جدع أنوفهم أكثر مِن سواهم لمكانهم من الملك والعز والغلبة، فإذا تخلص الحاكم من أعوانه المقربين لم يشعر بالأمن، بل على العكس، سرعان ما ينتابه القلق والخوف على مستقبل حكمه، واستمرار عرشه، ولا يجد أمام هذه المعضلة إلا قطع رؤوس مخالفيه، والحط من مكانتهم، والاستهزاء بهم، وإقصائهم بكل وسيلة ليبقى وحده دون منازع".
وفي حال تم إسقاط كلام ابن خلدون على بعض النماذج المعاصرة، سواء في الدول أو الحركات والأحزاب السياسية، يكاد المرء يجزم أن ابن خلدون كان يتحدث عنهم.
2- ومن المعايير المهمة عدم تغول الفرد على المؤسسة، وأستثني هنا تلك التجارب المبدعة التي صنعت الفكرة من لا شيء كمجدد وبشكل منفرد، كغاندي والبنا والإمام الخميني.. فهؤلاء ينطبق عليهم النموذج الأول.
أما الحالة مجال البحث فهي القيادات التي وصلت عبر عملية انتخابية، ولكنها في نفس الوقت حققت استثناءً وتميزاً في الأداء، وهي التي صنعتها مؤسسة قوية، وفي هذه مسألتان:
الأولى: لا يجوز أن تتقمص هذه المؤسسة دور الغلام لتعبد القائد الذي صنعته ليحقق أهدافها، بل هو القائد الذي جذب حوله المريدين طوعا لأنه يطبق ما سنته وأرادته المؤسسة. ولعل الشيخ القائد الشهيد أحمد ياسين صاحب الرمزية المقاومة أحد صناع فكرة التجرد هذه، حيث بقي الأب الروحي لحركة حماس رغم وجوده في هيكل تنظيمي فيه من هو أعلى منه تنظيميا، وكان يمتثل له.
أما إذا انتفى هذا الركن، فأصبح الفرد يرى في ذاته نفسها مسيحا ومخلصا لا يستقيم الأمر إلا به، هنا يستحوذ على هذا "الصنم" فكرة "الإله"، ليرى هو وليس أتباعه أن ما يقوم به هو الصح بل الأصح ومن يعاديه أو يخالفه فقد كفر. هنا يفقد هذا الرمز كارزميته الجاذبة والمحرضة، ويصبح مصدر بؤس ويأس وندم عند من صنعه.
الثانية: كيف يتحول الرمز إلى صنم؟! والمسؤول هنا هم رفاق ذلك الزعيم وبطانته وجنوده، ذلك أن عملية الرقابة والمحاسبة في التنظيمات عادة ما تميل إلى الحالة التوافقية، وما يسمى "بالطبطبة"، حيث تكبر دمامل الفساد القيادية دون إصلاح أو محاولة للإصلاح، فيصبح ذلك الرمز يرى في سكوت الأفراد تأييدا لمسعاه، ويترسخ في داخله فكرة المبدع الذي لا يشق له غبار، فيتمادى في رأيه الخاطئ إلى أن تتحول إلى قناعات تنتقل كالعدوى بين الصفوف، ليصبح هذا الرأي الخاطئ هو الوصفة السحرية للمسير، وهنا يتحول الرمز إلى صنم يعبد.
إن الهالة التي تتشكل حول القائد الرمز والكاريزمي ضمنية (ذاتية أصيلة) وليست صناعية (مكتسبة أو متصنعة)، لا تكاد تجد عليها خلافا بين أتباع المشروع ورواده. والحديث هنا عن حالة الاتفاق الجماعي والأغلبية الكبرى وليست حالة الإجماع التام، فهذه لم يحصل عليها الأنبياء ولا الصديقون. بل حصلت عليها دكتاتوريات ٩٩,٩ في المئة التي ساقت الشعوب أغناما في منطقتنا بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء الدولة القُطرية.
إن القائد الرمز تجده حاضرا بين أهله وجنوده، وهم بين خلجات قلبه وعقله دوما، ليتكون التخاطر التلقائي بين القائد والجندي، كيمياء محضة. إن عبقرية الفريق والمؤسسة - وليست عبقرية الفرد - كما خاطب صنيعة مؤسسة النبوة، عمر رضي الله عنه، من على منبره في المدينة قائد جنده عبر التليباثي القيادية "يا سارية الجبل". وهذا لا يمكن بحال من الأحوال فرضه أو إعماله عنوة، وإنما هو إجماع تلقائي، وإلا فهي عين
الدكتاتورية.
من المعايير المهمة كذلك أن يكون هذا القائد في حالة نجاح حقيقي وليس متوهماً تزين له بطانة السوء نجوميته. فهذه المفاهيم لا تنطبق في حالة قيادة تصدر الأوامر بتوبيخ أفرادها لأنهم أرادوا أو طلبوا مساءلتهم ومناقشتهم في خطأ يرونه في مسيرة هذا الصنم القائد؛ ويسير من فشل سياسي إلى فشل سياسي آخر ويورد أهله المهالك.
وفي حالات النجاح والتقدم القيادي، ستجد أن المعظم من الجنود سيسعون لأن يواصل هذا القائد مسيرته. وفي هذه الحالة تصبح عمليات التصويت أو التجديد الانتخابي أمرا يسيراً سهلاً عند مجاميع واعية حرة تحسن التقدير وتملك أدواته، فيترفع القائد الناجح عن استخدام أدوات غير نظيفة لتزييف الوعي والاستمرار في قيادة الدهماء. وهنا تظهر قضيتان:
الأولى أن هناك من يقول إذا كان أن هذا القائد غير ناجح! فلماذا على الفريق المعارض لاستمراره أن يخشى التصويت؟ فإن كان هذا القائد ينتمي إلى أقلية فإن التنافس الانتخابي أو التصويت هو أحد الآليات المعتبرة لإزاحته، وإن فشلوا في التوصل إلى إجماع رغم أقلية عصبة ذلك القائد، يصبح هذا الأمر دليلا على أنهم يفتقدون لمصداقية ما يدعوه، بل عليهم أن يجدوا في تسويق ما يؤمنون به.
الثانية: في المقابل على ذلك القائد الذي يصر على البقاء في السلطة نظراً لنجاحه واستثنائية إنجازه، في داروينية اجتماعية ترى أن البقاء للأقوى والأصلح انتخابيا أن يفهم أنه لم يعد ذلك الرمز، بل وضع نفسه في ميزان الانتخاب والاختيار، ولم يعد ذلك المجمع عليه، بل عرض أصحابه إلى فتنة التناحر على المنصب، في حين أن هذه الجهود كان الأولى بها أن تنصب على مشاريع وأهداف المنظمات في خدمة قضاياها النبيلة وخدمة شعوبها.
وهنا أستشهد بما سمعته من رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي، حيث اعترض بعضهم على تفرد الشيخ أحيانا باتخاذ الرأي قبل الرجوع إلى الشورى ورأي الجماعة، فقال: "القائد ليس وظيفته عد الأصوات، وإنما أن يتخذ القرار الذي يعتقد صوابه". وأضاف: "بعد ذلك رجعت إلى الشورى وقلت لهم إن تبين فساد رأيي، فليس عليكم أن تتمسكوا به بل ردوه واعتبروه غير نافذ".
وفي هذا تجدر الإشارة إلى أن كلفة خطأ القائد مركبة، فخطأه ليس كخطأ أي فرد آخر، فأهم وظائف القائد هي الحفاظ على البوصلة، فالواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب، فإن اجتمع الأمر على التبديل والتغيير فعلى ذلك القائد أن يرحل.
خلاصة الأمر، إن التداول والتجديد سنة قرآنية آمنة "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، خاصة إذا كانت المؤسسة قوية ولادة، وإن حالات القيادة الرمزية هي طفرة ثورية لا يمكن اتخاذها قانوناً وقاعدة عامة، فلهذا معايير وحسابات، يتصدرها النجاح والتطوير الخاضع لتقييم الجمهور الواعي المستنير وليس للتزييف، وإن كل حالة داخل الإجماع هي ضمانة. والفرد الفذ القوي الكارزمي يبقى بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إنك أنت الوهاب"