هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
خلال الأشهر القليلة الماضية، تصاعد الصراع بشكل غير مسبوق في شرق البحر المتوسط. العديد من الدول من داخل المنطقة وخارجها كانت محط اهتمام سياسي ودبلوماسي وإعلامي هناك. تركيا واليونان من الدول الرئيسية في الصراع، قبرص ومصر وإسرائيل ولبنان والسلطة الفلسطينية من الجهات الرئيسية المنخرطة أيضاً في النزاع هناك بطريقة أو بأخرى. علاوةً على ذلك، تعدّ ليبيا آخر الدول التي انضمت إلى التنافس الجاري على ترسيم الحدود وضمان الحقوق البحرية والثروات الطبيعية شرق البحر المتوسط والتي يُعتقد أنّها موجودة بكميات ضخمة تحت سطح البحر لاسيما النفط والغاز.
دول من خارج منطقة شرق البحر المتوسط برزت كذلك مؤخراً بانخراطها في الأزمة هناك ومحاولتها تصعيد الموقف أو تهدئته كالإمارات وفرنسا من جهة، وألمانيا من جهة أخرى، بالإضافة طبعاً إلى الولايات المتّحدة التي تحتفظ بمصالح كبيرة في المنطقة وتواجد عسكري كذلك. لكن ماذا عن روسيا؟ ليس هناك الكثير عن موسكو في الإعلام عندما يتعلق الأمر بمنطقة شرق البحر المتوسط والصراع الجاري هناك. لا يعني هذا أنّ روسيا غير موجودة، وإنما يعني بالضرورة أنّها لا تريد أن تكون مرئيّة.
في حقيقة الأمر، روسيا تمتلك أكبر احتياطي من الغاز في العالم، وهي ثاني أكبر منتج للغاز في العالم، وأكبر مصدر للغاز لأوروبا. تقليدياً، استخدمت موسكو الطاقة كسلاح سياسي في معاركها الخاصة، وهي تحاول الحفاظ على هذا الوضع مع أوروبا، حيث يتيح لها تفرّدها بتزويد القارة العجوز بأكبر كميّة من الغاز بأفضليات في أي نزاع مستقبلي مع الدول الأوروبية. وبالرغم من أنّ الأوروبيين يعلمون ذلك تماماً، إلاّ أنّهم لم يتمكنوا حتى هذه اللحظة من فك الارتباط بالغاز الروسي.
روسيا موجودة بقوة شرق البحر المتوسط لكنّها لا تريد أن تكون تحت الأضواء. روسيا تصدّر غازها عبر السيل الجنوبي إلى أوروبا، وهي واحد من أكبر المزودين لتركيا كذلك بالغاز بالرغم من أنّ أذربيجان قد تخطّتها مؤخراً لتحتل مكانها كأكبر مصدّر للغاز لتركيا. روسيا موجودة كذلك في قبرص واليونان من خلال الاستثمارات والقروض المالية للدولتين، لاسيما مع بروز نيقوسيا وأثينا كنقاط رخوة من الناحية المالية والاقتصادية في الخاصرة الأوروبية.
روسيا لا تزال تحافظ على موقعها الإستراتيجي وكذلك على حساباتها الخاصة بمصالحها شرق البحر المتوسط، وليس من المتوقع أن تتغير هذه الحسابات، أقلّه على المدى القصير وربما المتوسط.
روسيا موجودة كذلك في مصر على شكل استثمارات في قطاع الطاقة وحصص في حقل غاز "ظهر" الضخم، وهي موجودة في لبنان، حيث عبّرت شركات النفط والغاز الروسية عن نيّتها المشاركة في التنقيب عن النفط والغاز هناك. والأهم من كل ذلك، أنّ موسكو تسيطر فعلياً على أجزاء واسعة من سوريا وعلى النظام السياسي هناك، ومن المعلوم أنّ لسوريا الحق الآن أو لاحقاً بالمطالبة بترسيم حدودها والبحث عن موارد الطاقة فيها وإذا ما حصل ذلك، فلا شك انّه سيكون لروسيا الحصة الأكبر في البحث عن هذه الموارد إن لم يكن الحصّة كلها.
هذه تشير إلى أنّ روسيا موجودة بقوّة لكنّها لا تريد أن تجذب الانتباه إلى دورها بينما يخوض "الآخرون" صراعاً فيما بينهم شرق البحر المتوسط. الصراع مفيد بشكل أو بآخر لروسيا ومصالحها في المنطقة. على سبيل المثال، روسيا ليس لديها مصلحة في المضي قدماً في أنبوب شرق المتوسط الذي من المفترض أن ينقل الغاز من شرق حوض البحر المتوسط إلى أوروبا، ولذلك فإنّ موقف تركيا والاتفاق التركي ـ الليبي مفيد لها في هذا الجانب.
في المقابل، فإنّ الضغط الأوروبي المتصاعد على تركيا شرق البحر المتوسط والنزاع التركي ـ الأوروبي يعدّ مفيداً كذلك لموسكو لأنّه يزيد التوتر بين الطرفين ويدفع أنقرة في نهاية المطاف بشكل أكبر باتجاه أنقرة لموازنة الأوروبيين والأمريكيين ولأنّه يقوّض كذلك من وحدة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهذا أمر مهم بالتأكيد بالنسبة إلى حسابات روسيا الاستراتيجية في المنطقة.
هل ستقوم موسكو بتسليط الضوء على دورها في شرق البحر المتوسط بشكل أكبر؟ لا أعتقد ذلك، لأنّه لا يوجد مصلحة لروسيا في أن توحّد الأطراف الأخرى ضد أي دور صاعد لها في المنطقة، ولهذا السبب بالتحديد تفضّل الاعتماد على استراتيجية هادئة وطويلة الأمد وتمكّنها من أن تضع أيديها على صمّامات الغاز في كل مكان للحفاظ على موقعها والأفضليات التي تتمتع بها لناحية سيطرتها على إمدادات الغاز إلى أوروبا.
وبالرغم من حصول بعض التطورات السلبية مؤخراً، كحلول أذربيجان مكان موسكو كأكبر مصدّر للغاز إلى تركيا، وانخفاض اعتماد أنقرة على الغاز الروسي، ومحاولة الأوروبيين زيادة الاعتماد على الغاز المسال الأمريكي الذي يتم إيصاله من خلال الناقلات العملاقة عبر البحر، إلاّ أنّ روسيا لا تزال تحافظ على موقعها الإستراتيجي وكذلك على حساباتها الخاصة بمصالحها شرق البحر المتوسط، وليس من المتوقع أن تتغير هذه الحسابات، أقلّه على المدى القصير وربما المتوسط.