"علينا الانتقال من قراءة كتاب "رجال حول الرسول" إلى قراءة "المقدمة" لابن خلدون".. هكذا ختم أحد
قيادات حركة النهضة التاريخيين لقائي معه ذات جلسة حوارية بمقهى.
هذه الجملة مهمة جدا ومدخل منهجي لكل من يشتغل في الفكر السياسي، ولمن يهتم بفهم ما يعتمل داخل
الأحزاب والحركات من جدل واختلاف وتنافس وخصومات وتقريب وإبعاد وتكتلات وغيرها من أشكال التفاعل والجدل.
كتاب "رجال حول الرسول" لمؤلفه خالد محمد خالد يعطي - في الغالب - انطباعا بكون الأصحاب والمريدين والرفاق هم "فيْضُ" القائد وبعضٌ من ذات الزعيم؛ لا يختلفون عنه ولا يعترضون عليه، وليست لهم ملامحهم ومصالحهم وميولاتهم الخاصة المعبرة عن بشريتهم؛ بما هي أمزجة وطبائع ورغبات وانفعالات، رغم أنهم في الحقيقة كانوا يناقشون ويسألون قبل إبداء الرأي إن كان ما يسمعونه وحيا أم وجهة نظر محمد بن عبد الله في لحظته البشرية البشرية، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعترض على اجتهاداتهم ومواقفهم الخاصة، إنما كان يستمع إليهم، وقد يجيبهم، وقد يأخذ ببعض وجهات نظرهم، وقد يسكت في انتظار نزول الوحي بالإجابة.
كتاب "المقدمة" لابن خلدون يوسع دائرة الفهم ويُجَهّز قارئه بآليات جديدة في التحليل والفهم والاستنتاج؛ حين ننزل السياسة ضمن مشغل علم الاجتماع، وحين ننظر للعلاقات داخل الأحزاب والجماعات بخلفية "العصبيات" التي لا تصنعها العقيدة عادة؛ وإنما الانتماءات الجهوية والقبلية والمصاهرة وحتى "المغانم" المرتبطة بـ"الغلبة".
السياسة ليست نشاطا تبشيريا ولا يمارسها عادة أصحاب الفكر والنظريات الجميلة، إنما يتحكم بها من بين أيديهم الثالوث الرهيب: المال والإعلام والمعلومة.
- كثير من الإسلاميين يخشون الحديث عن وجود
خلافات داخل حركة النهضة، فيسارعون إما إلى نفيها وإما إلى التحذير من سوء عواقبها، بدل أن يعتبروا الأمر عاديا ومنتظرا في كل عمل بشري جماعي، بل إنه ضروري لتحقيق التدافع المولد للتطور والابتكار والمحفز على التجدّد والتفوق.. الخِشية تلك مردها النظرة الطهورية لـ"الجماعة" التي أصبحت تُسمى "حزبا" أو "حركة"، وما ينبغي أن يسود فيها من السمع والطاعة ومن الوفاء بـ"البيعة" تماما كما كان يفعل "رجال حول الرسول" صلى الله عليه وسلم، أو كما تقتضي نواميس الثكنات من تطبيق التعليمات.
- وفي الجانب الآخر، فإن كثيرا من المراقبين يسعدون لأية معلومة عن وجود خلاف داخل الإسلاميين، فيُسارعون إلى إشاعتها والنفخ فيها وتحريك الأنفس والأذهان وإجراء الحوارات، ولفت انتباه القراء بعناوين لافتة - وفي الصفحات الأولى - لا تُحيل عادة لمضمون قول الشخصية السياسية ذات وجهة النظر المختلفة.
هؤلاء الذين ينقدون عقلية وسلوك "القطيع" هم أنفسهم من يستثمرون في الاختلافات بين الإسلاميين؛ يقدمونها كما لو أنها كارثة أو معرّة، أو كما لو أنها مقدمة من مقدمات انهيار الحركة وتشتت مناضليها وقياداتها. وإن كثيرا من هؤلاء إنما يعبرون عن أمانيهم هم، ولا يكتفون بتحليل الوضعيات تحليلا علميا موضوعيا كما يفعل عادة مراقبو الظواهر الاجتماعية، بما فيها "الظواهر" السياسية وما يحكمها من آليات هي من طبيعة البشر وتطبيقات "الوعي" وليست من تعاليم "الكتاب" أو من ترجمات "الوحي".
حركة النهضة تشهد تفاعلات كبرى أنتجتها مفاعيل الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وما يزخر به "الزمن السياسي" العربي خاصة من تناقضات وما يفتح عليه من احتمالات يتساوى فيها الأمل والتشاؤم ويتداخل فيها الاطمئنان والخوف، ولا أحد يُمسك بناصية الحاضر أو يتشوّفُ بشائر القادم.
ستكون تجربة رائدة في الديمقراطية المعاصرة لو أن الاختلافات داخل حركة النهضة تخرج من التهامس السري لكي تُدار في منتدى للفكر السياسي والاجتماعي، بما يعمق الوعي ويُكسب دُربة على إدارة
الخلافات ويوسع دائرة الرؤية، ويفتح على مستقبل للحركة وللبلاد كلها أكثر أمانا وأقل تخوفا من
الصراعات "المُدَمِّرة".
الخلافات عادة تكون منتجة للأسئلة ولتعدد الأفكار وتفتح مجالات للحوار والنقاش، وتوسع دائرة المهتمين بالفكرة أو الرؤية أو المشروع ما يُمكّن من التطور والإبداع والإضافة وما يسمح بكشف النقائص والعيوب، وهو ما يخدم المصلحة الحزبية والوطنية.
الخلافات تتحول إلى معوقات حين يسيء المختلفون إدارة خلافاتهم، وحين يتخلون عن العقل ويتيهون في التنقيب عن النوايا ويعتمدون أساليب التخوين والتجريم والتشويه. ومثل هذه الأساليب مدمرة للعلاقات الإنسانية وللوشائج الاجتماعية ومورثة للأحقاد والكراهية وردات الفعل، فالسياسيون ليسوا إلا أفرادا في مجتمع لهم أهلهم وأصدقاؤهم وشركاؤهم في المصالح أيضا، وكل معاداة لفرد تتناسل عنها عداوات مع دائرة أصدقائه وأحبائه وشركائه.
يمكن لحركة النهضة (الحزب الأكبر في
تونس) أن تستفيد من تعدد وجهات النظر داخلها اليوم فتخرج أكثر قوة وأوسع تأثيرا وأبعد نظرا، بما يخدم المصالح الوطنية وبما يسد منافذ التسلل الخارجي للعبث بالسلم الأهلي والمسار الديمقراطي، كما يمكنها الاستفادة من وجهات نظر العديد من المفكرين وصناع الرأي من تونسيين وغير تونسيين - وقد كتب الكثير منهم في المسألة - ممن يخشون على التجربة التونسية ويعتبرونها رائدة في التجريب الديمقراطي وفي تطبيع الحركات الإسلامية مع الدولة ومع مؤسسات الحكم.
twitter.com/bahriarfaoui1