يحتفل العراقيّون في الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر باليوم السنويّ لمدينة
بغداد!
بغداد هي مدينة السلام والزوراء والمدينة المدوّرة، مدينة الحضارات والعلم والرقيّ الفكريّ والنقاشات العمليّة والأدبيّة والجامعات والمتاحف والمدارس والشعر والمقاهي الشعبيّة والأسواق!
يذكر المؤرّخون أنّ بغداد بناها الخليفة العبّاسيّ أبو جعفر المنصور، وابتدأ بذلك سنة 141 هجرية، ونقل إليها البناة والحذّاق والصنّاع من جميع البلدان، وجعلها مدوّرة، وانتهى من بنائها بعد أربع سنوات، وجعل لها أربعة أبواب: باب الكوفة، وباب البصرة، وباب خراسان، وباب الشام.
وبغداد ليست مجرّد مدينة فحسب، فبغداد مدينة العلم والعلماء، والفضل والفضلاء، والسلام والبهجة، ومع ذلك فهي مدينة الصمود والألم والتحدّي!
وحينما نتحدّث عن مراحل الألم في بغداد، فهي متنوّعة، ويمكن أن نذكر أسوأ مرحلتين، وهما:
1- الغزو المغوليّ: يُعدّ الغزو المغوليّ لبغداد (سنة 656 هـ/ 1258م) من المراحل الساحقة للإنسانيّة في
التاريخ، وكذلك الخطوة الأولى لسقوط الخلافة العبّاسيّة.
وقد اختلف الناس في أعداد الذين قتلوا في بغداد خلال الغزو المغوليّ فقيل: 800 ألف نفس، وقيل: "ألف ألف و800 ألف" (1.8 مليون).
ويقول ابن كثير الدمشقيّ في كتابه البداية والنهاية: "ولما وانقضت الأربعون يوماً، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا القتلى في الطرقات كأنّها التلول، وتغير الهواء، فحصل بسببه الفناء والوباء الشديد، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون"!
ومع جميع جرائم القتل، أحرق المغول مكتبات بغداد العامرة بأمّهات الكتب في العلوم الشرعيّة والعقليّة والفكريّة.
2- الاحتلال الأمريكيّ: تُعتبر مرحلة الاحتلال الأمريكيّ في العام 2003 وما بعدها من المراحل القاسية والمظلمة في تاريخ
العراق الحديث.
وقد راح ضحيّتها أكثر من مليون مواطن، وأصيب مئات الآلاف بعاهات دائمة، وأمراض مزمنة، ونفسيّة، وعانى الملايين من التهجير والتخويف والظلم في المعتقلات
وربّما يمكن القول إن هنالك بعض الصور المتشابهة بين المرحلتين، ومنها:
أ. تدمير الدولة، وضياع هيبتها وتغليب سلطة السلاح المنفلت خارج إطار القانون.
ب. قتل أكثر من مليون بريء بدم بارد، وانتشار عصابات القتل والاختطاف والسلب والنهب وضياع مفهوم الأمن والنظام وفقدان قيمة الحياة والإنسان.
ج. حرق غالبيّة الممتلكات العامّة، والصروح العلميّة والفكريّة والدينيّة.
د. محاولة إشعال الفتن المذهبيّة والعرقيّة.
ومع كلّ هذه المآسي لا تذكر بغداد اليوم إلا ويذكر معها الجامعة المستنصريّة (بناها الخليفة العبّاسيّ المستنصر بالله سنة 1233م/ 630 هـ)، والمتحف العراقيّ، ونصب الشهيد، ومتحف التاريخ الطبيعيّ، والمتحف البغداديّ، والمتحف الوطنيّ للفنّ الحديث، وساحة التحرير، ونُصب الحرّيّة، وشهرزاد وشهريار، وكهرمانة وغيرها العشرات من المعالم!
وبغداد مدينة المساجد والجوامع: الإمام أبي حنيفة النعمان، وموسى الكاظم، والخلفاء، والحضرة القادريّة، ومرجان، و17 رمضان، وجامع أمّ الطبول، وغيرها العشرات من الجوامع التراثيّة والتاريخيّة!
وهي مدينة الأسواق العتيقة: سوق الصفّارين (لبيع الأواني النحاسيّة)، سوق الغزل (لبيع الطيور والحيوانات الأليفة)، سوق هرج (لبيع الأدوات المستعملة)، سوق السراي (لبيع القرطاسيّة واللّوازم المدرسيّة) وغيرها الكثير.
بغداد مدينة الشوارع التاريخيّة: الرشيد الذي يُعدّ من أقدم شوارعها، والمتنبّي المعروف بالمكتبات التي تتوفّر فيها الكتب التراثيّة والحديثة، وشارع أبي نؤاس وغيرها من الشوارع المليئة بالحياة والجمال.
بغداد مدينة المقاهي الشعبيّة، ومن أشهرها مقهى "خان جغان"، وافتتح منتصف القرن السادس عشر الميلاديّ، ومقهى الشاه بندر بشارع المتنبّي الذي يُعدّ مقراً ومنبراً للنقاشات الفكريّة والأدبيّة للأدباء العراقيّين والأجانب، فضلاً عن العديد من المقاهي الكبيرة الأخرى ومنها: حسن عجمي، الزهاوي، وغيرهما!
بغداد مدينة نهر دجلة، ولياليها الساحرة، ومطاعم السمك المسقوف، والقيمر (القشطة) والكاهي (حلويّات) وغيرها العشرات من الأكلات العراقيّة اللذيذة.
ومع كلّ هذه الصور المليئة بالحياة نجد أنّ بغداد الحضارات تذكر اليوم، مع الأسف، من ضمن المدن الأكثر خراباً ودماراً في العالم، وفي آذار/ مارس 2019 ذكرت مؤسّسة "ميرسر" العالميّة للاستشارات أنّ "بغداد تذيلت قائمة أفضل المدن معيشة في العالم للعام الحادي عشر على التوالي"!
واقع حال العراق مرير، ولكن ورغم كلّ المآسي والآلام، ستنهض بغداد من جديد، وستعود النابضة بالحياة والعلم والمعرفة والتعايش والسلام والجمال، وستثبت الأيّام أنّ الساعين لخرابها قد خابوا وخسروا، لأنّها مدينة تأبى السقوط، أو الهزيمة!
twitter.com/dr_jasemj67