كتب

الميديولوجيا والخلفية الأنثروبولوجية.. قراءة معاصرة

عبد السلام الزبيدي: إذا كانت الفلسفة بحثا في الكلّيات فإنّ الميديولوجيا تبحث جوهريّا في الإنسان العاقل- (عربي21)
عبد السلام الزبيدي: إذا كانت الفلسفة بحثا في الكلّيات فإنّ الميديولوجيا تبحث جوهريّا في الإنسان العاقل- (عربي21)

الكتاب: "الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه: فلسفة الإنسان المُبلّغ"
المؤلف: عبد السلام الزبيدي
النّاشر: الدّار المتوسّطيّة للنشر
الطبعة لأولى: 2019
عدد الصفحات: 179

على أهمية فلسفة ريجيس دوبريه، واضع مصطلح "الميديولوجيا" منذ سنة 1979، وصاحب مشروع متكامل "يدرس كيف تمّر الثقافة وتتأثر بالوسائط التقنية والمؤسساتية التي تحملها بخلفيّة أنثروبولوجيّة تبحث الوضع الميديولوجي للإنسان، وتكشف عمّا أسماه بزمان اللاّوعي الدّيني، باعتباره الثابت الوحيد في السياسة"، والذي عمّده في كتابه: "درس في الميديولوجيا العامة"، بداية تسعينيات القرن الماضي، فإن المكتبة العربية، وإلى حدّ نهاية العشرية الثانية من القرن الحالي، ظلّت تفتقر لأي مبحث مختص في الميديولوجيا.
 
ولا يزال القارئ العربي، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، قانعا بترجمة المذكّرات النّضاليّة لدوبريه في أمريكا اللاتينيّة، يوم كان رفيق السلاح لتشي غيفارا وفيدال كاسترو، ثم مكتفيا بترجمة مؤلفاته "العقل السياسي" و"محاضرات في علم الإعلام العام" (1991) و"حياة الصورة وموتها" (1994). كما لم يتجاوز اهتمام الدراسات الجامعيّة العربيّة بمبحث الميديولوجيا، بوصفها منهجا لدراسة وسائل الإعلام والتواصل أو وسائط الإبلاغ أو منزلة الصورة في الميديا الجديدة، مربع الدراسات التطبيقية. وظلّت تعتريه فلجة كبيرة تتعلّق بالبحوث في الميديولوجيا ذاتها "كحقل بحث أو كورشة نقديّة كما عرّفها ريجيس دوبريه ذاته".

في هذا الإطار يتنزّل كتاب "الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه: فلسفة الإنسان المبلّغ"، الذي يستقي أهميّته البالغة من كونه أوّل كتاب أكاديمي بحثي متعدد الأبعاد، في اللغة العربية، يعتني بفكر ريجيس دوبريه Régis Debray، وفق تأكيد أ.د. نور الدّين النيفر، الذي أشرف على تأطير البحث (موضوع هذا الكتاب) في مرحلة الماجستير في الفلسفة بالجامعة التونسية.

وقد اجتهد المؤلف عبد السلام الزبيدي، الإعلامي والباحث في الفلسفة بالجامعة التونسيّة، على مدار أبواب الكتاب الثلاثة بفصولها التسعة وتفريعاتها الجزئيّة، في عرض الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه Régis Debray، الفيلسوف والمناضل اليساري رفيق تشي قيفارا وفيدال كاسترو وصاحب كتاب "ثورة في ثورة"، من بداياتها الجنينيّة إلى استوائها في ما يشبه النسق. ويقول الزبيدي أنّه قدّم فكر دوبريه بطريقة نسقية لدواعي منهجيّة وبيداغوجيّة أوّلا ولتوفّره ثانيا على خصائص النسق.

بناء الكتاب

ينفتح كتاب "الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه: فلسفة الإنسان المُبلّغ" للإعلامي والباحث التونسي عبد السلام الزبيدي على أبواب ثلاثة: ما الميديولوجيا؟ ثم أركانها وأخيرا تطبيقاتها العمليّة. وينقسم الباب الأوّل إلى فصول ثلاثة: حاول خلالها المؤلف تأصيل البحث والتنقيب عن أصحاب السبق الذين اشتغلوا على مجالات الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ثم أتى على عرض العقبات الميديولوجيّة الأساسية التي أثارها ريجيس دوبريه وأسماها بـ"التنّينات الخمسة" باعتبارها وقفت حائط صدّ أمام إمكان تأسيس "علم" أو "خطاب" ميديالوجي. 

وقد لخّص دوبريه هذه العقبات الخمسة المذكورة في: الثنائية الكونيّة والروحانية المعادية للتقنية والنزعة الإنسانية التبريرية وفردانيّة المثقفين والنزعة التحديثيّة. ثمّ خصّص الفصلين التاليين من هذا الباب الأوّل ل،"التشبيه أو تقنية التقريب" من أجل تقريب مفهوم الميديولوجيا وخصائصها ومهامها إلى الأذهان. وهي مهام بيداغوجيّة بالأساس، و"للتعريف السالب" من أجل استبعاد كل ما من شأنه أن يوقع مفهوم الميديولوجيا للالتباس أو "الغلط والوهم".

كما ينفتح الباب الثاني من الكتاب، والخاص بتحديد أركان الميديولوجيا، على ثلاثة فصول: "الاتصال والإبلاغ" و"التحقيب" ثم مسلّمة عدم الاكتمال واللاوعي الدّيني". فيما يخصّ هذا الأخير، يذكر الزبيدي أنّ دوبريه قد أشار في كتابه "نقد العقل السياسي"، الصّادر سنة 1981، أنه ينقل "مجموع النواة الصّلبة الخاصّة باللغز السياسي على رقعة الوساطة" إنه سرّ العلوم المتعلّقة بـ"الميديولوجيا". مستخلصا بذلك دور اللاّوعي الدّيني في تأسيس التجمّعات السياسيّة الاجتماعيّة. 

 

إذا كانت الفلسفة بحثا في الكلّيات فإنّ الميديولوجيا تبحث جوهريّا في الإنسان العاقل بما هو مبلّغ، أي في ما يميّزه عن الحيوان. وأنه إذا كانت الفلسفة خلقا للمفاهيم، فإنّ أهم ما يميّز الميديولوجيا هو القدرة على نحت الكلمات وضخّها بدلالات تحوّلها إلى أجهزة وأدوات تفكّك الظواهر والعقائد والأساطير والإيديولوجيّات والأفكار. ومن بين هذه المفاهيم الميديولوجيا نفسها والإبلاغ والمدارات الميديولوجيّة.

 



فالميديولوجيا باعتبارها "مبحثا علميّا خاصّا" فهي تنظر في اللغز السياسي وجوهره غير المعلن أي "اللاوعي الدّيني". ويشير الزبيدي في هذا الخصوص إلى أنّ مسلّمة عدم الاكتمال التي اعتمدها دوبريه تتأسس على أنّ "أيّ مجموعة إنسانيّة لا يمكن أن تتكوّن دون الدّيني". وهو ما جعله يقرّ بأنّ "الضرورة التي لا مفرّ منها للعامل الديني" في تأسس الجماعات الإنسانيّة.

في الباب الثالث من الكتاب والذي خصصه الزبيدي لشرح تطبيقات الميديولوجيا، نقرأ ثلاثة فصول: "التجسّد والماركسيّة"، "النظر والصّورة أو الرّؤية الجماليّة للعالم" ثم "وسائل الإعلام والنظر الميديولوجي". 

ويشرح الزبيدي ما أسماها بقصّة الخذلان الميديولوجي التي تنطلق من لحظة تعريف دوبريه للماركسيّة ذاتها. فماركس عند دوبريه هو "المجموع المثالي للنصوص المدموغة باسم هذا العلم" وأن الماركسيّة هي "مجموع الممارسات والمعتقدات والتصوّرات التي تجمّعت واستندت إلى ذلك الإسم". ممّا يجعل ماركس نتاجا للماركسية وليس العكس. وبالتالي فإنّه "من حيث الجوهر الماركسيّة نسق اجتماعي وسياسي يخضع لمنطق العقائد والمذاهب باعتبارها عامل إضفاء اللحمة والتماسك على التجمّع البشري الذي يروم أن يكون مجتمعا أو أمّة أو دولة". 

وبعبارات أخرى يمكن القول إنّ العقل السياسي بإطلاق له ثابت يتمثّل في اللاّوعي الدّيني. وأي نسق اجتماعي وسياسي يعلن عن نفسه ماديّا أو ملحدا لن يكون أمامه إذا أراد الحفاظ على استمراريّته إلاّ السير في الطريق الدّينية.

وأتى عبد السلام الزبيدي خلال هذا الباب الثالث على ما خلص إليه ريجيس دوبريه من أنّ "ماركس لم يفهم شيئا عن الدّين ومع ذلك أورثنا دينا. لقد أصبح ماركس عكس ما أراد تماما، إنّه مؤسس دين مفتوح للفقراء والمضطهدين". وهو ما جعله يثني على صحّة اكتشافات أوغست كونت حسب رأيه.

مدخل مهم للمتخصصين في الإعلام والخطاب السياسي
 
يرى أ.د نور الدّين النيفر، مدير سابق للمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس أنّ الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه، يعدّ مدخلا لمبحث الميديولوجيا في زحام النظريّات المتعلقة بطبيعة المعرفة ووسائطها ووظائفها في زمن ثورة تكنولوجيات المعلومات. وهو يشكّل مدخلا للمتخصصين في الإعلام والخطاب السياسي والمحللين لبنيان الفكر في القرن الواحد والعشرين. وأنّ الكتاب يجمع ريادة في تحليل خطاب ريجيس دوبريه، وفي ريادة عمل جدّي بالمعايير الجامعيّة لمفكّر من قامات الفكر النقدي والإلمام الموسوعي".

وتتمثل إشكاليّة الكتاب المركزيّة في الإجابة على سؤال: "لماذا عجز من جعل من اقتفاء آثار الأساطير والعقائد والأفكار والإيديولوجيات ومسارات انتشارها وانتهائها موضوعا لـ"مبحثه" أو "علمه" أو "ورشته" أو "فلسفته" عن تقديم تصنيف علمي أو فلسفي واضح ودقيق لمدوّنته وحقله؟"

النشاط الاتصالي والإعلامي وتطبيقات الميديولوجيا

يقول الزبيدي أنّه إذا كانت الفلسفة بحثا في الكلّيات فإنّ الميديولوجيا تبحث جوهريّا في الإنسان العاقل بما هو مبلّغ، أي في ما يميّزه عن الحيوان. وأنه إذا كانت الفلسفة خلقا للمفاهيم، فإنّ أهم ما يميّز الميديولوجيا هو القدرة على نحت الكلمات وضخّها بدلالات تحوّلها إلى أجهزة وأدوات تفكّك الظواهر والعقائد والأساطير والإيديولوجيّات والأفكار. ومن بين هذه المفاهيم الميديولوجيا نفسها والإبلاغ والمدارات الميديولوجيّة.

 

إنّ العقل السياسي بإطلاق له ثابت يتمثّل في اللاّوعي الدّيني. وأي نسق اجتماعي وسياسي يعلن عن نفسه ماديّا أو ملحدا لن يكون أمامه إذا أراد الحفاظ على استمراريّته إلاّ السير في الطريق الدّينية.

 



في ذات السياق يرى الزبيدي أنّ الميديولوجيا في بعض وجوهها "فلسفة للتاريخ" رغم نفي دوبريه، ذلك أنّ المدارات الميديولوجيّة الثلاثة وخصائصها ومميزاتها تحمل في طيّاتها رؤية فلسفيّة. بل أنّ ميديولوجيا دوبريه وفق رأيه تمثل فلسفة بامتياز. ويمكن أن تتقاطع تطبيقاتها مع مجالات بحث عديدة، مثل الفلسفة والسياسة واللسانيات والأدب، لسبب بسيط ولكنه جوهري، وهو أنّ موضوعها وسؤالها المركزي هو الإنسان المُبلّغ. ويشمل البلاغ كلّ أوجه النشاط الإنساني بما في ذلك النشاط الاتصالي والإعلامي الذي تبرّأ من أن تكون الميديولوجيا علما خاصّا به، إنّما هي جزء من مواضيعه. "إنّه عالم اليقين فيه تصديق وتكذيب أمّا الصّواب والخطأ فهما خارج هذه المملكة".

خلق أنماط جديدة من التفكير

ترتبط الإجابة على السؤال الذي تطرحه إشكالية الكتاب المركزيّة بمستوى ذو صلة بـ"الوسط" بالمعنى الميديولوجي، حيث تتسم البيئة الفلسفية والفكرية التي أنتج فيها دوبريه الميديولوجيا بأنّها لحظة تحطيم الأنساق وتجاوزها وخلق "أنماط جديدة من التفكير" غير النسقي بل المحطّم للأنساق ومقولاتها المؤسسة وخلفياتها المعرفيّة والأنثروبولوجيّة.

قدّم ريجيس دوبريه أمثلة عديدة في تأثر المنظومات الفكريّة بوسطها، وقراءة ميديولوجيا ريجيس دوبريه وفق زاوية النظر الميديولوجيّة تؤدّي إلى القول بأنّ المدار المرئي الذي أنتج خلاله دوبريه "طريقته في التفكير" تلفظ الأنساق، إنّه زمان تذرر الوعي وليس عصر المنظومات الفكرية النسقيّة.

يقول عبد السلام الزبيدي: إن الميديولوجيا يمكن أن تطبّق كمنهج لدراسة الأدب العربي أو منزلة الصورة أو وسائط الإبلاغ والنقل مثل المنبر أو المسجد أو وسائل الإعلام والتواصل، وهنا نجد عديد الباحثين الذين اهتموا بهذه القضايا مثل صادق الحمامي وعادل خضر وسعاد العالمي وغيرهم. 

الخلفية الأنثروبولوجيّة لفلسفة دوبريه

يؤكّد عبد السلام الزبيدي على أنّ الميديولوجيا التي عمّدها دوبريه تعتمد خلفيّة أنثروبولوجيّة وتبحث الوضع الميديولوجي للإنسان. فبعد دراسة الإنسان العاقل والمتكلّم والراغب والحاكم والمحكوم حاول دوبريه دراسة الإنسان باعتباره الكائن الوحيد القادر على نقل الثقافة وإبلاغها، "إنّه الكائن الوحيد الذي يعيش داخله الميّتون".
 
في ذات السياق، يؤكد الزبيدي على أن فلسفة دوبريه تكشف عن "الثابت الذي لا يتغيّر في الإنسان وفي العقل وفي السياسة، أي زمان اللاّوعي الدّيني والإنسان المشروط بوسائله التقنيّة التي تصنعه وتغيره وتتحكّم فيه في الوقت الذي يخال أنّه قد زوّدها بما يشاء، والحديث هنا يمتدّ من الصحيفة إلى القنبلة الذريّة".

ويشير الزبيدي إلى أنّ الباحثين الذين سبقوه قد استعملوا مصطلح النقل في حين استخدم هو مصطلح البلاغ وقدّم مسوّغات ذلك. والبلاغ عند دوبريه جزء من فلسفة الإنسان المبلّغ، وعنده هو مدخلا لقراءة النص الأكبر المؤسس لذواتنا العميقة، أي القرآن، باعتباره بلاغاً. وهذا مشروع لا يزال بصدد الاشتغال عليه. ويضيف الزبيدي بالقول أنّ النقد عند دوبريه مساو في المعنى للنقد الكانطي، فهو بيان للحدود وضبط لشروط الإمكان.

التعليقات (0)