قضايا وآراء

منهج القرآن في قراءة التاريخ الإنساني

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
من اللافت في القرآن العظيم الحضور المكثف لقصص التاريخ. ومع أن القرآن لا يمكن وصفه بأنه كتاب "تاريخ" لأن هذا الوصف يصرف الانتباه عن رسالته الحية المتجددة في كل زمان، إلا أن من الطبيعي إفراد مساحة كبيرة لقصص التاريخ فيه، كون التاريخ هو ميدان الفعل الإنساني الذي تتجلى فيه العواقب والمصائر وتثبت الأقوال والأفعال صدقها أو كذبها.

ولمَّا كان القرآن كتاب هداية للناس يرشدهم إلى الهدى والقسط والصلاح ويحذرهم من عاقبة الضلال والظلم والإفساد في الدنيا قبل الآخرة، فإن قصص التاريخ تأتي في سياقها الطبيعي لتقديم الأمثلة العملية تصديقاً للمعاني النظرية، فالإنسان كائن شديد الغفلة سريع النسيان، وأكثر الناس لا يصدقون بالحق مهما قام عليه من برهان إلا حين يرون تحقيقه، مثل حال بني إسرائيل الذين لم يؤمنوا إلا والجبل واقع بهم:

- "وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ"، وهو حال أكثر الناس: "لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ".

تهدف قصص التاريخ في القرآن إلى تحريك دواعي العظة في النفس، وإبرائها من الكبر والغفلة والغرور الذي يوهمها بأنها غير مسبوقة في ذكائها وقدرتها، حتى يخيل إليها أنها بداية التاريخ ونهايته، فيضرب القرآن أمثلة السابقين ليعيد النفس إلى حجمها الطبيعي وأنها ليست أكثر من حلقة في سلسلة متتابعة من الأمم التي ولدت وعاشت ثم ماتت، وأن هناك من عمَرَ الأرض قبلها وظن أن لن يقدر عليه أحد لكن سنن الفناء قهرته وكسرت كبره:

- "وما هي من الظالمين ببعيد".

- "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"..

- "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا".

- "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً".

وكما أن قصص التاريخ عظة للظالمين فإنها سلوى للرسول والمؤمنين الصالحين، فالمؤمن إذا رأى آيات الله زادته إيماناً وطمأنينةً لأن ذلك يشعره بأنه ليس وحيداً في غربته الروحية، فإذا خذله قومه وأبناء عصره التمس العزاء من إخوان الإيمان عبر الزمان، وإذا طغت أمواج الظلم أنقذته رؤية التاريخ من الاستكانة لشدة اللحظة، ورأى مصائر السابقين وعاقبة المتقين فعلم أن ابتلاء اليوم هو لحظة عابرة ستمضي وأن العاقبة للمتقين:

- "وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكرى للمؤمنين".

- "وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ".

* * *

إذا قلنا إن القرآن كتاب مليء بقصص التاريخ، فإن من المهم ضبط مفهوم هذا القول، حتى لا يحيد الناس عن مقصد القرآن ويستنطقونه بما لم ينزل من أجله.

ما هي الخصائص التي تميز تناول القرآن للتاريخ الإنساني؟

التاريخ تحكمه قوانين وليس أحداثاً عشوائيةً

من المعاني الأساسية التي يتسم بها المنهج القرآني في معالجة التاريخ الإنساني هو أن التاريخ ليس أحداثاً عشوائيةً متناثرةً لا رابط بينها، وقد جرت عادة المؤرخين القدامى على سرد قصص التاريخ دون تفطن لربط المقدمات بالنتائج أو استقراء قوانين ناظمة.

وكي ندرك أهمية الانتقال من قراءة التاريخ بالطريقة السردية الكمية إلى تبيان السنن الناظمة لأحداثه والتعامل معه بأنه حقل مترابط يمكن تحليله وفق القوانين، نستعين بشهادة المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي بحق العالم المسلم ابن خلدون، إذ وصف توينبي مقدمة ابن خلدون في فلسفة التاريخ بأنها أروع إنجاز من نوعه أبدعه عقل في أي زمان أو مكان!

لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، ولذلك عرف توينبي بقيمته الفكرية العظيمة فضل أفكار ابن خلدون، فقد كان سابقاً في ملاحظة أن هناك قوانين تحكم حركة التاريخ والاجتماع البشري، وهذا هو المعنى الذي يتجلى بوضوح في القرآن.

معرفة أن التاريخ يخضع للقوانين تحرر العقل من العبثية ومن قيود الحتمية، فلا شيء يحدث بدون مقدمات، ومن عرف القوانين فقد امتلك سلطة تسخيريةً لأنه سيصير قادرا على رصد بوادر الخلل ومعالجتها قبل تراكمها؛ لأنه قد قرأ سير السابقين وعلم من أين كان هلاكهم، وعلم أن هذه القوانين ثابتة لا تتبدل:

-" قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ".

- "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً".

لا يقاس الوعي التاريخي بحفظ قصص التاريخ وأحداثه وسردها في مجالس السمر، بل يقاس بفهم القوانين المتكررة خلف الأحداث والانتفاع من تجارب السابقين بتجنب أخطائهم.

وقد تجسّد الوعي التاريخي في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان متيقظا لأي بادرة تؤشر على اتباع سير السابقين الذي انتهى بهلاكهم، وذلك لأن الانحرافات الكبيرة تبدأ بداياتٍ صغيرةً فإذا استهانت بها الأمم تعاظمت.

يروي أحد الصحابة الذين تأخروا في إسلامهم أنهم مروا بِسِدْرَةٍ يعكف عليها قوم، فقالوا: يا رسول الله، اجْعَل لنا ذاتَ أنْواطٍ كَما لهم ذاتُ أنْواطٍ، فقال رسول الله: "الله أكْبَرُ! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كَمَا قَالتْ بَنُو إسْرائيلَ لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قال إنكم قوم تجهلون﴾. لترْكَبُنَ سَنَنَ منْ كان قبْلِكُمْ".

كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم متيقظا روحيا وفكريا، فعلم أن قصص بني إسرائيل التي يكررها القرآن لا يقصد بها إدانة السابقين وحسب، أو منح المؤمنين شعورا بالأفضلية، بل يقصد منها التفطن إلى السنن التي اتبعوها فضلّوا؛ والحذر منها.

إبطال وهم الاستثنائية

ويبنى على معرفة أن هناك قوانين ثابتةً تحكم التاريخ الإنساني إبطال وهم الشعور بالاستثنائية. وقد جرت عادة الأمم والشعوب والقبائل أن تغذي شعورها بالتميز على الآخرين، ولا تكاد تخلو أمة من عربٍ وعجمٍ وتركٍ ورومٍ وفرسٍ وروسٍ من أدبيات تؤكد فضائلها الاستثنائية التي ليست لأمة غيرها واستعصاءها على الأقدار.

لكن القرآن بسلطته الإلهية كونه منزلاً من رب العالمين وليس رب أمة أو شعب دون غيره، فإنه يؤكد أن لا محاباة لأحد وأن الجميع هم بشر ممن خلق، وأن كل الناس يعذبون بذنوبهم دون تمييز ولا اعتبار لادعاء "نحن أبناء الله وأحباؤه":

- "وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وأحباؤه قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ"..

"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً".

* * *

الاقتصاد في التفاصيل الظرفية والتركيز على الموعظة

يحب الناس الحكواتي لأنه يغذي خيالهم بطرائف القصص وغرائب الأخبار، وقد نحا المؤرخون قديماً هذا النحو في تدوين التاريخ، فحرصوا على قصِّ التفاصيل المثيرة واشتهروا بالمبالغات وخلطوا الحقيقة بالخيال، لكن القرآن وبطريقة لافتة جداً يسقط التفاصيل التي تهتم بها كتب التاريخ ويكاد يكون خلواً من أسماء الأعلام والأماكن والأزمان، فهو لا يذكر الحقبة التاريخية التي بعث فيها نوح وإبراهيم وموسى، ولا يذكر اسم فرعون والأسرة التي ينتمي إليها، ولا يحدد هوية ذي القرنين وزمانه، ولا يذكر عدد فتية الكهف أو اسم المدينة وزمان الحدث، واسم الملك الظالم الذي فروا من اضطهاده. وفي قصة يوسف التي وصفها بأحسن القصص؛ لا يذكر زمانها ومن كان يحكم مصر، أو ثمن بيع يوسف وما هو اسم أخيه، واسم امرأة العزيز وهل تزوجها يوسف في نهاية المطاف، ونحو ذلك من أمور يلاحقها الخيال البشري لكن القرآن يعرض عنها.

إسقاط القرآن هذه التفاصيل يعرفنا بطبيعة هذا الكتاب، إنه ليس كتاب حشو معرفي، ولا يقدم العلم للناس بأنه مادة للتسلية، والهدف المعتبر من أي علم هو تحقيق الموعظة، لذلك حين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قصة ذي القرنين أجاب القرآن: " قل سأتلو عليكم منه ذكراً"، إذ لا ينفع الناس في قضية الإيمان أن يعرفوا اسمه وزمانه، بل ينفعهم موطن الذكر في القصة وهو تسخير قدرته في إقامة العدل.

الجوهر الإنساني الثابت عبر الزمان

تميل الأمم والشعوب والقبائل إلى إضفاء هالات التمجيد والأسطرة على أسلافها، حتى يظن الناس أن الأسلاف كانوا غير الناس في عصرنا، وتنسب إليهم الخوارق والمثاليات والحياة الفاضلة.

لكن القرآن يمزق حجب الأسطرة والغموض ويعرض لنا حقيقة الإنسان المجردة. يسافر القرآن بنا إلى أزمان غائرة وأماكن سحيقة ممن دفنوا في باطن التاريخ، فإذا بنا نرى ذات الإنسان منذ زمان نوح وعاد وثمود إلى يوم القيامة؛ هو الإنسان ذاته الذي يكذب ويجحد ويحسد ويظلم ويفسد في الأرض ويبغي على حقوق غيره، وهو ذات الإنسان الذي يجتبى منه الرسل والصالحون والآمرون بالقسط من الناس والمجاهدون والشهداء، فيعلم من يتدبر القرآن أن الأسرة الإنسانية واحدة وابتلاؤها واحد ويتحرر عقله من لثام الأساطير.

المضمون الأخلاقي أهم من البناء الحضاري

يفترق القرآن عن المناهج البشرية في قراءة التاريخ أنه لا يمجد البناء الحضاري ولا يراه مقياساً للتفاضل بين البشر.

امتلأت كتب التاريخ البشري بتعبيرات الدهشة من عظمة الأهرامات التي شيّدها الفراعنة، أما القرآن فلا يتخذ من إنجازات الفراعنة المعمارية قضيةً رئيسةً ويتناولها في إشارات سريعة، ويكرس معالجته لقضية الهداية الروحية في زمان فرعون المتمثلة في علوه وظلمه وإفساده وتعذيب بني إسرائيل، ورسالة موسى الداعية إلى الإيمان وتحرير بني إسرائيل.

والقرآن يشير إلى العمران البشري في سياق المقصد الروحي بأنه لم يغن عن أصحابه شيئا:

- "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ".

- "فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ".

- "وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ".

- "وكم أهلكنا قبلهم من قوم هم أحسن أثاثاً ورئياً".

مثل هذه الآيات تظهر العمران والإنجاز الحضاري المادي الذي كانت تتمتع به الأمم السابقة، لكن القرآن يتجاوزه ويتحدث عن إهلاكهم بظلمهم وتكذيبهم، ذلك أن القضية المهمة هي الهداية الروحية والاستقامة الأخلاقية، فمن فقدها فأي فضل يبقى له؟ بل إن الأمم حين تعمى روحياً وأخلاقياً، فإن أدوات القوة في يدها تصير أدوات للشر والإفساد. ونرى تحقق ذلك في عصرنا، إذ تستعمل الصناعة والاختراع في الهيمنة والظلم وتعزيز المشكلات الإنسانية من فقر وحروب واحتباس حراري بدل معالجتها.

هذا لا يعني أن القرآن يدعو إلى الزهد في البناء الحضاري، فهو يضرب مثال الملك القوي الصالح في قصص داود وسليمان وذي القرنين "أولي الأيدي والأبصار"، لكن البناء الحضاري الخارجي في ذاته لا يصنع فضيلةً، والقوي لا يمدح لقدرته، بل للكيفية التي يستعمل بها هذه القدرة، لذلك فإن التفوق الحضاري وفق الرؤية القرآنية هو ابتلاء إن قابله صاحبه بالشكر والتواضع لله وفعل الخير كان خيراً له، وإن استغله في الفجور والطغيان كان وبالاً عليه:

- "فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ".

المسئولية الذاتية والحساسية الأخلاقية

تركز القراءة المادية للتاريخ في تفسير تقويض الحضارات وهلاك الأمم على دور العامل الخارجي المتمثل في الكوارث الطبيعية أو الغزو الخارجي، لكن القرآن يركز على العامل الداخلي.

يعيد القرآن في عشرات الآيات على الأقل التذكير بأن علة هلاك الأقوام السابقة كانت أفعالهم الذاتية المتمثلة في الظلم والتكذيب والعناد والترف والإفساد في الأرض والانحراف الأخلاقي:

- "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً".

- "وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَة".

- "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً".

- "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ".

- "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"...

هذا الحشد من الآيات يغير نظرتنا لأحداث التاريخ، إذ لا وجود في الرؤية القرآنية لمشهد القرية الوادعة الآمنة التي دمرت بينما أهلها آمنون مسالمون. إن الله تعالى المحيط بنفوس الأولين والآخرين يخبرنا ببيان واضح أن الهلاك يبدأ من الكسب الذاتي للأمم والأقوام، وأن تغيراً في عالم القلوب هو الذي يستدعي تغيراً في الواقع الخارجي للأمم.

لا ينفي القرآن وجود العامل الخارجي لكنه محدود الأثر إن اصطدم بمتانة داخلية: "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً".

التأكيد على دور العامل الداخلي يعلي الشعور بالمسئولية الذاتية، فلا جدوى من البكائيات ولعن الشيطان، وخير من ذلك التفتيش عن الخلل في داخلنا وإصلاح أنفسنا، فيستجيب العالم وتتطوع أحداثه لنا إن شهد الله في نفوسنا تحولاً صادقاً: "قل هو من عند أنفسكم".

تحرير العقل من الحتمية

مع أن أكثر الأمم والأقوام التي يذكرها القرآن مضت في طريق الظلم حتى حق عليها القول بالعذاب والتدمير، إلا أن الله تعالى يذكر لنا استثناءً وهو قوم يونس:

- "فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين".

مثال قوم يونس يعلمنا أن الأقدار لا تحتمل وجهةً واحدةً لا مفر منها، وأن الأمم تملك تغيير مصائرها إن هي آمنت واعتبرت من الإشارات الإلهية وراجعت نفسها واستغفرت ذنبها.

مثال قوم يونس يعطي الأمل أنه لا تزال هناك جدوى من محاولة الإصلاح، وأنه في اللحظة التي تقرر الأمم التوبة الصادقة وتحويل مساراتها فإنها ستتجنب مصائر الندم والهلاك وستنعم بالعافية.

مفهوم الانتصار والعاقبة

الدنيا وفق الرؤية الإيمانية، ليست سوى محطة قصيرة للابتلاء والتمحيص، وهذه الرؤية تنعكس على معايير التقييم، فالقرآن لا يمارس "براغماتيةً سياسيةً" ليمنح الشرعية للقوي المتغلب.

لو كان هناك خيار اضطراري بين الانتصار المادي مع خسارة الإيمان أو بين الخسارة المادية مع الثبات على الإيمان، فإن الدين ينحاز دون ريب إلى الثبات على المبدأ، لأن من يخسر هدايته الروحية واستقامته الأخلاقية فقد خسر نفسه خسراناً مبيناً ولن يغني عنه ملك أو سلطان.

النبي ليس بالضرورة أن يكون في موقع انتصار: "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّۢ قاتل مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين".

وقد خلد الله ذكر أصحاب الأخدود الذين أحرقوا بالنار، فهم بمقياس الدنيا قد خسروا، لكنهم بمقياس الروح قد ربحوا.

وفي قوله تعالى: وَمَن يُقَاتل في سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً" من اللافت تقديم من يُقتل على من يَغلب في الوعد بالأجر العظيم؛ ليس لأن الله تعالى لا يريد لعباده النصر، بل يريد لهم ضمان التجرد القلبي من علائق الدنيا.

وحين وعد الله تعالى المجاهدين بالنصر قال: "وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْر مِنْ اللَّه وَفَتْح قَرِيب"، وهو تعبير يتضمن دلالة أن النصر والفتح الدنيوي يأتي في منزلة أقل أهميةً بعد جنة الآخرة.

* * *

يؤكد القرآن أن العاقبة للمتقين وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون وأن الله تعالى سينصر الرسل في الحياة الدنيا، والسبيل إلى التوفيق بين المعنيين أن العاقبة مؤكدة في الدنيا، لكنها قد تكون طويلة الأمد تتجاوز أعمار الأفراد، فلا يطيق الأفراد صبراً على انتظار النصر، فلا بد من الإيمان واليقين بالله تعالى ليضمن الفرد صفقةً رابحةً في جميع الأحوال، فإن أدرك نصر الدنيا فنِعما هي، وإن فاته ذلك لم يعض أصابع الندم والحسرة لأن اتصاله بالله الأبدي.

ليس في ما تقدم دعوة للمؤمنين إلى الزهد في السعي إلى النصر في الدنيا، فقد جبل البشر جميعاً على حب النصر والسعي إليه، لكنها دعوة للحرص على الانتصار في المعركة الأهم في هذه الحياة، وهي معركة التمحيص والابتلاء، وأن يعيش الإنسان حياته متجرداً للحق قائماً بالعدل مهما تبدلت عليه الأحوال وأن يلقى الله تعالى بتلك الحال.

twitter.com/aburtema
التعليقات (1)
Sr
الجمعة، 04-12-2020 09:41 ص
جميل جدا ..اشكركم علي هذه الجهود