هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
على مدار السنوات الأربع الماضية، نجحت العلاقة الشخصية بين الرئيسين الأمريكي والتركي في إيجاد مخرج مشترك للإشكال القائم بين الدولتين في الشمال السوري، وفي تهدئة ملف منظومة الصواريخ "S 400" إلى حين.
ملفات حساسة في علاقة واشنطن بأنقرة
لن تكون هذه العلاقة الودية قائمة بين الرئيس التركي والرئيس الأمريكي جو بايدن، بل سيخيم عليها الفتور المتبادل نتيجة حصول تغير في الموقف الأمريكي تجاه تركيا في ثلاثة ملفات حساسة بالنسبة لأنقرة، حسب التصريحات التي أطلقها بايدن خلال الأشهر والسنوات السابقة.
الملف الأول يتمثل في موقف بايدن من توترات شرق المتوسط، حيث وصف عمليات التنقيب التركية شرق المتوسط بأنها غير قانونية، ودعا في بيان له في 6 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي إلى تكثيف الضغوط الأمريكية على تركيا لدفعها إلى خفض منسوب التوتر مع اليونان.
تنطلق تصريحات بايدن هذه من موقف قديم داعم لليونان بسبب قربه من اللوبي اليوناني في الولايات المتحدة.
الملف الثاني يتمثل في تنديد بايدن بالسياسة التركية تجاه الأكراد شمال سوريا، حيث عارض العمليات العسكرية التي أطلقتها تركيا ضد "وحدات حماية الشعب" في آب / أغسطس 2016 وفي كانون الثاني/ يناير 2018.
الملف الثالث يتمثل في رفضه الحاد لشراء تركيا منظومة صواريخ "S 400"، ومن ثم إعلانه عن نيته جعل تركيا تدفع ثمن شرائها منظومة الصواريخ من روسيا.
ويعتقد بعض المراقبين أن الرئيس الجديد قد يذهب نحو تطبيق قانون "كاتسا" الذي يقضي بفرض عقوبات على الدول التي تتعاون مع أعداء أمريكا، وفي الصدارة منها روسيا.
من الواضح أن مواقف بايدن تجاه تركيا لا تنبع من مجرد تصريحات عامة وعابرة لرجل ما يزال على هامش صناعة القرار الأمريكي، وأن مواقفه ستتغير بمجرد دخوله البيت الأبيض، حيث العقلانية والبراغماتية ستكون المعيار في تحديد السياسة الأمريكية.
إلى جانب هذه الملفات الثلاثة، برزت مواقف من بايدن مناهضة لتركيا" أولا، في القوقاز، مع اتهامه أردوغان بتأجيج النزاع هناك، ومطالبته تركيا مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي البقاء بعيدا عن الصراع في ناغورنو كاراباخ، وثانيا، في المجال التركي الداخلي، حين انتقد سياسة تأميم المجال العام، ووصفه الرئيس التركي بـ "المستبد".
هذان الملفان الأخيران لا أهمية كبرى لهما، وإن كان بإمكانهما أن يكونا سببا في تبادل الانتقادات والانتقادات المضادة، لأن القدرة الأمريكية في منطقة القوقاز محدودة مقارنة بالدور الروسي، ولأن المسائل الداخلية لا تكون سببا في تأجيج التوتر، وللولايات المتحدة تاريخ حافل في غض الطرف عن السياسات الاستبدادية لكثير من الدول الحليفة لها.
من الواضح أن مواقف بايدن تجاه تركيا لا تنبع من مجرد تصريحات عامة وعابرة لرجل ما يزال على هامش صناعة القرار الأمريكي، وأن مواقفه ستتغير بمجرد دخوله البيت الأبيض، حيث العقلانية والبراغماتية ستكون المعيار في تحديد السياسة الأمريكية.
الواقعية السياسية
يعتقد بايدن أن المتغيرات الدولية والمتغيرات الإقليمية خلال العقدين الآخيرين، دفعت تركيا نحو أماكن من شأنها أن تهدد المصالح الأمريكية، وكلما ازدادت تركيا قوة في الداخل والخارج، كلما شقت لنفسها مسارات بعيدة عن العباءة الأمريكية.
ولذلك، سيذهب الرئيس المقبل إلى رفع مستوى التصعيد تجاه تركيا، لكن هذا التصعيد سيبقى محكوما بعوامل عديدة، أهمها، مدى استعداد المؤسسات الأمريكية الحاكمة الذهاب مع بايدن نحو تصعيد العلاقة مع تركيا، في ظل المخاطر التي قد تترتب على هذا التصعيد، مثل دفع أنقرة نحو الشرق أكثر مما جرى خلال السنوات السابقة.
أرسلت أنقرة مبكرا أولى رسائلها السياسية نحو الأطلسي في 12 الشهر الجاري، حين أعلن وزير الدفاع خلوصي أكار أن تركيا مستعدة لتبديد المخاوف الفنية للولايات المتحدة حيال منظومة "S 400".
لا تكمن أهمية التصريح في مضمونه، فقد حاولت تركيا أكثر من مرة تبديد المخاوف الأمريكية، بل تكمن أهمية التصريح في توقيته، حيث جاء بعد أيام من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ما يعطي رسالة سياسية من أنقرة للرئيس الأمريكي المقبل بأن هذا الملف لن يكون سببا في توتير العلاقة بينهما.
لا يعني ذلك أن تركيا ستستجيب مباشرة للمطالب الأمريكية، بل يعني أنها قد تدخل في مساومة مع الإدارة الجديدة حيال منظومة الصواريخ الروسية ضمن حزمة من الملفات الأخرى، وفي مقدمتها الدعم الأمريكي المتوقع من بايدن للأكراد في سوريا.
وهذه هي المسألة الأكثر خطورة وحساسية التي قد تدفع العلاقات بين الدولتين إلى التوتر الشديد، إذ إن أنقرة لا تتسامح في هذه المسألة ولا تقبل الحلول الوسط.
الملف السوري
الوضع الآن في الشمال السوري يميل لصالح تركيا بعدما أنجزت عملية "درع السلام" وسيطرت على شريط حدودي بعمق 30 كلم بين تل أبيض ورأس العين، ما سمح لها بتقطيع أوصال الكانتون الكردي المأمول.
وفق هذه المعطيات، لا مشكلة لتركيا في دعم الولايات المتحدة لـ "الوحدات الكردية" عسكريا في مواجهة النظام السوري وروسيا، لكن الخوف الكبير أن يُستكمل الدعم الأمريكي العسكري للأكراد بدعم سياسي في إنجاح مشروع "الإدارة الذاتية" ككيان سياسي ذاتي ضمن الدولة السورية، كما هو حال إقليم "كردستان العراق".
عند هذه النقطة، ستعود مسألة الموازنة بين أولوية المصالح الأمريكية الاستراتيجية بعيدة المدى، والمصالح التكتيكية قريبة المدى من جديد، وهو النقاش الذي دار في الأوساط الأمريكية في عهد ترامب الذي حسم المسألة بدعم التوجه التركي في الشمال السوري للمحافظة على المصالح الأمريكية الاستراتيجية.
وإذا كان بايدن يستطيع ممارسة ضغوط كبيرة على أنقرة حيال هذه الملفات، فإن لهذه الضغوط حدودا لا يمكن تجاوزها.
وفقا لهذه المعطيات، لن تكون العلاقات التركية ـ الأمريكية كما كانت في مرحلة ترامب، على الأقل خلال المرحلة الأولى من فترة بايدن، لكنها لن تصل إلى تهديد حد الولايات المتحدة للمصالح القومية التركية، لا في سوريا ولا في شرق المتوسط، ولا في القوقاز، فالجغرافيا ـ السياسية تفرض قوتها في النهاية، وليست الولايات المتحدة في وارد معاندة هذه الجغرافية.
*كاتب وإعلامي سوري