تُعدُّ مسألة
القتال من أكثر المسائل إثارةً للالتباس من زاوية النظرة الخارجية إلى الإسلام، ويعزز من الالتباس الصورة النمطية للتدين في عقول كثير من الناس خاصةً من غير المسلمين، إذ يرونه مرتبطاً بالروحانية والسلام والزهد في الدنيا. فالمخيلة البشرية ترى القديس شخصاً منسحباً من الحياة، إذا ضُرِبَ على خده الأيمنِ أدار خده الأيسر. وهم يرون التدين متحققاً في مثال عيسى عليه السلام، لكن لا يفهمون أن الرسول أيضاً قد يحمل السلاح ويقاتل أعداءه!
ينفعنا في فهم الدلالة التاريخية لشرع القتالِ في
القرآن الكريم تأمل مقولة أبي بكر الصديق في أول آية نزلت في القتال. يقول ابن عباس: لما أخرج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنَّا لله وإنا إليه راجعون أخرجوا نبيهم ليهلكُنّ. قال: فنزلت: "أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير". قال أبو بكر الصديق: فعلمت أنها قتال.
يدلُّ قول أبي بكر على أن شرع القتال نزل في اللحظة التي كان ينتظر فيها المؤمنون نزول عذاب إلهي بالمكذبين، على مثال ما نزل بعاد وثمود والذين من بعدِهم، وبذلك فإن القتال مثَّل بديلاً للتدخل الإلهي المباشر، ونَسْخاً لسنة الله في إهلاك المكذبين بما اصطلح على تسميته بالمعجزات، بسنة التدافع الإنساني كما يظهر في القرآن بوضوح: "ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ".. "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ".
يبدو الإذن بالقتال وكأنه خطوة في الاتجاه التاريخي تعني تعزيزاً لسلطان الإنسان في الأرض وتجليةً لخلافته عن الله جلَّ جلاله، فالله تعالى كان يعذب الظالمين بالخسف والصيحة والإغراق، أما مع شرع القتال فهو يعذبهم بأيدي المؤمنين، وهو ما يمنح مزيداً من الأهمية للفعل الإنساني في الأرض.
القتال في جوهره النفسي يعني الحركة التي هي ضد السكون. في الفلسفة الطاوية الصينية هناك مصطلح "يين ويانغ" (Yin and yang). و"يين" تعني السكون بينما "يانغ" تعني الحركة والنشاط، والحياة كلها تمضي بين هذين القطبين. ولو تأمل أحدنا في حاله لوجد أن حياته تمضي بين هذين القطبين؛ لحظات نميل فيها إلى السكون، ولحظات أخرى نميل فيها إلى الحركة والنشاط. حالة السكون تحققها معانٍ في القرآن مثل الصبر والتسليم، أما حالة الحركة فتتحقق في القتال، والقتال بمعناه التجريدي أن يبادر المرء ويفعل ويغادر مواقع الراحة والانتظار، لذلك وصفه القرآن أنه ثقيل على النفوس: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم".. "وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون".
القتال ليس موقفاً عدوانياً في الحياة بل هو موقف إيجابي، والدلالة اللغوية ذاتها تعطي هذا المعنى، فالقتال يفترض ابتداءً قدراً من التكافؤ بين الفريقين، والذائقة اللغوية السويَّة تنكر أن يقال إن فارساً يقاتل مجموعةً من الأطفال والنساء! فكلمة القتال ذاتها تتضمن معنى التبادل والتفاعل، أي أن هناك تدافعاً بين إرادتين متقاربتين في القوة، أما الاختلال الفادح في القوة بين فريقين، فإن الفعل يسمى في تلك الحالة قتلاً وإفساداً وعدواناً وبغياً، ولا يسمى قتالاً، وهذه ملاحظة جديرة بالاعتبار أن القرآن يدعو إلى القتال ويحرِّم القتل بغير حق والإفساد والبغي والعدوان والظلم.
ومما استقر في الفطرة الإنسانية أن الدلالة الأخلاقية للقتال تختلف حسب حال الفريق الذي يمارسه، فالأقوياء حين يمارسون القتال فإنهم غالباً يكونون في موضع إدانة، لأن فعلهم كثيراً ما يرتبط بالبغي والعدوان، لكن حين يمارس الضعفاء القتال فإن فعلهم يمجَّد لأن تحديهم للقوي الظالم يؤشر على الشجاعة والثبات.
لذلك من المهم أن نلقي ضوءاً على الحالة النفسية للمؤمنين الأوائل حين كانت تتنزل عليهم آيات القتال:
"فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ".
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ..".
"أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ".
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ".
"فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ".
هذا الحشد من آيات القرآن الكريم يظهر بجلاءٍ أن شرع القتال حين كان يتنزل فإنه كان يلامس خوفاً وإشفاقاً في نفوس المؤمنين، ولم يكن موافقاً لأهوائهم، وأنه فُرِض عليهم وهم قلة في مواجهة الكثرة. إن القتال يقتضي منهم معاكسة طبائعهم البشرية الراغبة في الراحة والتمتع بملذات الدنيا، لذلك فإن القتال في جوهره هو انتصار على النفس قبل أن يكون انتصاراً على العدو الخارجي.
هذا يعني أن القتال قبل أن يكون فعلاً خارجياً فهو تزكية داخلية لنفوس المؤمنين، وبذلك فإن القتال في الميزان الروحي يتنافى مع فكرة تجنيد المرتزقة والقتال بأجر، لأن المرتزق يطلب القتال طمعاً في الغنيمة ويؤجر سلاحه لمن يدفع له، بينما المؤمن الحقيقي يكره القتال وحين يمارسه فإنه يُدفع إليه دفعاً.
كان من اللافت في سورة التوبة أن الله تعالى يعاقب المنافقين بألا يخرجوا مع الرسول للقتال: "فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُواً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ".
وهذا مناقض لمنطق الدولة لكنه متوافق مع منطق الروح، فالدولة تهتم بالفعل الخارجي وهي معنيَّة بتجنيد الطاقات البشرية معها، فلا يعد الإعفاء من القتال عقوبةً فيها! بينما منطق الروح مهتم بميدان المعركة داخل النفس البشرية، لذلك فإن الله تعالى يعاقبهم بالقعود وحرمانهم من شرف تطهير النفس.
من المهم أن يتفطن المؤمنون إلى أن القتال في القرآن هو نقيض الجبن وليس نقيض السلام، وهذا المعنى لا تثبته آية أو آيتان، بل يتضح في عشرات المواضع التي تعالج قضية القتال. ولو كان القتال مناقضاً للسلام لفرح به الذين في قلوبهم مرض، لكنه مناقض للجبن لذلك قدّم القرآن صوراً بليغةً في وصف حالة الانهيار النفسي للمنافقين خوفاً من القتال: "لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ"، "أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ"، "وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً".
فهم المضمون الداخلي للقتال هو عملية سابقة لممارسة شكله الخارجي، فلو تحققت المعاني الداخلية فقد تحقق المقصد والحكمة، أما الشكل الخارجي فهو يتشكل تبعاً لعلاقات الناس وأعراف الأمم، فإذا توافقت الأمم على قواعد لتنظيم علاقاتها وإدارة خلافاتها، فإن المسلمين ينبغي أن يكونوا جزءاً فاعلاً من هذه التعاهدات، وليس من الفقه ممارسة الشكل الخارجي للقتال وحسب؛ دون تدبر في السياق التاريخي والنفسي والموضوعي له.
والقرآن يؤكد على المبادئ العامة مثل قصر القتال على المقاتِل والنهي عن العدوان والإفساد: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، وكذلك صيانة العهود بين الجماعات: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ"، وارتباط القتال بعلة
الظلم وليس بعلة الكفر: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"، وارتباط القتال بنصرة المظلوم: "وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِياً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً"، وكون القتال في أصله حالةً دفاعيةً: "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ".
أما المضمون الداخلي فهو ثابت لا يتغير، ففي كل زمان نحتاج إلى مجاهدة الخوف الذي في داخلنا والنفير إلى معارك الحياة وإيثار نصرة الحق وطريق ذات الشوكة على ملذات الدنيا وراحتها، فمن التزم بذلك فقد حقَّقَ مقصد القتال وإن لم يمارس شكله.
twitter.com/aburtema