هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا تكاد ظاهرة
التكفير الديني، التي لازمت التاريخ الإسلامي منذ معركة صفّين بين الإمام علي
ومعاوية سنة 37 هجرية، تخبو ردحا من الزمن حتى تعود لتُطل برأسها جالبة الكثير من
الشروخ على الفكر الإسلامي ومعتنقيه أمما وأفرادا. ولم يزل مفهوم التكفير في حدّ
ذاته يحتل حيزا من الاهتمام الفكري والعقائدي، خاصّة في ظلّ انزياح الجدل حوله نحو
مربعات العنف المعنوي والمادّي بما فيها القتل والدعوة إلى الخروج عن الدّولة
ومؤسساتها، بعنوان الدفاع عن الدين، وهو ما يفتح باستمرار أخاديد نفسية واجتماعية
داخل المجتمع المسلم الواحد ويقوّض عُراه.
لئن اشتغلت
كتابات عربيّة كثيرة على تمحيص ظاهرة التكفير ودراستها، فإنّ الخيط الناظم بينها
هو التقاؤها كلّها تقريبا على نقدها وتجريمها لظاهرة تكفير المفكّرين، حيث حبّر
نصر حامد أبو زيد كتابه "التفكير في زمن التكفير" سنة 1994 في تحليل
الخطاب الديني ونقده، ثمّ كتب خليل عبد الكريم كتابه "فترة التكوين في حياة
الصادق الأمين" الذي جعله عرضة إلى التكفير من قبل مجمّع البحوث الإسلاميّة
بالأزهر، وكتب حسن حمّاد "الأصوليّات الإسلاميّة والعنف المقدّس: ما هي منابع
التطرف والتكفير الديني؟". وكتب شكري المبخوت "تاريخ التكفير في
تونس"، مستعرضا الملابسات التاريخية والفكرية التي حفّت بتكفير الثعالبي
والطاهر الحداد والرئيس بورقيبة. وغيرهم كثر.
من هذه الزاوية
يبدو من الأهمية بمكان محاورة الدكتورة بثينة الجلاصي، أستاذة محاضرة بالمعهد
العالي لأصول الدين ثمّ المعهد العالي للحضارة جامعة الزيتونة، ومناقشة مخرجات
كتابها الجديد الذي يحمل عنوان "التفكير والتكفير في الخطاب الأصولي"
والذي انتحت فيه زاوية بحثية مستجدّة تخصّ ظاهرة التكفير ذات الخلفية السياسية أو
التي يكون فيها التكفير أداة سياسية يُرجم بها المختلف في المذهب أو الطائفة.
وإلى ذلك فقد
اشتغلت بثينة الجلاصي على التفكير في مصطلحات مخصوصة بالتكفير من بينها مصطلح
التشريق، ومصطلحا الولاء والبراء التي رأت فيهما ما أسمته بالإبانة والتفطّن
المتقدّم من قبل الفقهاء الأصوليين إلى قضايا الدلالة وأهميّة المصطلح في التداول،
فضلا عن كمّ مقالاتها المهتمّة بالمناحي الأسلوبية في حبك قضايا الخطاب الأصولي
والتفكّر في مآزقه التنظيريّة وتدبّر مفاهيمه المشتركة، وفق تأكيدها. ولأهمية ما
يثيره مناخ التكفير من كثير التباس وجلبة وأخاديد نفسية في صفوف مجتمعنا الانتقالي
فقد نقلنا استفساراتنا عن ظاهرة التكفير ومدى ارتباطها بالمدونة الفقهيّة
والكلاميّة الإسلامية وعن السبل الكفيلة لمحاصرة ظاهرة التكفير الديني، فكان لنا
معها الحوار التالي.
س ـ بداية هل من نبذة سريعة عن كتابك الجديد "التفكير والتكفير في الخطاب الأصولي"؟
ـ في مطلع القرن العشرين كتب نصر حامد أبو زيد
كتابا وسمه بـ" التفكير في زمن التكفير"، وكان أوّل ما استرعى انتباهي
في اختيار العنوان عمق معنى الجناس فيه،
فقد وصل الكاتب التفكير بالتكفير، واستفز
المتلقي بأسئلة عديدة أهمّها: هل يكون التكفير نتيجة التفكير، فيمثّل بذلك
استراتيجيّة غايتها تبكيت الخصم وخضد شوكته ورجرجة مفاهيمه، فلا تبقى له بعد ذلك
حجة القول ولا سلطة الكلمة؟ هل تؤدّي كثرة التفكير إلى الكفر؟ وهذا السؤال يحيلنا
إلى موقف القدامى من علم الكلام باعتباره المجال الخصب لإثارة المسكوت عنه في
المجال الشرعي أو اللا مفكّر فيه، وقد عبّر فخر الدين الرازي عن هذا القلق
الابستيمي في تحديد مجال علم الكلام وموضوعاته وعلاقته بالكفر باعتباره ضديد
الإيمان.
انطلاقا من ذلك
استعرت مصطلحي التفكير والتكفير، وتخيرت أن أوحّد شتات مجموع هذه المقالات المنشور
بعضها في مجلات علميّة محكّمة، وبعضها الآخر مقدّم في ندوات علمية دوليّة، وقد كان
الفكر الفقهي الأصولي أرضية مشتركة بين هذه المقالات، فانشغل بعضها بالتفكير في
مصطلحات مخصوصة بالتكفير من بينها مصطلح التشريق، ومصطلحا الولاء والبراء. أماّ
البعض الآخر من المقالات فاهتمّ بالمناحي الأسلوبية في حبك قضايا الخطاب الأصولي
والتفكّر في مآزقه التنظيريّة وتدبّر مفاهيمه المشتركة من قريب أو بعيد في مجالات
معرفية أخرى.
س ـ المتأمل في كتاباتك السابقة يلحظ اهتماما مركزا على نقد العقل الفقهي وكأن بكتابك هذا طرقة تنضاف على جدران المدونة الأصولية وإشكالياتها؟
ـ نعم هذا صحيح، فهذا الكتاب يمثل في النهاية
حلقة منتظمة في مشروع فكريّ يتّصل بمحنة العقل الفقهي، وقد كنت انطلقت بتلمّس
مظاهر هذه المحنة في كتابي "النصّ والاجتهاد : من تقديس النقل إلى تسريح
العقل"، فوقفت عند تململ الأصوليّ في التعامل مع الأدلّة النقليّة وإقرار
سلطة حجيتها من ناحية، ثمّ الاحتكام إلى الأدلّة العقليّة وإبراز ضرورة حضورها من
ناحية أخرى، وبين العقل والنقل، والإيمان والبرهان، والبيان ومصلحة الإنسان يقف
الأصولي في مفترق الطرق ليحدّد حدودا للعقل لا يسرح فيها إلاّ بمقدار ما يسرّحه له
النقل، وهو ما نقل الفكر الفقهي من فكر أصوليّ إلى فكر مقاصديّ يستأنس بمصلحة
المسلم ويجعلها مدار اهتمامه.
س ـ عودا على كتابك الجديد "التفكير والتكفير في الخطاب الأصولي"، الذي يعرّي ظاهرة التكفير بوصفها أداة سياسية فإلى ماذا استند بحثك؟
ـ لقد تبيّن لي من خلال دراستي لتاريخ انتشار
المذاهب وانحسارها في إفريقية في العصر الوسيط وكذلك من خلال دراسة ظاهرة السلفية
الجهادية المعاصرة، على وجه الخصوص تنظيم ما يسمى بـ"أنصار الشريعة" في
تونس، أنّ المسألة تتجاوز مظاهر الصراع أو التقارب في التأويلات ووجهات النظر
والتدبّر في النصوص. إنّ المسألة في تقديري لا تعدو أن تكون في عمق التجاذب
السياسي والصراع حول السلطة وشرعيتها وأحقيتها لهذا الشقّ أو ذاك، فكلّ الأفكار
التي أنتجها العقل البشري إنّما تدور في هذا الفلك فلك السلطة بالمعنى السياسي
وفلك السلطة بمعناها الواسع، وبذلك فإنني أنفي ادّعاء حياد أيّ فكر مهما زعم
أصحابه الموضوعيّة، ذاك أن الأفكار سيّما ما اتصل منها بالشأن الديني إنّما هي
سليلة بيئة ثقافية وجغرافية أنتجتها وحكمت تسلسلها وتناميها، وحددت آلياتها
ومنهجها سواء كان ذلك عن وعي من أصحابها أو عن غير وعي.
لقد أبانت تجربة
الفاطميين في إفريقية أنّ علاقتهم المذهبيّة بالمخالف لهم لم تكن في حقيقتها غيرة
على أصولهم العقديّة القائمة على نظريّة الإمام، فذاك ظاهر المقالة ومطيّة توظيفها
وإنّما كانت المذهبيّة في جوهرها ثأرا
سياسياّ تنامى تدريجيا منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ليظهر في أحداث
سياسية مرّة وثقافيّة اخرى أجلاها الفتنة الكبرى ثمّ المحن التي تعاقبت على آل
البيت في العهد الأموي والعباسي.
س ـ هل تنفين الخلفية المذهبية عن ظاهرة التكفير التي وسمت الصراع بين مختلف دول العصر الوسيط؟
ـ الحقيقة أنه انطلاقا ممّا ذكرت أعلاه يصبح
الاشتغال على المذهبيّة أمرا فرعياّ يخفي وراءه إشكاليّة أساسيّة هي علاقة السلطة
الدينيّة بالسلطة السياسية ويصبح السؤال ملحاّ إلى أيّ مدى يمكن أن يقرّ الباحث
باستقلال السلطة الدينية عن السلطة السياسية عبر التاريخ الإسلامي؟
كلّ الأفكار التي أنتجها العقل البشري إنّما تدور في هذا الفلك فلك السلطة بالمعنى السياسي وفلك السلطة بمعناها الواسع، وبذلك فإنني أنفي ادّعاء حياد أيّ فكر مهما زعم أصحابه الموضوعيّة، ذاك أن الأفكار سيّما ما اتصل منها بالشأن الديني إنّما هي سليلة بيئة ثقافية وجغرافية أنتجتها وحكمت تسلسلها وتناميها
لا نغالي إذا
قلنا إنّ القيم والأخلاق المتحكمة في تعامل الفقهاء ورجال الدين داخل مؤسسات
الدولة لا تعدو هي الأخرى أن تكون ضربا من السياسة تخفي حقيقة خلفياتها أكثر
مماّ تعلنها، وقد تتكشف في سياسة القول أو
التعامل لتدلّ في النهاية أنّ التسامح المذهبي لم يعد في الواقع التاريخي أمرا
قيمياّ نابعا من روح الشرع وإنّما هو سياسة تتوق إلى استمالة القلوب وتبعية العقول
وإلى بسط النفوذ على نطاق أوسع، إنّ التسامح استراتيجيّة محكمة وليس غاية في حدّ
ذاته.
س ـ وماذا عما يتعلق بالجانب الثاني من دراستك والتي اهتمت بدراسة السلفية الجهادية؟
ـ يمثّل التيّار السلفي الجهادي ظاهرة دينية في
تونس، ولم نقف فيما علمنا على دراسة تعنى بالحفر في أصول مقالة الولاء والبراء
عنده وفي دراسة منابعها وخلفياتها التاريخية وسياقاتها الحضارية. تحمّسنا للكشف عن
كيفية تأصيل هذه المقالة لأهميتها
وتأثيرها في الفكر الجهادي عامّة، وتعود هذه الأهمية في تقديرنا إلى أنها المعين
الذي تستمدّ منه كلّ المقالات الأخرى شرعيتها ومعناها، فهي في نصوص السلفية
الجهادية عامّة عقيدة وركن أساسي من أركان الإيمان لما له علاقة بنصرة الإسلام
ومحاربة الأعداء.
والحقيقة أنّ
عقيدة الولاء والبراء عند السلفية الجهادية ليست بكرا أو بدعا، وإنّما تمتدّ جذورها
في التاريخ الإسلامي السياسي إلى القرن الأوّل مع الخوارج وارتباطها بمقالة
الحاكميّة. ولقد عملنا على كشف سوء التأويل فيها وكيفية تأصيل هذه العقيدة
والملابسات الحافّة بها، وآليات توظيفها والوقوف عند خطورة التأويل واحتكار المعنى
وتوظيفه نظريا وإجرائيا وأهمية توجيه السياق والمقام في إنتاج كل ذلك.
س ـ أين تكمن خطورة التأصيل في المقالات الجهاديّة؟
ـ تكمن خطورة التأصيل في بعدها الحجاجي وما
يوفره من طاقة إقناعيّة تستفزّ الأبعاد المقدّسة في النصّ الموظف لما لها من تأثير
في الضمير الجمعي للمسلمين سيّما في هذا الظرف التاريخي الحضاري الذي تبحث فيه
الذات المسلمة عن تجذير هويتها الإسلامية وعن موقع لها بين الأمم المتقدمة حضاريا
وهو ما دفعنا إلى الاشتغال على السلفية الجهادية في عصرنا الراهن.
وانطلاقا من ذلك
عملنا على البحث في مباني النصّ التأصيلي المعتمد ومضامينه سواء أكان القرآن أو
السنة أو الأقوال المأثورة أو أقوال العلماء مبيّنين الجسور التي أوجدها السلفيّ
الجهادي بين مقالته ومعنى النص الموظّف.
س ـ إلى ماذا يستند الساسة في تكفيرهم لخصومهم؟
ـ كثيرا ما يستند الساسة في تكفيرهم لخصومهم
السياسيين إلى تبريرات الفقهاء الموالين لهم. وهي تبريرات تقوم على فهم معين للنص
القرآني وتقوم كذلك في أحيان كثيرة على أحاديث نبوية موضوعة ومجتثّة من سياقها.
وبموجب ذلك يطوع مفكر السائس ثلاثة مقومات لبناء خطابه التكفيري: حذقه للخطابة
والأساليب البلاغيّة المؤثرة في النفوس ثمّ قدرته على تأويل النصوص الدينية
وتوظيفها بما يتلاءم والغايات المحددة سلفا في خدمة الأغراض المحددة ثم تمحيص أوجه
الاختلاف وتتبعها (العقدية المذهبية والحياة اليومية).
س ـ ألا يحيلنا هذا إلى مشكل في المدونة الأصولية التي تتضمن مبررات للتكفير؟
ـ أوّلا وجب التنصيص على الفرق بين الكافر
والمُكفّر. الكافر هو الذي لا يؤمن بوجود الخالق ويشرك به أربابا أخرى وهذا ما
تحدّث عنه القرآن وأنذر الكافرين بسوء المآل. أما التكفير فهو بذل الجهد في إخراج
المختلف من الملّة وجعله مشركا رغم إسلامه. فالكفر موقف وعقيدة ألزم المعتقد بهما
نفسه عن اختيار ذاتي سواء كان قناعة أو اقتناعا، أماّ التكفير فإسقاط موقف واعتقاد
يسلطهما طرف يتوهم أنه مالك الحقيقة وقابض المعنى، فكلّ مختلف عن فكره ومرجعياته
وميولاته النفسية هو كافر بالضرورة، كافر بالحقيقة المزعومة وكافر بمدّعيها
المستبدّ.
ثانيا علينا
الإقرار بأنّ مبحث التكفير يحيلنا ضرورة وللأسف الشديد على مزالق ومآزق في المدونة
الفقهية والمدونة الكلامية. ذاك أنها اجتهادات بشرية. المزالق ليست في النص الديني
وإنما في الاجتهادات البشرية المقيدة بسياق مخصوص وبخلفيات محددة. وبنوازل تخص
فترة دون غيرها. والمشكلة في هذه المدونات الفقهية أنها تؤخذ عند قارئيها على أنها
الحقيقة. ولا تقبل المختلف ويجب نزع
القداسة عنها. فالمشكلة مشكلتان الأولى في عدم الإقرار بنسبية المدونة الفقهية
والكلامية والثانية في تقليدها وتبنيها وتمريرها ونشرها عبر العصور.
س ـ لكن هل أنّ ما تقدّمت بذكره يعصم النصوص القرآنية من ظاهرة التكفير طالما أن النصوص تقسم بين مجتمع المؤمنين ومجتمع غير المؤمنين أو الكافرين. سورة الكافرون مثالا؟
ـ القرآن لا يكفر. فهو ينعت أشخاصا هم فعلا على
تلك الحال. الكافر هو الذي لا يؤمن بالله. والكفر هو غير التكفير مثلما أبنت، بل
بالعكس فقد دعا المشرّع في القرآن إلى احترام الأديان. والقرآن يقر حالة ظاهرة.
ويدعو إلى التعايش مع المختلف وإلى مجادلته بالمعروف والحسنى . والدليل هو تعايش
الرسول مع أهل الكتاب في المدينة. وصحيفة المدينة هي أكبر دليل على التعايش السلمي.
س ـ كيف السبيل لمعالجة التكفير الرائج اليوم والذي يتمّ باسم الدّين؟
ـ إنّ تعيين ضوابط التّكفير وحصرها في المسلمين،
وتعيين الاجتهاد بأنّه حقّ للقلّة في الإيمان دون الكثرة، يحمل في ثناياه إقرارًا
بالتّفاضل بين النّاس في المعرفة والحقيقة، ويعدّ المبدأ الأوّل لنشأة التّكفير
باسم الدّين، لذا فإنّ معاجلة التّطرّف والتّكفير لا تقتصر على بُعد واحد
للمواجهة، بل يجب أن تشمل كلّ الأبعاد: عليها أن تشمل توضيح أبعاد الدّين - وعلى
رأسها البعد الشّرعيّ المقاصدي- ونقض الفكر
التّكفيريّ علميًّا ودينيًّا، وتفنيد كلّ الشّبهات والإشكاليّات الّتي يطرحها
التّكفيريّون، والتّصدي الحازم لهم بتطبيق عقوبات قانونيّة ضدّ من يمارس العنف
والقتل، ويكون القضاء أيضا على ظاهرة التكفير من خلال تفعيل دور المؤسسات التربوية
تفعيلا ينهض أوّلا على ترسيخ البعد الإنساني القيمي والأخلاقي ويشمل ثانيا القضاء
على التصحر الثقافي من خلال تنشيط المؤسسات وتركيز النوادي ومن خلال إحياء نشاط
دور الشباب والرياضة والثقافة.