هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شهدت الحملات الانتخابية التي سبقت فوز الديمقراطي جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، الشهر الماضي، تواريا للملفات الخارجية لحساب المشاحنات الداخلية الساخنة، ما أضفى غموضا على العناوين الرئيسية لتوجهات واشنطن العسكرية المقبلة.
وخلال رئاسة الجمهوري دونالد ترامب، وما صاحبها من صراعات سياسية داخلية غير مسبوقة، تراوحت التكهنات بشأن المرحلة المقبلة بين احتمال اندلاع حروب مدمرة بين الولايات المتحدة وخصومها، ولا سيما الصين وروسيا وإيران، في إطار المنافسة على الهيمنة، وصولا إلى الحديث عن "انكفاء أمريكي"، وانتقال سلس إلى "عالم متعدد الأقطاب".
وتحدثت "عربي21" إلى خبيرين في الشؤون الاستراتيجية، اتفقا على استبعاد اندلاع حرب بين الولايات المتحدة والصين أو روسيا، لكنهما في الوقت ذاته لم يتفقا مع نظرية "الانكفاء" بشكلها المتداول.
وقال العميد الركن المتقاعد، صبحي ناظم توفيق، إن حربا بين اثنتين من الدول النووية الكبرى أمر غير متوقع خلال السنوات المقبلة، مستبعدا أن يكون هذا السيناريو مطروحا على سلم أولويات إدارة بايدن العسكرية.
لا تخلّيَ عن "التفوق"
وأوضح "توفيق"، في حديث لـ"عربي21"، أن استراتيجية الولايات المتحدة، حاليا وفي المدى المنظور، قائمة على "التفوق" والحفاظ عليه، "وهي كذلك منذ انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات، عندما أعلن الرئيس الأسبق جورج بوش الأب أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنا أمريكيا".
وتقوم هذه الاستراتيجية، بحسبه، "على الحفاظ على المستوى العسكري بالقوات المتاحة ومحاولة تطويرها تكنولوجيا بالاعتماد على الوسائل الأكثر تطورا من الناحية التقنية، ما قد يؤدي إلى خفض تعداد أفراد الجيش الأمريكي، والتقليل من المعدات المستخدمة، ويوفر بعض الأموال للخزينة".
اقرأ أيضا: بايدن بأول تعليق على اغتيال "زادة": لا يمكن الجزم بتداعياته
واستبعد توفيق أن يركز بايدن على سحب القوات من
الخارج، موضحا أن ذلك قد يحدث بشكل نسبي "مع الحفاظ على عديد القوات الجوية والبحرية المنتشرة حول
العالم وفي المناطق الساخنة".
وتابع بأن الحفاظ الأمريكي على القواعد البحرية والجوية
المتقدمة ضروري جدا للحفاظ على استراتيجية "التفوق"، واحتواء تهديدات القوى المنافسة.
توافق أمريكي على "الإطار العام"
وفي السياق ذاته، قال المختص بالشؤون الاستراتيجية والأمنية، عبد الله عقرباوي، إن الولايات المتحدة شهدت، منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما، تناميا لأطروحات تقدم الشأن الداخلي على حساب ملفات الانتشار العسكري، لدى نخبة واسعة من الأكاديميين والاستراتيجيين والسياسيين.
وأوضح عقرباوي لـ"عربي21" أن تلك الأطروحات، التي قد توصف بأنها تنتمي للمدرسة الانعازالية، كانت عابرة للديمقراطيين والجمهوريين.
واستدرك عقرباوي بالقول: "لا بد هنا من الإشارة إلى أن أطروحات الانكفاء تلك لا يقصد بها انحسار النفوذ، بل تحقيق نفوذ أكثر كفاءة بتكلفة أقل، ويتضمن ذلك التوسع باستخدام التقنيات والتكتيكات الحديثة".
وأضاف: "يجادل رواد هذه المدرسة أن للولايات المتحدة القدرة على تحقيق مصالحها في العديد من المناطق دون الحاجة لنشر قوات عسكرية".
وكغيرها من القضايا فقد "بدأ التباين بين الفريقين (الجمهوريين والديمقراطيين) يتعلق بآليات التطبيق ومستوياته وليس في المسار الاستراتيجي العام"، بحسب عقرباوي.
وتابع: "كانت إدارة أوباما واضحة في مسارها بالانسحاب من العراق ومن ثم أفغانستان والتركيز على إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي الذي عانى بعد الحربين، حيث كانت الأزمة المالية 2008-2009 أبرز تجليات ذلك".
وفي السياق العام ذاته، عززت إدارة ترامب سياسة إعادة الانسحاب والانكفاء للداخل الأمريكي؛ "أوباما وترامب كلاهما سعيا لتقليص الانتشار العسكري والحد من الاشتباك في العديد من الملفات والمناطق، لكن الأسلوب الديمقراطي تمتع بالدبلوماسية ومحاولة تحقيق تفاهمات مع الأطراف المحلية والإقليمية، أما ترامب فقد كان صداميا وحادا خصوصا في النصف الأول من فترته، ثم أظهرت إدارته بعض الدبلوماسية في النصف الثاني، وهو ما ظهر في الملف الأفغاني".
اقرأ أيضا: فورين أفيرز: على أمريكا قيادة تحالف دولي "ضد المستبدين"
ولذلك، بحسب عقرباوي، فإنه "يتوقع أن يواصل بايدن في الاتجاه ذاته ولكن على طريقة أوباما، وهو ما يفسر غياب الترويج لعناوين بارزة في ملف الدفاع خلال الحملات الانتخابية".
وبالعودة إلى استشراف سياسة بايدن تجاه الصين وروسيا، فمن المرجح، بحسب المختص الاستراتيجي والأمني، "أن تعود سياسة احتواء الصين التي بدأتها إدارة أوباما من خلال تعزيز الولايات المتحدة لنفوذها في المجال الحيوي الصيني في شرق وجنوب شرق آسيا والمحيطين الهندي والهادئ".
كما أن سياسات تعديل الميزان التجاري مع الصين، التي دعمها ترامب، ستجد لها مساحة واسعة في أجندة الديمقراطيين، الذي يفضلون استخدام أدوات الضغط الدبلوماسي والاقتصادي في التعامل مع القوى الصاعدة والمنافسة، وفق ما يرى عقرباوي.
وحول روسيا تحديدا، بحسبه، فإن "هناك استقرارا في المسار الاستراتيجي للعلاقة بين الجانبين ولا توجد مؤشرات على تغييرات كبرى قد تطرأ عليه".
وأوضح أن هذا المسار "قائم على محدودية دور روسيا في المجال الدولي، من جهة، وعمل موسكو من جهة ثانية على منع تمدد الولايات المتحدة في مجالها الحيوي".
لكن عقرباوي لفت إلى أن "الغموض والدعاية بشأن علاقة ترامب بروسيا قد يدفعان إدارة بايدن إلى اتخاذ إجراءات ضد روسيا من شأنها ضمان استقرار العلاقة في شكلها ومستواها الاستراتيجي".
ماذا عن الناتو والعلاقة مع أوروبا؟
يجمع الخبيران على استبعاد انهيار حلف شمال الأطلسي، أو جدية الأوروبيين في تشكيل جيش رديف له، خاص بهم، رغم كل ما قيل إبان حكم ترامب، من جهة، وتطمينات بايدن من جهة ثانية.
وقال عقرباوي: "بخصوص تلويح أوروبا بإنشاء جيش موحد رديف للناتو، فإن ذلك حدث كردة فعل للترامبية، لكن هذا المسار لا يمكن أن يمضي قدما مع اعتبار واشنطن حلف الناتو أداة استراتيجية بالحفاظ على نفوذها في أوراسيا".
واتفق "توفيق" مع تلك الرؤية، مشدد على استعداد واشنطن لخوض حرب عالمية ثالثة حفاظا على مكاسبها الاستراتيجية التي يؤمنها حلف شمال الأطلسي.
ومن جانب آخر، استنكر العميد الركن المتقاعد بشدة أن يكون الأوروبيون قادرين على تشكيل جيش خاص بهم، وذلك لأسباب كثيرة، في مقدمتها التمويل والإمكانات العسكرية.
ولفت توفيق إلى أن "الولايات المتحدة تغدق على الناتو أربعة
أضعاف ما تخصصه جميع الدول الأعضاء الأخرى.. وإذا افترضنا توفر الأموال، فمن أين
للأوروبيين تلك الإمكانات العسكرية الهائلة التي توفرها أمريكا للحلف؟".
اقرأ أيضا: بوتين: طورنا أسلحة خارقة للصوت ردا على تصرفات أمريكا
وقدر الخبير العسكري والاستراتيجي أن الإمكانات الأوروبية لا تضاهي 5 بالمئة مما هو لدى الولايات المتحدة، رغم امتلاك فرنسا وبريطانيا قدرات نووية.
وشدد توفيق على أن "الناتو منذ تأسيسه هو حلف أمريكي، وإمكانات الولايات المتحدة هي التي تشكل قوة الناتو".
إيران والشرق الأوسط
وفي الملف الذي يشهد توترا كبيرا في الأيام الأخير لإدارة ترامب، شدد عقرباوي على فصل إيران بين سياقي الرد على اغتيال العالم النووي "محسن فخري زاده" مؤخرا، وملف إعادة التفاوض على برنامجها النووي.
وقال عقرباوي إن سياسة بايدن ستكون "شديدة الصلة بمسار إدارة أوباما، التي كان الرئيس المنتخب جزءا منها، والتي توصلت إلى الاتفاق النووي"، مرجحا أن تكون واشنطن في الفترة المقبلة حريصة على العودة لذلك المربع، ولكن بشروط جديدة.
وبالمثل، رجح توفيق أن تركز إدارة بايدن مع شركائها الغربيين، على البرنامج الصاروخي الإيراني، ولا سيما الصواريخ الباليستية قصيرة المدى، بالنظر إلى امتلاك طهران ترسانة كبيرة منها، وصعوبة اعتراضها مقارنة بنظيراتها المتوسطة وبعيدة المدى.
لكن توفيق شكك بمدى استعداد طهران للاستغناء عن تلك الترسانة بالنظر إلى حجم الاستثمارات الإيرانية الكبيرة فيها، وحاجتها لها في تحقيق الردع، ما يضفي تعقيدا وحساسية على هذا الملف.
وحول ما يثار عن تشكيل "ناتو عربي"، ربما يضم الاحتلال الإسرائيلي، ضد نفوذ إيران في المنطقة، للحد من الاشتباك الأمريكي المباشر، استبعد توفيق التوصل قريبا لتفاهم أمني وتشكيل لقوات مشتركة بتلك الصيغة.
واستبعد الخبير العسكري انسحابا أمريكيا كاملا من العراق، ورجح أن تكون الإدارة الديمقراطية المقبلة، "ترى أن التغلغل الإيراني في العراق أصبح خطيرا ومؤثرا على المنطقة، ومهددا للاستراتيجية الأمريكية"، خلافا لما ظهر من توجهات إدارة أوباما.