في مرحلة من مراحل العلاج الكيماوي المتقدمة للسرطان يتساقط الشعر، فلا يمكن لعاقل أن يتوقف طويلا عند هذه الظاهرة، وهو يعلم أنه في حالة نجاح العلاج سينبت الرأس شعره من جديد ويعود إلى سابق عهده.
التطبيع هو بمنزلة تساقط الشعر وانكشاف العورات، فهو ليس المرض وإنما هو عرض من أعراض المرض أو أثر من آثار عملية العلاج، فلا ينبغي لنا التركيز على المرض والتغافل عن الغدة السرطانية التي قد تحتاج إلى عملية جراحية واستئصال أو بالعلاج الكيماوي أو النووي. لن يجدي شيئا الوقوف طويلا عند أعراض المرض وندب الحال والبكاء على الأطلال.
الدولة التي تطبع مع كيان احتلالي يجثم على قلب الأمّة القدس وفلسطين، ويمارس أعلى درجات القمع والقهر والتوحّش على أصحاب هذا البلد المحتلّ منذ ما يزيد عن سبعين عاما، وما زال مصرّا على ذات الجريمة التي مارسها لإقامة كيانه من قتل وتهجير وتدمير لبقايا الحياة من حياة الشعب
الفلسطيني، هذه الدول المطبعة التي تتغاضى عن كل هذه الجريمة؛ المشكلةُ فيها بنيوية في أصل تركيبها، أو هي مصابة بالسرطان الذي يشلّ تفكيرها ويضربها من أعماقها.
فالتطبيع مع دولة الاحتلال ليس مجرّد خطأ سياسي أو حتى خطيئة عابرة، بل إن حجم الجريمة كبير، وهي لا تخرج إلا من دولة مصابة بسرطان مريع في بنية تركيبتها الأساسية.
"مدن الملح" رواية من روائع الروائي الكبير عبد الرحمن منيف، التي حاول من خلالها رسم صورة هذه الدول في بنيتها الأساسية وتركيبة أركانها وطرائق تفكير قادتها، والعلاقة العضوية المتداخلة حتى النخاع مع حليفها المستعمر الذي يشرف ويتدخّل في كلّ شؤونها السياسية والاقتصادية، خلاصة الأمر أنها لا تملك من أمرها شيئا؛ إلا مظاهر الدولة والسطوة على مقدرات شعوبها ورقابهم؛ بغية إذلال هذه الشعوب لغايات المستعمر وأهدافه، الذي يقف فاعلا ونافذا في أعماق. هذه الدول أبعد ما تكون عن القدرة على اتخاذ القرار السياسي السيادي المستقلّ.
وفي هذا جواب شاف عندما يتساءل المواطن العربي: ما الذي يجبر هذه الدول على التطبيع؟ وماذا تستفيد؟ ولماذا تقوم بهذه الجريمة النكراء؟ هنا نتذكّر الإجابة الشافية: لماذا يتساقط الشعر للمصاب بالسرطان؟ لأن هذا عرض من أعراض هذا المرض وليس المرض نفسه. والتطبيع ليس هو الجريمة الوحيدة التي تمارسها هذه الأنظمة، بل هي واحدة من عشرات الجرائم التي أهمها:
الاستبداد السياسي ومصادرة الحريات، وقتل إرادة شعوبها والتعامل معها كما يتعامل الراعي مع القطيع، وتسليم ثروات بلدانها لأعداء الأمة، والتحالف الشنيع مع كل قوى الشرّ في المنطقة.. إلخ.
هذه الأنظمة لا تقرّ بالسرطان الرابض على صدورها ولا تريد العلاج منه، بل تتمادى وتمعن من وحي سرطانها إلى أن تأتيها القاضية ويقضي الله في أمره. والله جعل لذلك سنّة فلا يأتي للناس بالحلّ من السماء على طبق من ذهب، لو كان ذلك لتواكل الناس ولما تحركت إرادة الشعوب لتنتصر وتحقق ذاتها، هي إذن إرادة الشعوب وتوقها للحرية ولاسترداد حقها في ثرواتها المنهوبة للمستعمر، ولحقّها قبل كلّ شيء في استرداد ذاتها، التي سطت عليها هذه الأنظمة الجاثمة على صدورها.