ثَبُتَ في عقد الثورات العربية أن كل تعاطف أو انحياز مارسته بعض نخب ثقافية عربية من
فلسطين ومصر وسوريا ولبنان والعراق مع الطغاة والمستبدين، على حساب ملايين الضحايا، كان درساً بليغاً في التراجع عن دور ووظيفة المثقف.
فإذا كانت غالبية النظريات
الأخلاقية التي حملها المثقف، تدافع عن المفاهيم الاجتماعية للأخلاق تجاه بقية المجتمع، فإنها في زمن الثورات انتهت لفشل معطوف على استبعاد المثقف لنفسه عن مجاله الطبيعي، والتصاقه أكثر مع بنية السلطة الحاكمة، والأهم تبني تبريرات وذرائع الطاغية وجرائمه، بما يعني المساس بمبدأ الأخلاق والضمير، على عكس ما تحمله ادعاءات المثقف والأديب المشتغل على قضايا تعني عمومية العقل بقواعد الإنصاف والعدل والديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية.
يحضر التناقض الأساسي بين الأخلاق من جهة، والجلاد من جهة أخرى، كأساس موضوعي لاستحضار قوة الحق، والأخلاق والكرامة، بدونها كل شيء باهت، مثلما بهتت الشعارات المتخلية عن مؤازرة ضحايا القصف بالطائرات والصواريخ، والحصار والتهجير والتعذيب حتى الموت في المعتقلات، والتخلي عن ملايين المعذبين من قمع الطاغية.
يمثل الحد الأدنى للأخلاق، المبادئ التي تُميز المثقف، ومعيار الحكم على طروحاته ونظرياته، وإنتاجه الفكري الذي سمح باختبار تجربتها على أرض الواقع العربي في زمن الثورات، إلا أن هذه الثقافة منزوعة الأخلاق لبعض النخب، تعمل على إخضاع الإنسان العربي لشروط الطاغية والمستبد، مواقف وتصريحات وبيانات كثيرة، قُدمت كوصفات تغذية ودعم للأنظمة وعسكرها المتحول لعصابات تعمل على تحطيم المجتمعات، مع أن "المثقف" ضد أحكام الإعدام بأشكالها المختلفة الصادرة من هنا وهناك. إلا ان أحكام الإعدام جوعاً وتعذيبا وتهجيراً، لم تفجر خزان غضب المثقف إلا على الضحايا.
إنها بشاعة المواقف "الاحترافية" لنخب عربية تفوقت ببلاغة الإنكار للجرائم على "سيف" الإعدام والمشانق، ولا نستثني من هذا الوصف القاعدة العريضة لأنظمة تمارس
جرائم حرب مشبعة بتعاليم الحقد والكراهية الدميمة، التي تربط السَيّاف مع الطيار، والقناص وضابط الحصار والجزار في مسلخ التعذيب.. الرابط فيما بينهم أن الجميع مُزهِقون للأرواح، أما الإدانة للإعدام دون ذلك تكون باهتة وتعفي مسؤوليتها الأخلاقية عن إدانة فاشية متجبرة بالإعدام جوعا للبشر أو تحت التعذيب.
في الأسبوع الأخير من نهاية العام الماضي، أصدر "اتحاد أدباء وكتاب فلسطين" في رام الله بيانا باسم زعيمه "مراد السوداني"، وُصف بالتوضيحي لواقعة موت روائي فلسطيني معتقل، ينكر فيه صفة الروائي للمتوفى وعدم معرفة الاتحاد به مسبقاً، ولا يدين واقعة الاعتقال لربع قرن من أجل مخطوط رواية تتعلق بالأسد الأب.
وبعيداً عن فقرات البيان الممجوجة بالمؤامرة ووصلة "التهويل" المرتبط بأجندة خارجية يقوم بها الفلسطينيون، إذا فقدوا عزيزا تحت التعذيب في فرع فلسطين، فإن البيان ينتمي لجملة مشابهة من بيانات ومواقف، تخص أدباء من فلسطين ولبنان ومصر والعراق وسوريا بما يخص دعم المستبدين. هي اللامبالاة الأخلاقية التي تجعل من مبررات الاعتقال والموت تحت التعذيب أو القصف أكثر "واقعية" من خلال الاحتكام لرواية الأنظمة القمعية، وأجهزة مخابراتها التي أصبحت النبع المغذي لمعرفة الأديب والمثقف.
الإشارة للحق بالعدالة والحرية والكرامة والمواطنة والتنمية، كمفاهيم أخلاقية، هي التي تسمح بمقاربة مسألة العلاقة بينها وبين النخب العربية والفلسطينية، التي قدمت أطنانا من التحليلات النظرية للتعريف بها وبدورها في معركة بناء الوعي العربي، لمواجهة التحديات المتعلقة بهذه المفاهيم أو بالتحرر من الطغاة للتحرر من الاحتلال، والتي تؤدي نتائج ممارستها بشكل مباشر إلى التغيير المنشود على هذا الصعيد.
تبني السلوك الذليل لنخب عربية أمام الطاغية المجرم والمستبد، لا صلة أخلاقية لها، وتقود المرء بسهولة للاعتقاد بأن الأفعال والمواقف، خارج ما يزعمه الروائي والشاعر والفنان والأديب والمثقف، تجعلنا نفكر في الطبيعة الأخلاقية أو غير الأخلاقية الافتراضية لهذه السلوكيات في زمن استئصال النخب العربية للأخلاق، وترسم استنتاجاً معطى لسؤال الفكرة القائلة عن تفضيل النخب الانحياز للسلطة في زمن الثورات والقمع.
أخيراً، يعطي الواجب الأخلاقي للمثقف ارتباطا قوي بقواعد العدالة والحرية والمساواة، وعدم التجانس معها يظهر أن تحديد هذه القواعد كمفهوم للمجال الأخلاقي لأي ممارسة فعلية تكون بالتمسك والعمل بها، أما ما شهده العالم العربي في عشرية العقد الثاني الفائت فتدعونا مؤشراته الثقافية إلى الاعتقاد بأن مزيدا من التداعي ينتظر هذا المستقبل الممتلئ بخذلان المثقفين لأنفسهم وشعوبهم وأخلاقهم.
twitter.com/nizar_sahli