هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
رأيناهم على الشاشات يصرخون "والله العظيم تعبنا" بوجوه مكممة لا تخفي حزنهم وقلقهم بعدما طردوا من عملهم وأصبحوا عالقين بين ماض يتنكر لهم ومستقبل يرفضهم وأزمة اقتصادية يسببها فيروس لا ينبئ إلى اللحظة بخير.
يخبرنا مشهد العمال العالقين، في قطر أو صحراء الكويت أو ميناء ضبا بالسعودية أو غيرها من الدول "المتحضرة"، عن قسوة لم تترك فرصة للعالقين سوى مخاطبة "من يهمه الأمر" عبر وسائل التواصل ومناشدة حكوماتهم التي أشاحت هي أيضا بوجهها عنهم.
أما وجوه العمال المتعبين، رغم مشاهدتنا لها، فإننا لا نعرف الكثير عن ما وراءها، لم نسمع القصص المخبأة وراء العيون، ولم نفهم تاريخ حناجرهم المتألمة، ذلك لأننا لا ندرك معنى أن تكون عاملاً مغترباً في دول الخليج.
دائماً ما كان حال العمال الوافدين إلى الخليج منتقدا، ولم يكن بحاجة إلى وباء عالمي ليؤكد المفارقة الإنسانية التي تعيشها دول تسعى للتحضر والتطور على حساب أعمار وأحلام الفقراء والضعفاء المغتربين عن وطنهم.
لا توجد أسرة عربية لم تتعرف على حقيقة الغربة من قريب أو بعيد، ولكن لا يحظى الكثيرون على الفرصة التي حظي بها الأنثروبولوجي الفنلندي صامولي شيلكه بمشاركة المغتربين المصريين حياتهم والسماع لقصصهم والانتباه إلى تفاصيل حياتهم وتحويلها إلى كتاب شيق.
يكلمنا صامولي في كتابه "حتى ينتهي النفط: الهجرة والأحلام في ضواحي الخليج"، عن المصريين الذين انتقلوا للعمل في قطر، وعن قوة الحلم في تحريك وتشكيل حياة المصري الذي يواجه الاستغلال والبؤس، ولا يزال يحافظ على أمله وتطلعاته للمستقبل.
قوة الحلم وقسوته
وتعد الأحلام، كما يستنتج شيلكه، المحرك الأساسي للهجرة، التي تكون سبباً في دفع صاحبها لتحسين أوضاعه المعيشية وتحصيل حياة طبيعية. لا يملك أصحاب الأجور المتدنية من المهاجرين أحلاماً تعجيزية، فهي تدور غالباً حول هدفين: ادخار بعض النقود للخطوبة أو الزواج، والتعايش مع وضع الحياة بشكل يحافظ على درجة من الإنسانية.
ولكن ذلك لا يعني سطحية الحلم وبساطته، واتباعه المعهود فقط، فالأحلام مقترنة بمجموعة من التحديات والتطورات التي قد تفضي بالحلم إلى مكان بعيد عن مخيلة صاحبه. إن قوة الخيال، كما يرى صامولي، تكمن في أنها "تبث الاضطراب في المألوف والتقليدي، لكن في الوقت ذاته تعزز الحلم التقليدي بإعادة إنتاج المألوف".
وتغيب كثير من المعايير الإنسانية في الغربة التي وصفها العمال بالسجن الأكبر، ويضيع الطموح وسط عمل ممل، كحراسة مبنى، ليس له نفع في كثير من الأحيان سوى تعزيز البريستيج الرأسمالي الخليجي، وفق قوله.
لذلك، فإن العودة هي كل ما يفكر به المغترب. هذا ما يقوله أحد العمال الذين قضوا في دولة خليجية أكثر من سبع سنوات، وتعتمد أسرته في مصر على عمله: "أنا تعبت. أنا تعبت هنا. نفسي أرجع. لكن مقدرش أرجع، حنعيش منين؟ لازم أستحمل كمان سنة".
يتحول حلم المغترب من السفر والخروج من مصر إلى حلم العودة وذلك لصعوبة -وأحياناً استحالة- القدرة على العيش في الوطن والبدء من جديد، إضافة إلى وصم الفشل القاسي الذي قد يضفيه المجتمع عليه.
لذلك يرى شيلكه أن المصري المغترب يعيش تجربة مزدوجة للغربة، حيث تكون غربته عن وطنه ثم يزيدها قسوة شعوره بالغربة عن الحياة حتى يصبح سؤاله "هل احنا بنعيش هنا؟".
لماذا لا نعرف الكثير عنهم؟
"الناس مش عارفة يعني إيه الواحد يبقى هنا في الخليج. كل اللي يعرفوه إن الخليج فيه فلوس"، يقول أحد العاملين المغتربين في قطر لصامولي، مؤكدا أن هناك مفارقة بين الواقع وما يتصوره الناس -أو حتى المغترب قبل هجرته- عن العمل في الخليج.
تنتج تلك التصورات توقعات عالية تفترض الثراء والنجاح الباهر للعامل في دول الخليج، وترسم هالة حول فكرة الهجرة تجعل منها حلماً مقدساُ لا يمكن المساس أو التشكيك به.
يتداول الناس حلم الهجرة ويمرروا الكذبات المرافقة لهذا الحلم البعيد عن الواقع، وتتراكم الكذبات التي سيحافظ عليها المهاجر نفسه ليخفي عن أهله في الوطن حقيقة المأساة التي يعيشها. حتى بظهور تقارير صحفية أو تغطيات اعلامية لانتهاكات حقوق العاملين، سيفضّل العامل المغترب عدم التعليق عليها، والتسبب في قلق للعائلة أو تخييب آمالهم التي تفترض نجاحه.
يؤكد صامولي من الأشخاص الذين قابلهم أنهم لا يمانعون تقديم المعلومات الصادقة التي تكشف مأساة حالهم إلى أنثروبولوجي مثله، ولكنهم "سوف يلعبون دورهم في الحلم الذي نصب لهم… سوف يتزوجون بالنقود التي ربحوها وسوف يكونون صورة للنجاح المتوقع منهم، ومن ثم سيدفعون آخرين إلى السير على خطاهم".
لا يقف الجهل المحيط بأوضاع العمال المصريين على سطوة الحلم والأوهام التي تزينه، ولكن لا يملك كثير من الناس رفاهية مراقبة المأساة نفسها من الداخل. ومن هنا تنبع أهمية الكتاب الذي يقدم لنا سردية غريب إلى غريب، حيث يكون الكلام و "الفضفضة" بلا عواقب.
إن هذا النوع من المعرفة التي تقترب من الحالة الانسانية للعمال وتقربنا من تجاربهم الوجدانية لا يملك أدواتها كثير من العرب لحاجتها إلى رفاهية المعيشة والتنقل، والانشغال بما هو خارج عن نطاق تحصيل لقمة العيش، وهو ما يملكه أنثروبولوجي مثل صامولي شيلكه.
ما يفعله صائد الأحلام
يعد شيكله من الأنثروبولوجيين القلائل الذين وعوا مبكراً بالمشروع الاستشراقي، فقرر الفرار منه والاتجاه نحو الأنثروبولوجيا باحثاً عن المعلومات النوعية المعتمدة على معايشة التجارب الشخصية. ينطلق شيلكه في دراساته الاثنوغرافية من قاعدة مفادها أن الإنتاج العلمي هو إنتاج مشترك لا يعتمد فقط على الباحث وإنما على التفاعل المتبادل بين الباحث والأشخاص الذين يتفاعلون مع موضوعاته ويكونون جزءً منه.
تنتمي هذه المنهجية الحديثة إلى مدرسة الأنثروبولوجيا الوجودية التي أسس لها الأنثروبولوجي النيوزيلاندي مايكل جاكسون وهي قريبة من المدرسة التأويلية المعتمدة لدى الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز. تسعى الأنثروبولوجيا الوجودية إلى فهم وتوصيف الواقع بأبعاده المتشعبة وقدرته على الانفلات من خلال المشاركة بحياة حقيقية تسمح بتجلي ذلك الواقع للإنسان.
يقودنا هذا للتساؤل: هل شارك صامولي شيلكه المصريين المغتربين حقيقة واقعهم؟
بعد انتهائه من تقديم محاضرة عبر الإنترنت عن الغربة والأحلام في الخليج، وجهت له سؤالي بعد أن كان فضولي قد ازداد عن صامولي شيلكه، عن تجربته الشخصية مع الغربة وما الذي يفعله بين المصريين.
أجابني بلكنته المصرية التي أخذت منه عشر سنوات لإتقانها: "مصر بقت جزء من حياتي من أيام الدراسة كأنه أصبح لي وطن تاني أو تالت، ماعرفش لأني كمان مقيم بألمانيا من زمان مع إني معنديش انتماء لألمانيا بس بنفس الوقت أنا حاسس بالألفة هنا".
بدأت علاقة شيلكه بالتجذر مع مصر منذ عام 1997 عندما توجه إليها لدراسة اللغة العربية ليبدأ رحلته في تحطيم الصور النمطية لديه عن الثقافة المصرية والعربية. منذ لحظة عثوره على أستاذ مصري يدرسه اللغة، استمر شيلكه في تطوير علاقاته الاجتماعية في الوسط المصري بخلفياته المتنوعة، والاقتراب من الظواهر التي تتشكل حوله.
شارك المصريين تفاصيل حياتهم وحاول تفسير سلوكياتهم والتغيرات الاجتماعية والدينية والسياسية، فكان من المشاركين في الثورة المصرية ثم أصدر كتابه: "هتتأخر على الثورة: دفتر يوميات عالم أنثروبولوجيا شهد الثورة".
وجد شيلكه أحلام المصريين في بلادهم متطلعة إلى الخارج، رغما عنهم، فقرر اللحاق بتلك الأحلام التي شاركها أصحابها معه طمعاً في تعريف العالم بأحوالهم وأملاً في تغييرها. كانت رحلة شيلكه إلى قطر، وقضائه مدة مع المهاجرين العاملين في شركة أمن، كفيلة ليخرج بخلاصة مفادها: "أنه ليس من الممكن فهم مصر بشكل منفصل عن فهم الأماكن التي يهاجر المصريون إليها للعمل".
ومع هذا الترابط والألفة بين شيلكه ومصر، إلا أن شيلكه في الحقيقة سيظل غريباً، ليس في مصر فقط، وإنما في بلده أيضاً كما أكد في مقابلة تلفزيونية عندما سأله الكاتب والصحفي بلال فضل عن ما إذا كان يفكر بالعودة إلى فنلندا، فكانت إجابته: "أنا لو رجعت، دي تبقى هجرة جديدة".
ولعل هذه واحدة من الصفات التي يتميز بها الإثنوغرافي الجيد، أن يكون قادراً على العيش في المنتصف، أن يكون جسراً بين النقيضين، بين الثقافة والأمية، الفقر والغنى، الأمل واليأس، يطارد الأحلام وعينه على الواقع.