كتاب عربي 21

العلاقات التركية البريطانية بعد بريكسيت

إسماعيل ياشا
1300x600
1300x600
سألني قبل فترة أحد أصدقاء شقيقي هل بإمكاني أن ألقي لهم محاضرة، وأضاف قائلا: "نريد منك أن تتحدث فيها عن مؤامرات الإنجليز". واستجبت لطلبه، ولكني قلت له إني لا أعرف كثيرا عن تلك المؤامرات، ويمكن أن ألقي محاضرة عما يسمى "صفقة القرن" وما يحيط بالقدس الشريف والمسجد الأقصى من مخاطر.

هناك اعتقاد سائد في تركيا عموما، وبين الإسلاميين على وجه الخصوص، بأن الإنجليز وراء معظم المؤامرات التي تجري في العالم، بما فيها تلك التي تستهدف تركيا. ومن المؤكد أن هذا الاعتقاد مبالغ فيه، وبعيد عن الواقع، كما تؤكد أحداث التاريخ وتطورات اليوم. ولا داعي لإلقاء اللوم على بريطانيا أو غيرها، بدلا من مراجعة الأخطاء، واستخلاص الدروس والعبر منها كي لا تتكرر. وليست بريطانيا هي من أسقط الدولة العثمانية، بل الأخطاء المتراكمة التي ارتكبتها الأخيرة هي التي أدت إلى انهيارها، ومن أبرز تلك الأخطاء انضمامها إلى دول المركز في الحرب العالمية الأولى.

بريطانيا حاولت حتى اللحظة الأخيرة أن لا تسقط الدولة العثمانية، وكلما استهدفها الروس سعت إلى نجدتها. ومن المؤكد أنها لم تفعل ذلك لعيون العثمانيين، بل من أجل مصالحها التي كانت تقتضي آنذاك أن تبقى الطرق البحرية العابرة من البحر الأبيض المتوسط إلى الهند آمنة، وأن لا يسقط مضيقا البوسفور والدردنيل بيد الروس، وحين أيقنت أن سقوط الدولة العثمانية أمر حتمي لا مفر منه شاركت في تقاسم الكعكة للحفاظ على مصالحها في المنطقة.
هذه الاتفاقية لن ترفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وبريطانيا فحسب، بل ستكون لها تداعيات سياسية، وستفتح الطريق أمام أنقرة ولندن للتعاون والتنسيق في مختلف الملفات

تركيا وبريطانيا وقّعتا في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2020 اتفاقية تاريخية للتبادل التجاري الحر بين البلدين، تشمل جميع المنتجات الصناعية والزراعية. وجاءت هذه الاتفاقية بُعَيْدَ توقيع لندن اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي، لتعلن بريطانيا بذلك أن تركيا ستكون من أهم شركائها في مرحلة ما بعد بريكست. ومن المؤكد أن هذه الاتفاقية لن ترفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وبريطانيا فحسب، بل ستكون لها تداعيات سياسية، وستفتح الطريق أمام أنقرة ولندن للتعاون والتنسيق في مختلف الملفات.

العلاقات التركية البريطانية تتطور في الآونة الأخيرة، وتسير بهدوء نحو مراحل متقدمة للحفاظ على مصالح البلدين، في ظل أوضاع عالمية مضطربة بسبب جائحة كورونا، وتقلبات إقليمية ودولية. وقال السفير البريطاني في أنقرة، دومينيك شيلكوت، في تعليقه على اتفاقية التجارة الحرة، وفقا لصحيفة "حرييت" التركية، إن بريطانيا تتطلع إلى توقيع اتفاقية أوسع مع تركيا خلال سنوات لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين أنقرة ولندن.

تركيا حققت في السنوات الأخيرة نجاحات باهرة في مجال الصناعات الدفاعية، ولديها مشاريع عديدة في ذات المجال. ومن أهم تلك المشاريع، تطوير طائرة حربية تركية من الجيل الخامس، وتدعم بريطانيا هذا المشروع عبر شركة بي آي إي سيستمز المتخصصة في الصناعات الجوية والدفاعية. وذكر السفير شيلكوت، في حديثه لقناة تي آر تي وورلد، أن المرحلة الأولى للمشروع ستستكمل قبل الموعد المحدد، وأن الشركة البريطانية راضية عن سير العمل. وقد تفتح اتفاقية التجارة الحرة أبواب التعاون بين تركيا وبريطانيا لإنجاز مشاريع أخرى، سواء في الصناعات الدفاعية أو مجالات أخرى.
بريطانيا بحاجة إلى شركاء بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتدرك لندن أنها لن تجد شريكا أفضل من تركيا في هذه المرحلة، للتقليل من تأثيرات بريكست السلبية وخلق توازن مع منافساتها في القارة العجوز. كما أن تركيا تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنها في ذات الوقت تحرص على تنويع علاقاتها الاستراتيجية

بريطانيا إحدى الدول الثلاث الضامنة للسلام في جزيرة قبرص، إلى جانب تركيا واليونان، ويعني دخول فرنسا وروسيا على الخط في الأزمة بين تركيا من جهة واليونان والقبارصة الروم من جهة أخرى، تراجع دور لندن في هذا الملف، وهذا يهدد بالتأكيد المصالح البريطانية سواء في جزيرة قبرص أو منطقة البحر الأبيض. وفي الأيام المقبلة، يمكن أن نرى تعاونا بين أنقرة ولندن في ملف قبرص، بالإضافة إلى ملفي ليبيا وشرقي المتوسط.

بريطانيا بحاجة إلى شركاء بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتدرك لندن أنها لن تجد شريكا أفضل من تركيا في هذه المرحلة، للتقليل من تأثيرات بريكست السلبية وخلق توازن مع منافساتها في القارة العجوز. كما أن تركيا تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولو بحماس أقل من ذي قبل، ولكنها في ذات الوقت تحرص على تنويع علاقاتها الاستراتيجية مع عدد من الدول وفي كافة الاتجاهات، لتبعث رسالة إلى العواصم الأوروبية مفادها أن أنقرة ليست مضطرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بأي ثمن، ومن المؤكد أن الشراكة التركية البريطانية الاستراتيجية ستقوِّي مفعول تلك الرسالة.

twitter.com/ismail_yasa
التعليقات (0)