هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كان صيف عام ٢٠١٨ تاريخا فاصلا في حياة الشابة "أ.م" من الداخل الفلسطيني المحتل، فجريمة قتل شقيقها الأصغر في منتصف شهر أيار/ مايو آنذاك، كانت وما تزال حدثا يؤرق أيامها ويرهق تفكيرها.
ومع كل جريمة قتل جديدة يُفتح جرح الشابة وعائلتها، لتمر مجددا بكل الألم الذي عانت منه، واللحظات القاسية الطويلة التي سلبت منها كل ما يدعو للفرح، وهذا يعني أنها ما زالت تعاني الكثير، لأن عداد الجرائم ما زال مستمرا، بل ويتصاعد تدريجيا.
أكثر من مئة ضحية فلسطينية سُجلت خلال عام ٢٠٢٠، الذي اعتبر الأكثر دموية جراء جرائم العنف في الداخل الفلسطيني المحتل. ومنذ بداية العام الحالي، سُجلت أكثر من ثماني جرائم قتل، إلى جانب عمليات إطلاق نار وإصابات وترويع، لكن الأهم هو ما يمارسه الاحتلال من دور خفي في كل هذه الجرائم.
تجاهل الأدلة
خرجت الشابة "أ.م" وأفراد عائلتها على صوت طلقات نارية في الغرفة الخارجية التابعة لمنزلها، لتجد شقيقها غارقا بدمائه وقد استقرت عدة رصاصات في جسده، وبكل دموع القهر والحيرة ودعته منتظرة محاسبة القاتل.
وتقول لـ"عربي٢١" إن القاتل كان موجودا بسلاحه حين وصلت الشرطة إلى مكان الجريمة، لكنها لم تفعل شيئا، وتركته يذهب دون حتى استجوابه، وحين حاولت العائلة إقناع الشرطة بالأدلة، تم تجاهل ذلك وكأن شيئا لم يحدث، وما زال القاتل طليقا حتى الآن.
بعد ذلك بأشهر قليلة وفي بداية عام ٢٠١٩، قُتل أحد أقرباء الشابة بطلقات نارية وهو يقود دراجة نارية، وبعد التأكد من قتله تبين أنه ليس المستهدف من الجريمة، ليكبر الجرح أكثر في قلب العائلة التي قررت الخروج عن الصمت المعهود.
اقرأ أيضا: نجل اغبارية: حالة والدي حرجة وثمة اغتيال ممنهج لفلسطينيي 48
وتوضح "أ.م" أن القتلة كانوا معروفين، وتم توثيق الجريمة عبر آلات المراقبة الموجودة في الحي، وبعد تقديمها لشرطة الاحتلال لاعتقالهم ادّعت أنها أدلة غير كافية، ورغم أن عائلة القاتل أبدت استعدادها للرحيل من المدينة حقنا للدماء، شرعت الشرطة بإقناعها بأنه لا توجد أدلة على أن القاتل هو ابنها، وبالتالي أصبح من الواضح أن الاحتلال لا يتجاهل فقط هذه الجرائم، بل يشكل عائقا أمام التخلص منها.
وعمت عدة مظاهرات ووقفات احتجاجية مدينة الشابين تحت هتاف واحد "في دليل وفي شاهد والشرطة ما بتساعد"، في محاولة لحث المجتمع الفلسطيني في الداخل على التنبه للخطر الذي تغرسه سلطات الاحتلال.
وتقول إنه بعد أسابيع من الفعاليات الاحتجاجية أصبح المطلب أكثر صعوبة، فالاحتلال واقع مفروض ولا يريد التراجع عن دعم هذه الجرائم، وفي الوقت ذاته أصبح اليأس يتسلل إلى المتظاهرين بسبب استمرار الجرائم.
وتضيف: "القضية ليست عصابات أو مافيات، بل هي مجموعة فتية يقدم لهم السلاح ويقررون أن يقتلوا، فالقضية هي بالأصل توفير السلاح لهم، وأي مشكلة تحدث لم تعد تقتصر على الضرب فقط، بل تنتهي بالقتل".
وبدأت حالات القتل هذه تنتشر في مدن الداخل الفلسطيني منذ عام ٢٠٠١، ولذلك يعزو الفلسطينيين انتشارها إلى رغبة الاحتلال في إلهاء الفلسطينيين بها بعد هبّة القدس والأقصى التي شهدتها مدن الداخل رفضا للانتهاكات التي تعرض لها المسجد الأقصى المبارك.
وتشير الشابة إلى أن سلاح الشرطة أصبح هو المستخدم في الجرائم بطريقة ما، فهي تتذرع بانتشار الجريمة، لتفتح مركزا لها في بلدة أو مدينة فلسطينية، ليصبح مركزها هو مخزن السلاح الذي يستخدم في جرائم القتل.
أرقام صادمة
وفي ظل هذا التصاعد المخيف للجرائم، أصدرت جمعية الشباب العرب "بلدنا"، بالتعاون مع جامعة (كوفنتري) في بريطانيا، تقريرا إحصائيا يرصد العنف على مدار السنوات التسع الأخيرة تحت عنوان "تسع سنوات من الدم".
ويتحدث التقرير الذي أنجزه طاقم من الباحثين لأول مرة، عن ظاهرة العنف وجرائم القتل في المجتمع الفلسطيني بين السنوات 2011 - 2019، وذلك عبر السعي لفهم خصائص انتشار هذه الظاهرة من خلال معرفة الأرقام والإحصائيات الحقيقية عن الضحايا، مسلطا الضوء على الشرائح الاجتماعية المستهدفة وأعمار الضحايا، وأماكن انتشار جرائم القتل، والأدوات التي استخدمت في العنف والجريمة، وذلك في ظل نقص المعلومات والإحصائيات الرسمية التي من المفترض أن توفرها الشّرطة الإسرائيلية بما يتعلق في تفشي وانتشار الظاهرة.
وخلصت النتيجة إلى أن فوضى السلاح وإطلاق النار من أهم الأسباب لجرائم القتل، واتضح أن 74% من الجرائم نفذت باستخدام السلاح وإطلاق النار، يليها استعمال السلاح الأبيض والطعن بنسبة 14%، إذ إن المعدل السنوي هو 64 جريمة، علما أنه خلال العام 2019 سجلت 85 جريمة.
مسؤولية مجتمعية
المحامي خالد زبارقة أكد أن أسباب العنف متعددة، منها ما يتعلق بالمجتمع العربي نفسه، ومنها ما يتعلق بالسلطات الرسمية الإسرائيلية.
ويقول لـ"عربي٢١"، إنه فيما يتعلق بالمجتمع العربي في الداخل المحتل، فقد حصلت عملية تغيير اجتماعي واضح، أدت إلى عدم التوازن داخل المجتمع، وعملت على خلق أرضية ملائمة لبروز مثل هذه الظاهرة المرضية.
وأوضح أنه من أجل ذلك على الجميع أن يتنبّه إلى هذه التغييرات التي تحصل الآن في المجتمع بين الجيل الشبابي الذي زرعت في أذهانهم ووعيهم أفكار خطيرة جدا، مبينا أن هناك مسؤولية على الأفراد والأسر والقبائل والمجتمع والقيادات الاجتماعية والدينية والسياسية بأن تأخذ دورها بالتصدي لهذه الآفة المرضية.
اقرأ أيضا: الاحتلال يستعد بـ2021 لموجة هجرة جديدة.. كم بلغت في 2020؟
أما فيما يتعلق بدور السلطات الإسرائيلية، فأشار زبارقة إلى أنه بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في عام ٢٠٠٠، وحين رأى الاحتلال حجم التفاعل والانخراط في الدفاع عن المسجد الأقصى وتحدي سياسات التهويد التي قام بها رئيس المعارضة الإسرائيلية في حينه "أريئيل شارون"، قامت لجنة تسمى "أور" بالتحقيق في موضوع تفاعل المجتمع العربي في الداخل مع قضايا الشعب الفلسطيني العامة وتحديدا المسجد الأقصى.
وأضاف: "في إحدى توصيات اللجنة، رأت أن تفاعل المجتمع يشكل خطرا على المشروع الصهيوني برمته، لذلك بدأوا بسياسات جديدة منذ ذلك الحين، وهي تفكيك المجتمع العربي من الداخل، وإحداث انفجارات داخلية لتفكيكه، وليغوص في مشاكله الخاصة ودمائه وفي أمنه الشخصي، وكي يفقدوه الشعور الأساسي في حياة كل إنسان، وهو الشعور بالأمن الشخصي، من أجل أن يمرروا كل المخططات على مجتمعنا".
ولفت المحامي إلى أن المجتمع العربي في الداخل كان له أثر كبير في نصرة القضايا الكبيرة والمركزية في حياة الفلسطينيين وكل تفريعاتها، سواء نصرة المقدسات أو نصرة الهوية العربية الإسلامية أو نصرة الثوابت.
وتابع: "في عدة مؤتمرات خاصة مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي، تم وضع الديموغرافيا العربية كأحد أبرز المخاطر التي تتهدد وجود الدولة، وهم يتعاملون مع الوجود العربي كهدف يجب التخلص منه، ويجب محاربته وتفكيكه وإخضاعه والسيطرة عليه وتوظيفه في خدمة المشروع الصهيوني كما يعتقدون".
ورأى زبارقة بأنه يجب النظر بعين الصراحة والموضوعية لخطر الجرائم الذي يشكل تحديا كبيرا للقيادات بكل أنواعها في الداخل المحتل؛ للتصدي لهذا النوع من الأمراض، ولكن رغم كل ذلك يجب تقوية المناعة والحصانة الداخلية للمجتمع حتى يتم التصدي ولجم هذه الظاهرة.
وأوضح أن هناك تفاعلا كبيرا في المجتمع العربي في الداخل على كثير من المستويات، ولكنه غير كاف، ولا يرتقي حتى الآن لمستوى التحدي والخطورة، وهو بلا شك يراكم وعيا يوما بعد يوم، وفي آخر المطاف سينتصر الفلسطينيون على هذه الظواهر؛ لأنه باتت هناك قناعات عند مجمل المجتمع العربي بالدور الوظيفي الذي تقوم به السلطات الإسرائيلية في تغذية هذا العنف داخل المجتمع الفلسطيني.