هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تُعد قضية دخول العلماء والوعاظ على الحكام والاتصال بهم، من المسائل الخلافية التي يدور حولها جدل فقهي بين أئمة العلم وأهله قديما وحديثا، فثمة من يرى جواز الاقتراب منهم والدخول عليهم والتواصل معهم لتقديم النصح والإرشاد لهم، وفي المقابل هناك من يشدد في منع ذلك ويحذر منه تحذيرا شديدا.
وفي الوقت الذي يجادل فيه المجيزون بأن الاتصال بالحكام والدخول عليهم يُحقق مصالح عامة لعموم المسلمين وأفرادهم، ويقلل من شيوع المنكرات بين المسلمين، يتشبث المانعون بأحاديث نبوية وآثار للصحابة والتابعين، وأقوال للأئمة المجتهدين، تمنع ذلك وتحذر منه، وهو ما يُشكل جدلية فقهية تنعكس آثارها على آراء أهل العلم ومواقفهم قديما وفي زماننا.
من الرسائل الشائعة التي تحذر من اتصال العلماء والدعاة والوعاظ بالحكام رسالة (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) للإمام جلال الدين السيوطي، أورد فيها الأحاديث النبوية المحذرة من إتيان السلاطين والدخول عليهم، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، متحدثا عما في ذلك من وجوه الفتن والفساد، ومفصلا الأحكام الفقهية التي تميز بين ما يكون محظورا ومكروها منها وبين ما يكون مباحا.
وفي المقابل فقد ألف العلامة اليمني محمد بن علي الشوكاني رسالة بعنوان (رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين) انتصر فيها للقول بجواز اتصال العلماء والوعاظ بالحكام لما في ذلك من مصالح جليلة تعود على البلاد والعباد، ودافع عنه بقوة، ذاكرا ما في ذلك من وجوه المصلحة، ومفصلا الأحكام الفقهية المتعلقة بدخول العلماء على الحكام واتصالهم بهم.
ومما قاله في تقرير ذلك بعد أن ذكر الأسباب التي تدعو لتواصل العلماء بالحكام "وعلى كل حال فمواصلته ـ أي السلطان ـ لتلك الأسباب لا يتردد أحد في جوازها، بل قد تكون في بعضها حسنا، بل قد تكون واجبا إذا لم يتم الواجب إلا به، أو لم يندفع المحرم إلا به، وهذا لا يخفى على أدنى الناس علما وفهما، والممنوع هو مواصلته لا لمصلحة دينية تعود على فرد من أفراد المسلمين، أو أفراد إذا ترتب على ذلك مفسدة..".
واستحسن الفقيه السعودي، محمد بن صالح العثيمين في تعليقاته على رسالة الشوكاني سابقة الذكر ما قرره من جواز اتصال العلماء بالحكام لجلب منفعة، أو دفع مفسدة، مثنيا على كلامه وواصفا له بـ"الجيد"، مستنكرا رأي من يدعو إلى رفض "العمل بما ينفع المسلمين تحت ظل الولاة الظلمة".
وأضاف: "فالواجب على الإنسان أن يعمل بما فيه مصلحة المسلمين، ويسأل الله الهداية للولاة الظلمة، وبهذا نعرف خطأ من ينفرون من الوظائف في البلاد التي يكون ولاتها غير مستقيمين على شرع الله، إما من العلمانيين، أو من المحكمين للأنظمة والقوانين المخالفة لشريعة الله..".
وفي بيان آراء العلماء ومواقفهم من قضية الدخول على الحكام والاتصال بهم، أوضح الباحث والمحقق الأردني، عماد المصري أن "السلاطين من حيث الدخول عليهم ينقسمون إلى صنفين: الأوك: العامل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والثاني: المضيع لحكم الله وسنة رسوله".
وأضاف: "هناك من نهى من السلف الصالح عن الدخول على السلاطين ولو كان واعظا لهم، قال أبو الفرج بن الجوزي: ومن صفات علماء الآخرة أن يكونوا منقبضين عن السلاطين، محترزين عن مخالطتهم، قال حذيفة رضي الله "إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول: ما ليس فيه".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "وهناك من كره الدخول على السلاطين مخافة الافتتان، قال ابن مفلح من فقهاء الحنابلة "والظاهر كراهته إن خيف منه الوقوع في محظور، وعدمها إن أمن ذلك فإن عري عن المفسدة واقترنت به مصلحة من تخويفه لهم ووعظه إياهم وقضاء حاجته كان مستحبا، وعلى هذه الأحوال ينزل كلام السلف وأفعالهم".
وتابع المصري إيراد كلام ابن مفلح "وأما الإمام العادل العادل فجوّز طائفة الدخول عليه، فقد كان عروة بن الزبير وابن شهاب وطبقتهما من خيار العلماء يصحبون عمر بن عبد العزيز، وكان الشعبي وقبيصة بن ذؤيب والحسن وأبو الزناد ومالك والأوزاعي والشافعي وغيرهم يدخلون على السلطان، وعلى كل حال فالسلامة الانقطاع عنهم كما اختاره أحمد وكثير من العلماء".
وعن الروايات الحديثية التي وردت في ذم إتيان السلاطين كقوله عليه الصلاة والسلام "من أتى أبواب السلاطين افتتن" فهو محمول على من أتاه لطلب الدنيا، وفق ما نقله المحقق المصري، لا سيما إن كان ظالما جائرا، أو على من اعتاد ذلك ولزمه فإنه يخاف عليه الافتتان والعجب بدليل قوله في اللفظ الآخر "ومن لزم السلطان افتتن".
أما عن الدخول على الحكام والأمراء في هذا الزمان، فذهب المصري إلى أنه "لا يجوز الدخول عليهم لأنهم باب فتنة، والأمثلة كثيرة ماثلة أمام الجميع، تنادي بأعلى صوتها على من خان الله ورسوله فأفتى بجواز التطبيع مع الكيان المحتل، وجواز بناء ثلاثة دور للعبادة في مكان واحد لغير المسلمين، وهذا لا يجوز وكلام الأئمة والعلماء بهذا الخصوص واضح ومفهوم".
من جهته أرجع الأكاديمي السوري، المتخصص في الفقه الاجتماعي، الدكتور إبراهيم سلقيني أسباب اختلاف العلماء "بشأن اقتراب العلماء من الحكام والدخول عليهم إلى اختلافهم في تقدير المصالح والمفاسد من ذلك الاقتراب، وهل الأولى الاقتراب أم الابتعاد؟ وهل الابتعاد ينتج عنه مزيد بعدهم عن الدين، أم الاقتراب منهم ينتج عنه ضرر في دين الناس وتلميع صورة الحكام"؟.
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول "وعليه فالاقتراب من الحكام له ضوابط شرعية لا يجوز إهمالها، من ذلك أن يكون العالم متحليا بعزة الإسلام لا بذل التبعية والخضوع لصاحب السلطة الدنيوية، وهذا لا يتحقق في زماننا إلا بقوة المؤسسة الدينية؛ لأن العزة للأفراد غير متحققة في زماننا".
وأردف: "كذلك فإن الاقتراب إنما يكون لأداء النصيحة الواجبة، مع تحمل عواقب ذلك الاقتراب في سبيل الله عز وجل، وفيما عدا ذلك فاستفادة السياسيين في تلميع أنفسهم وجرائمهم من خلال العلماء وطلبة العلم والدعاة أعظم من المصالح المرجوة للدين من ذلك الاقتراب".
وردا على من يقول: "إن ترك الحكام والأمرا من غير تواصل معهم ومناصحتهم يؤدي إلى زيادتهم في الغي والضلال" بيَّن سلقيني أن "الاقتراب منهم إذا لم يكن فيه مصلحة للإسلام والمسلمين فالبعد عنهم أولى، وبالتالي فليوغلوا في الغي وليتحملوا عواقب غيهم". على حد قوله.
وذكَّر العلماء والدعاة والوعاظ بأن "الحكام والأمراء ورجال الحكم إن رغبوا في نصحهم، فنصائحهم مبذولة لكل الخلق، ولن يمنعوها عنهم ولا عن غيرهم، لكن لا يجوز للعلماء والدعاة أن يجعلوا من دينهم لعبة يستغلها ويستثمرها السياسيون لمصالحهم ودنياهم فيفسدون عليهم دينهم ودين الناس كذلك".
وشدَّد في ختام كلامه على أن "هذه الشعرة الدقيقة قلَّ من أدركها من العلماء عبر التاريخ، وبالأخص عند فساد الناس وفساد الحكام،وسعي الطرفين لتحقيق مصالحهم الشخصية على حساب الدين" مذكرا بنموذج الإمام العز بن عبد السلام وأمثاله من العلماء ممن حمل لواء الإنصاف، فوجد الحكام وعامة الناس ضالتهم عندهم، وباتوا يبجلونهم ويحترمونهم".