أفكَار

جائحة "كورونا".. مأزق ثلاث أطروحات فكرية في الفهم والعلاج

الشرطة الألمانية تفرق مظاهرات ضد قيود فيروس كورونا  (الأناضول)
الشرطة الألمانية تفرق مظاهرات ضد قيود فيروس كورونا (الأناضول)

ثمة قاعدة معروفة في الإعلام، فالخبر الذي يحتل المساحة، ويأتي كبيرا، يصغر ويتضاءل، وثمة قاعدة أخرى في السياسة، فكل ما يكون ملغزا أو سريا، تنكشف حقائه مع الزمن، إما من خلال مذكرات يبوح فيها صانعو الحدث، أو من خلال تناقض مصالح صانعي الحدث.

في مثال جائحة كورونا، لم يعرف العالم جدلا وتباينا في الموقف مثلما عرفه الموقف من هذا الفيروس: مصدره، وطريقة انتشاره، ووسائل الوقاية منه، فضلا عن اللقاح الذي سيضع حدا له.

لا نريد في هذه الإسهام التحليلي، أن نستعيد النقاش الذي شارك فيه فلاسفة وعلماء اجتماع وعلماء سياسة، فضلا عن أطباء ومختصين في علم الفيروسات ومفكرين واقتصاديين، فذلك نقاش مشروط بلحظته الزمنية، بكل ما يكتنفها من غموض والتباس، إنما يقصد هذا الإسهام، أن يتتبع التماسك النظري لثلاث أطروحات حاولت كل منها أن تصوغ رؤية الناس بإزاء هذه الجائحة.

مأزق أطروحة التحدي الوبائي الجديد

هذه هي أضخم أطروحة تم الدفع بها لخلق اليقين لدى الناس بوجود خطر حقيقي وجدي يهدد صحتهم، وأن خطورته لا تستمد من التحدي الذي يشكله فيروس كورونا على صحة المصاب، وإنما يكمن في وتيرة العدوى التي من شأنها إرباك النظام الصحي، وخلق عجز واسع في العرض، لا يستطيع أن يواكب عدد المصابين، مما سينتج عنه ارتفاع حالات الوفاة.

اكتسبت هذه الأطروحة في البدء كل عناصر تماسكها، من خلال تكثيف معطيات علمية حول الفيروس ومصدره، وطرق انتشاره، وسبل الوقاية منه، إلى الدرجة التي خلقت حالة رعب ورهاب نفسي في المجتمع العالمي بإزاء الفيروس، واستطاعت هذه الأطروحة في البداية أن تفرض نفسها حتى على المنطق الإنتاجي الصناعي، من خلال الإقناع بأولوية صحة الإنسان على ما سواها من الاعتبارات، بما في ذلك دوران عجلة الاقتصاد الذي تقود في النهاية إلى ضمان القوت للإنسان.

المعادلة التي أنتجتها هذه الأطروحة، هي تعميم الحجر الصحي مع إبقاء على حركية الاقتصاد في حدود تأمين المعاش الضروري، وتضييق مساحة الحريات إلى الحدود، وخلق حالات طوارئ صحية في العالم، ألزمت الإنسان بالعودة إلى الأسرة والتصالح مع حميميته ونسيان جزء كبير من حقوقه التي انتزعتها السلطة.
 
لم تستطع عناصر هذه الأطروحة أن تعيش طويلا، فسرعان ما تفجر اعتباران اثنان، دفعا بها لنوع من التكيف، أولهما، عجز الدولة عن تأمين معاش الإنسان في ظل توقف حركة الاقتصاد، وثانيها تضييق مساحة الحرية وشعور الإنسان الفرد بالاختناق.

أنتجت هذه الأطروحة جوابا متكيفا متنوعا بحسب السياقات، لكن ما ينظمها جميعا، هو فتح هامش لحركية الاقتصاد وحرية الإنسان، محكوم بضوابط قانونية ترعى التدابير الاحترازية الصحية، وفي الوقت ذاته ممارسة قدر كبير من الضغط على المختبرات الطبية من أجل الإسراع بإنتاج لقاح ينهي هذه المأساة.

ومع أن هذه الأطروحة هي التي صمدت، بل هي التي أسندت من قبل صناع القرار السياسي في كل الدول، إلا أن مأزقها، أنها بدأت علمية، ولم تستطع أن توفر الوضوح والشفافية الكافية التي تشترطها التقاليد العلمية، سواء على مستوى تحديد مكونات اللقاح، أو طريقة صناعته، أو أسلوبه في التفاعل مع جهاز المناعة أو آثاره المفترضة سواء منها على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد. والخطير في الأمر كله، أن اللقاحات التي تم التبشير بها، لم تراع التراتبية العلمية المشترطة للترخيص للقاحات، سواء من حيث اطراد المراحل الثلاث التجريبية، أو العينة المفترضة، أو النشر العلمي التفصيلي للنتائج، فضلا عن تقديم معطيات علمية حاسمة بخصوص السلامة، وما إذا كان الذي سيخضع للتلقيح سيكون آمنا من الإصابة أو محايدا في نقل العدوى للأخرين في حالة إصابته، والأخطر من ذلك كله، أن نسبة فعالية اللقاح، هي الأخرى، باتت لغزا محيرا، لم تستطع هذه الأطروحة، أن تقدم جوابا مقنعا للناس بإزائها، بل ثمة مخاطر أخرى، عبر عنها مختصون في علم المناعة، حذروا من الفترة الفاصلة بين اللقاح الأول والثاني من الإصابة بما أسموه بالإصابات الفُرَصٍية أو الانتهازية. 

بدأنا بهذه الأطروحة لأنها هي الأطروحة السائدة التي تم الركون إليها في الآخر، مع ما يوجد من اعتراضات داخل المجتمعات الديمقراطية، ترفعها بعض الأصوات التي تتمسك بالاختيار الحر للتلقيح من عدمه، فمع الاطمئنان العالمي للجواب الذي قدمته هذه الأطروحة، إلا أن ذلك لا يعني حصول اليقين بمستنداتها ومخرجاتها، فما دامت حركية التلقيح في مراحلها الأولى، وما دامت الصناعة المختبرية عاجزة على المدى القريب على الاستجابة للطب العالمي الكثيف، فإن الإقبال على التلقيح، يوازيه في الآن ذاته تخوف شديد على الصحة الإنسانية، إذ لأول مرة، يدخل العالم في مغامرة التلقيح دون حصول ما يكفي من الضمانات على فعالية اللقاح وضمانه سلامته وعدم تأثيره على صحة الإنسان.

ثمة مآزق جانبية تصاحب هذه الأطروحة يرتبط بعضها بمعايير حصول بعض الدول على اللقاح دون البعض الآخر، ويرتبط بعضها الآخر، بمعايير اختيار هذا اللقاح دون الآخر، لكن، هذه المآزق ليست بنيوية، ولا ترتبط بجائحة كورونا، فالمأزق الأول يجد تفسيره في الإمكانات الاقتصادية للبلدان، وقدرتها على التمويل، فيما المأزق الثاني، مرتبط بالمحاور والتحالفات العالمية، وهما معا ليسا جديدين، لأنهما في نهاية المطاف، يعكسان التباين الموجود في العالم، سواء بالمعيار الاقتصادي، أو بالمعيار السياسي.

مأزق أطروحة التآمر

يمكن الجزم بأن أطروحة التآمر هي الأكثر تماسكا من حيث البناء النظري، فمع تعدد تعبيراتها، إلا أنها استطاعت في البدء أن تخلق جوابا منسجما، حظي بقدر كبير من التداول والتعميم.

لا تشكك هذه الأطروحة في وجود فيرس كورونا، ولا في خطورته على الصحة العمومية، ولكنها تنطلق من كونها صناعة بشرية، تآمرت فيها نخب مالية عالمية، متحكمة في الاقتصاد، تريد أنه تعيد صياغة الاقتصاد العالمي، وتريد في الآن ذاته، أن تتخلص من أكبر أزمة تعانيها الاقتصاديات العالمية، وهي مشكلة التقاعد التي يطرحها كبار السن.

المنطلق العلمي لهذه الأطروحة، أن صناعة الفيروس أمر ممكن مخبريا، وأن العلماء المختصين في علم الفيروسات حذروا بشكل مبكر من إمكانية اندلاع حروب فيروسية، بل منهم من اعتبر أن القرن الحالي، هو قرن حرب الفيروسات بامتياز، وأن توظيف هذه الحرب يمكن أن تخدم أهدافا سياسية واستراتيجية نوعية.

 

يمكن الجزم بأن أطروحة التآمر هي الأكثر تماسكا من حيث البناء النظري، فمع تعدد تعبيراتها، إلا أنها استطاعت في البدء أن تخلق جوابا منسجما، حظي بقدر كبير من التداول والتعميم.

 

لا تتعارض هذه الأطروحة مع سابقتها في موضوع وجود الفيروس، ولا في سبل الوقاية منه، لكنها تختلف معها في موضوع مصدر الفيروس، والغاية منه، وتختلف معها جذريا في موضوع اللقاح، إذ تعتبر هذه الأطروحة، أن أكبر خدعة تعرض لها العالم، هو صناعة رهاب نفسي من الفيروس، بقصد تهييئ العالم، ليكون محور استهلاك عالمي لمنتوج تصنعه لوبيات مالية متحكمة في المختبرات العالمية وتضع يدها في يد النخب المالية التي أدارت جائحة كورونا وصاغت الرأي العالمي بخصوصه لتتحكم في العالم.


تبدو هذه الأطروحة متماسكة في بنائها وحججها، لكن مأزقها في عدم استمرارها في إنتاج الأجوبة المتماسكة المواكبة للتحديات التي أنتجها وباء كورونا، فالوضع العالمي، يؤشر بأن الدول الصناعية الكبرى، هي التي تضرر اقتصادها، وأن ثمة حالة انكماش غير مسبوق في الاقتصادات العالمية، لا يمكن معه الحديث عن انتهاز نخب مالية الفرصة للاغتناء أو التحكم في العالم، فضلا عن القدرة عن صياغة اقتصاد جديد برؤية جديدة ومهن جديدة، فما يشغل العالم اليوم، وبخاصة الصناعي منه، هو البحث عن خيارات الخروج من وناقع الانكماش وتحقيق انتعاشة اقتصادية بعد كورونا.
 
قد يتم الاعتراض على هذا الدفع، بكون الجائحة تسبب في ضياع كم هائل من فرص العمل وتسريح عدد غير مسبوق من العمال، وأن هذا ما كانت تبحث عنه النخب المالية التي كانت محكومة بالتعاقدات القانونية التي تجعل تسريحها للعمال أمرا غير ممكن، والواقع، أن هذا الاعتراض، بقراءة السياق الأوربي والأمريكي، يعارضه، الخوف الشديد من تهديد فرص السلم الاجتماعي، باندلاع احتجاجات لا تستطيع مواجهتها. ففرنسا على سبيل المثال، لم تستطع أن تواجه احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، ولم تستطع أن تهزم عمال شركة السكك الحديدية، مع أن القوانين التي وضعها ماكرون والتي تسبب في هذه الاحتجاجات العارمة، لا تتضمن سوى الإجهاز على بعض المكتسبات المتعلقة بكثرة التعويضات والحوافز التي تحظى بها هذه الفئة.

مأزق هذه الأطروحة، أنها وإن بنت منطقها على افتراض لعبة عالمية، صنعتها نخبة الأقلية المالية المتحكمة في الاقتصاد العالمي، إلا أنها في الأخير انتهت إلى نقيضها، أي في الوقت الذي اعتبرت أن أكبر مستفيد من جائحة كورونا هي هذه القلة، ثبت بدليل الواقع، أن أكبر متضرر من الجائحة هي أكبر الاقتصاديات العالمية، بسبب انكماش الطلب، وعدم الحاجة للعرض من السلع إلا في مواد محدودة، فرضتها مستلزمات التعايش مع كورونا مثل أدوات النظافة والوقاية من المرض وكذا الصناعة الغذائية.

أطروحة توظيف الفيروس في حرب قيادة العالم

يبدو في الظاهر التشابه بين هذه الأطروحة وسابقتها على الأقل في مقولة وجود جهة ما صنعت الفيروس، أو الأقل تتحكم في المعطيات المتعلقة به، وتخفيها على العالم، وتريد أن توظف الجائحة في لعبة السياسة، لتضمن تعديل موازين القوى العالمية لجهتها.

لحد الآن، لم تتبلور بشكل واضح عناصر هذه الأطروحة، ولم يتم تبنيها بشكل جماعي، فالذي سارع إلى تبنيها هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، متهما الصين بإحدى تهمتين: صناعة الفيروس أو إخفاء المعطيات المتعلقة به، لكن الأمر لم يبق محصورا في ترامب، فثمة عدد من الدول، لم يصل خطابها لدرجة إرسال هذا الاتهام، لكنها لا تتردد في أن تتهم الصين بتضليل المجتمع الدولي وإخفاء معلومات عن الفيروس عن المنظمة العالمية للصحة، فالاتهامات التي وجهت للصين، سواء منها التي وصفتها بتضليل العالم أم بإخفاء معطيات علمية عن الفيروس، أم اتهمتها بعدم الشفافية، هي في الجوهر، لا تخرج عن أطروحة ترامب، سوى أنها لا تريد أن تتورط في إنتاج يقين لدى الرأي العام العالمي بوجود صناعية فيروسية تمارسها الصين في لعبة التموقع في موازين القوى العالمية، فمثل هذا اليقين، يزعزع السلم الاجتماعي العالمي، ويخلق أجواء اللااطمئنان في جميع الأوساط، بل ينتج لعنة عارمة على المجتمع السياسي الحكم للعالم، بزعم أن الصحة العمومية أصبحت سلاحا بيد السياسيين يتصرفون فيه كما يشاؤون لخدمة مصالحهم.

تؤسس هذه الأطروحة منطقها وحجتها على مصدر الفيروس (مدينة أوهان) الصينية، وعلى إمكان خروج الفيروس من مختبر مقره بالمدينة ذاتها، بل وتؤسس منطقها الحجاجي، على السرعة التي خرجت منها الصين من الوباء، وكيف تخلصت في بضع شهور من الجائحة، في الوقت التي عرفت انتشارا واسعا في العالم، وبوتيرة جد مطردة، بما في ذلك في الدول التي تتمتع بأنظمة صحية أفضل بكثير من النظام الصحي الصيني.

والحقيقة أن مستندات هذه الأطروحة بعضها منطقي، فالصين لم تقدم معطيات علمية كافية بشأن الفيروس، ولم تنشر في مجلاتها المحكمة دراسات تفصيلية دقيقة عن الفيروس ومصدره والجينوم الذي يميزه وتهديداته للصحة العمومية، لكن الجواب عن هذا الاعتراض، يطرح سؤال خصوصية التعاطي الصيني مع فيروس كورونا، وهل أسلوبها في النشر العلمي متطابق، أم أنها تعاملت مع فيروس كورونا بنحو خاص يتميز عن أسلوبها في التعامل مع موضوعات علمية مشابهة؟

الواقع، أن التقاليد الصينية في البحث العلمي، مختلفة تماما عن التقاليد الأوربية والأمريكية، وكل المشترطات الصارمة التي تطلب في النشر العلمي في الجامعات الأوربية والأمريكية لا تلتزم بها الصين، سواء تعلق الأمر بالدراسات التي جعلت كورنا موضوعا لها أم بغيرها، مما يفيد عدم حجية هذا الاعتراض.

ولذلك، تبقى أزمة هذه الأطروحة مزدوجة، فمن جهة يطرح سؤال السبب الذي سيجعل دولة تريد أن تعدل موازين القوى العالمية لصالحها أن تضحي بشعبها أولا، ومن جهة مقابلة، ما الدافع الذي يجعلها تجتهد لإنتاج لقاح تضعه بين يدي العالم للخروج من المأزق، وهل سعيها في هذه الطريق، كان القصد منه احتكار المعلومة للانفراد بإنتاج لقاح فعال يظهر حاجة العالم اجمع لخدمات الصين والتراجع المقابل عن طلب خدمات الأخرين، أم أن الصين تصرفت مثلها مثل جميع الدول التي شعرت بالتهديد فتحركت مختبراتها العلمية لإيجاد لقاح لهذه الجائحة؟

يكفي لدحض هذه الأطروحة وبيان مأزقها أن عددا من الدول الصناعية، الأوروبية، قدمت طلباتها للصين من أجل الاستفادة من خدمات اللقاح الصيني، سواء ضمن سياسة تنويع العرض اللقاحي لاستيعاب الطلب المتعدد، أم ضمن سياسة البحث عن اللقاح الأقل ضررا من حيث التأثير على الصحوة العمومية.

من سوء الحظ أن الأطروحات الثلاث جميعها لم تستطع أن تبدد القلق العالمي من هذا الفيروس، وأن أكبر تحدي يواجه الإنسانية اليوم، هي أن تفشل الأطروحة السائدة، وتظهر محدودية فعالية اللقاحات في مواجهة الفيروس، فهذا لا قدر الله إذا وقع، فإن اليقين الإنساني في العلم سيتحطم، وسيكون مسرح السياسة أمام أكبر تغيير يمكن أن يشهده العالم.


التعليقات (0)